المسلمة
لئن أجملت هنا ما فصَّلته في النبذة السابقة من حيث إن باحثة البادية «امرأة» في جميع ما كتبت فيحسن بي الآن المجاهرة بأنها إزاء صفاتها الأخرى «مسلمة» قبل كل شيء. وأيُّ مسلمة هي! مسلمة شغوف بدينها، تغار عليه غيرة محبٍّ مدنف يقدس الاسم المحبوب ويرى في كل حرف من حروفه عالم بهاء وعظمة ومجد لا يفنى. إن إسلامها لظاهر في كتاباتها ظهورًا جليًّا، وأقدِّر أنها كانت معروفة بالورع بين أخواتها المسلمات. وقد ذكرت ذلك الآنسة نبوية موسى — التي كانت رفيقتها في المدرسة — في خطبة بعثت بها إلى لجنة التأبين وأُلقيت في الاحتفال المهيب الذي أقامه لها رجال مصر.
إذا ما وقفت على بدعة مستحدثة ورأت أمرًا جديدًا سارعت إلى استجواب نفسها هل في ذلك ما يغاير الأوامر الدينية. وإذا ساد نظام بين القوم واستحكمت روابطه بفعل المران والاستعمال والملاءمة لشروط الزمان والمكان دون أن يكون مقررًا في نصوص الشريعة السمحاء فهي لا تحفل به كثيرًا، حتى إذا ما أرغمت على قبوله قبلت منه أقل مظاهره ابتعادًا عن الفكرة الدينية. ويا وَيْلمِّها عادةً لا تروق لها! إنها تثور ثائر غضبها وتتسلح باسم الدين لمكافحتها، ويا لحدَّة سنان يراعها الذي يصبح في تلك الساعة حربة وخَّازة! قالت منتقدة الذين يعلِّمون بناتهم الرقص والتمثيل.
لا أعلم عند الإفرنجية عادة تساوي «الزار» إلا مخاصرة الرجال في الرقص، وما يتبع تلك العادة من التهتُّك والتصنُّع والميل عن جادَّة الصواب، وما ينشأ عن إباحتها المطلقة بلا قيد ولا وازع، من الضرر البليغ والإخلال بالشرف. وأدهى من ذلك أن ينتشر بينهن مذهب حرية الاعتقاد، وهو مذهب من لا يصدِّق بالله ولا باليوم الآخر، فيزعمن أنهن يجتنبن الرذائل بمحض إرادتهن وتربيتهن. ولكن هل إذا منعت الفضيلة امرأة عن إتيان ما لا يرضي فهل يصح أن تطبق هذه النظرية على كل امرأة؟ إن النفس لأمارة بالسوء، ولقد تُقدِم على كثير من الموبقات لولا الضمير الحي، وهو ثمرة الوازع الديني، أفلا يعقلون؟! أرانا لا نتمسك شديدًا بديننا الحنيف وهذا بدعة وعدوة أتتنا من الغرب. أو كلما رأينا إنسانًا يفعل شيئًا حاكيناه، وإن كان في ذلك خسارة ديننا ودنيانا معًا؟
لست أدري هل كثُر العاملات بهذا الرأي؟ إني شهدت من الهوانم كثيرات ممن أتقنَّ خطوات «البولكا» و«المازركا» و«الفالس» و«الطانجو» يراقصن صاحباتهن في اجتماعاتهن اللطيفات. فأيُّ مانع يمنعهن؟ وأي «عار» على امرأة في مراقصة زوجها أو أخيها في المجالس العائلية، أو مراقصة صديقاتها في اجتماعات نسائية؟ إن فن الرقص — شرقيًّا كان أم غربيًّا — رياضة مفيدة للصحة إذا استُعمل باعتدال، فضلًا عن إنه يمرِّن أعضاء الجسم فيُكسبها لينًا ونشاطًا وخفَّة ويحفظها من النشوفة والتصلُّب، كما أنه درس نافع جدًّا لتحديد الحركة وتسهيل انسجامها، وهو أفضل مقياس لها. ويجوز مثل هذا القول في التمثيل. إني عرفت سيداتٍ مثلن في اجتماعات نسائية وسهرات عائلية، لم أرهن رأي العين ولكن قلن لي إنهن يفعلن. ومنهن واحدة تُعجب بالباحثة إعجابًا شديدًا، بل هي من أعز صديقاتها اللاتي يحببنها حبًّا جمًّا، وقد اجتمعت بها للمرة الأولى في صالون باحثة البادية نفسها. زرت هذه السيدة منذ عامين أو ثلاثة وأخذنا نتحدث عن بعض الروايات التمثيلية، فذكرت روايةً مُثنيةً على حسن تأليفها وبراعة تنسيقها، ثم قالت: «لقد تقاسمنا أدوارها في الأسبوع الماضي، ونحن منهمكات في هذه الأيام بدرسها؛ لأننا سنمثلها أنا وصديقاتي أمام طائفة من معارفنا وزائراتنا.» كانت الباحثة في الفيوم يومئذٍ إلا أنها كانت تراسل صديقتها هذه كل أسبوع تقريبًا، ولا أدري هل علمت بما كان يشغل صاحباتها مما أنكرت إتيانه بالحدَّة التي تعلم!
أما مسألة «الشرف» فيصعب حلها جدًّا؛ لأنها من الكلمات التي يستعملها البشر غالبًا في غير محلها، ولها رنين يقرع السمع كالأجراس، ولكنها في الحقيقة أمر نسبي، كجميع المعاني البشرية. الشرف في اعتقادي أسمى وأنقى كثيرًا من أن يتلوث بالغبار الذي تثيره خطوات «الفالس»، بل هو أرقُّ لطفًا وأصفى جوهرًا من أن تدانيه يد الإنسان. على أني أفهم أن الباحثة لم تقصد الرقص على الإطلاق؛ لأنها لم تذكر الرقص الشرقي، بل هي عنت مراقصة الرجال للنساء على الطريقة الإفرنجية.
والآن أشعر بأني جالبة على نفسي حكمًا شديدًا من أبناء الطرز الحديث لما أنا مجاهرة به. إنهم ينحنون أمام المرأة المحجوبة ولكنهم لن يكونوا لي من الراحمين. أنا فتاة سافرة تسري عليَّ عادات مجتمع هو أقرب إلى «التفرنج» منه إلى أي نزعة أخرى. وقد تعلمت الرقص واشتركت مع قومي في السهرات الراقصات ولم أرَ فيها شيئًا يصح أن يسمى «إخلالًا بالشرف» ولكني … ها قد وصلت إلى الخطوة الرهيبة … ولكني لا أريد للمرأة اختلاطًا كبيرًا بالغرباء، وأكاد أقول إني لا أستحسن مراقصة الرجال للنساء.
أما الآن وقد فُهت بهذا الإلحاد الاجتماعي الهائل فقد «نمَّرني» أهل العصر وحشروني في فصيلة المتقهقرين والرجعيين. اللهم لك الحمد والشكر على كل حال!
يرى أكثر عقلاء الأمة ألَّا بد للخطيبين من الاجتماع والتكلم قبل الزواج، وهو رأي سديد لم يكن النبي ﷺ والصحابة يعملون غيره.
وقد قالت بتعليم المرأة أصول الدين مرة بعد مرة، فصرَّحت بمطالبها في الخطبة الأولى التي ألقتها في نادي حزب الأمة ثم جعلتها أساسًا لاقتراحات قدمتها إلى المؤتمر الإسلامي المصري، وخلاصتها وجوب تعليم البنات «تعاليم القرآن والسنة الصحيحة»، وأن يباح للنساء الذهاب إلى المسجد لسماع الوعظ والخطب والإرشادات الدينية وحضور ما يقام من الصلوات والاحتفالات كنساء الأديان الأخرى من مسيحية ويهودية. وكان لهذه الاقتراحات صدى استحسان عند الجميع حتى عند أرقى المسلمين فكرًا وأوفرهم علمًا. فكتب الأستاذ لطفي السيد بك في مقدمة «النسائيات» مستصوبًا مؤيدًا فقال: «ولو صح نظري لكانت قاعدة بحثها في تحرير المرأة قاعدة الاعتدال ورائدها في ذلك الشرع الإسلامي.» إلى أن قال: «وقصارى القول إن باحثة البادية قد أجادت كل الإجادة في أن جعلت أساس بحثها تقرير المساواة لا على جهة الإطلاق بل في حدود الاعتدال والدين.»
ووردت الأبيات التالية في ردِّها على قصيدة شوقي بك المشهورة:
حسبنا شهادةً لمدارس الحكومة أنها أنجبت باحثة البادية ومن حذونَ حذوها. أما المدارس الأهلية التي قالت فيها الباحثة ما قالت فأنا لا أعرفها إلا بالاسم، فلا يمكنني تولِّي الدفاع عنها. ولكني أعرف بعض مدارس الراهبات حق المعرفة، وإني لأجاهر بأن انتقاد الباحثة لا ينطبق عليها. وقد تكون الباحثة عثرت صدفةً على فتيات «تخرجن في مدارس الراهبات وهن لا يعرفن إلا العزف على البيانو والرطانة ولسن من العلم والتهذيب في شيء، وهن على جهلهن هذا شامخات بأنفهن نحو السماء فيقضين وقتهن بين حديث خرافة وخروج في الشوارع وهنَّ على العموم أكثر النساء إسرافًا وتبذيرًا فضلًا عن البهرجة وقلة الحياء»، وكنَّ سببًا في تكوين حكمها هذا الشديد. ولكن إذا وُجد مثل هؤلاء بين خريجات مدارس الراهبات فلا تعدم أضرابهن المدارس الأخرى، ويوجد مثلهن بين اللائي لم يتخرجن إلا في منازل آبائهن على يد أمهر الأساتذة وأفضل المؤدبين. كذلك أنجبت مدارس الراهبات نساءً كنَّ سعادة ذويهن ونور محيطهن، كما أنه قد يُرى من أفضل النساء في طائفة لم تتلقن العلم إلا من ذكائها الفطري ولم تتناول قواعد التهذيب إلا من الوجدان السليم.
إن تأثير المدرسة وتأثير الوسط عظيم جدًّا ولكنه ليس له القدرة المطلقة. والأهمية الكبرى إنما هي في قابلية التلميذ واستعداده. لقد قال أرسطو مرة: «إن عقل الطفل كالشمع اللين يكيِّفُه المعلم كيفما أراد.» فاقتبس هذه النظرية قوم من علماء الأخلاق وجعلوها أساسًا لتعاليمهم، لكن ما أكثر الذين قاموا يناقشونهم ويدحضون أقوالهم من المعارضين! ومن البديهي أن المدرسة لو كانت ذات فعل مطلق شامل متماثل لما رأينا الفروق الكبيرة بين طلبة المعهد الواحد والاختلاف الجوهري بين تلامذة الفرقة الواحدة المستقين العلم من أستاذٍ واحد المنفعلين بتأثير مؤدب واحد. ترى لماذا لم تُخرج لنا تلك المدرسة العزيزة وذلك القسم الدراسي المبارك إلا «باحثة البادية» واحدة لا ثانية لها؟
لستُ بمدافعةٍ عن مدارس الراهبات لمجرد الدفاع، ولكني تربيت فيها سنوات أربع فاختبرتها بنفسي، كما أني اختبرتها في غيري من بنات عمي وقريباتي ومعارفي اللاتي تهذَّبن وتعلمن فيها. لم أجد فيها العيوب المذكورة في «النسائيات»، بل ما يناقضها على خط مستقيم؛ منها الترفع الكثير عن الدنايا، والجري وراء مثلٍ أعلى قلَّما يتراءى في سبل الحياة العادية، ورفع النفس إلى ما وراء المرئيات، والإكثار من الصلاة والتطرُّف في العبادة مما يؤهل الفتاة لاعتناق الحياة الرهبانية فتظل مدة بعد رجوعها إلى البيت حائرة في دوائر الهيئة الاجتماعية، غريبة بين هؤلاء البشر الذين يجهلونها ولا تفهمهم. وعلى رغم تلك العيوب ما زال الآباء يتهافتون على هذه المدارس، ورجال من أفضل المصريين حصافة وأوسعهم علمًا يأتمنونها على بناتهم واثقين بأن نوع التربية الذي ينلنه بين تلك الجدران الصامتة لهو من خير الأساليب التهذيبية.
أما النقص الشائن في إهمال تدريس التاريخ الإسلامي والتواريخ الشرقية الأخرى وإتقان اللغة العربية فإن اللوم فيه عائد على الأهل؛ إذ أي شيء يمنعهم عن تعليم ما يريدون لبناتهم بعد خروجهنَّ من المدرسة؟! وذلك يسهُل عليهن يومئذٍ لأنهن يدرسن مختارات لا مرغمات، فيجدن لذَّة تخلو منها أكثر الدروس المدرسية الجبرية، ويقفن على كثير في وقت قليل. إن الأجانب يهبطون ديارنا لترويج لغتهم ونشر علومهم وتاريخهم. وفي معرفتنا للغاتهم وآدابهم وتاريخهم وعلومهم سلاح في يدنا وقوة نجاهد بها في ميدان المسابقة المفتوح لنا ولهم، وهم فيه غالبًا — غالبًا فقط! — فائزون. وهل يكتفي المرء في هذا العصر بكونه حافظًا لتاريخ الشرق مستظهرًا متون سيبويه وحواشي الصبان إن لم يكن له إلمام بمعارف الغير مع إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل؟ إن ناموس تنازع البقاء ليقضي علينا بذلك، وإن أحكامه لنافذة سواء شئنا أم لم نشأ. فإن لم نَسِرْ بحكمة مع النظام سرنا جهلًا ضده. ومن ذا الذي يستطيع معاندة ما لا يعانَد ومغالبة ما لا يغالَب؟! فإن لم نجرِ مع دولاب الحياة انقلب علينا فكنا فريسته المنسحقة تحته.
لندرسنَّ علوم الأجانب من جهة ولندرسنَّ تواريخنا من جهة أخرى نكن جامعين بين المعرفتين أقوياء بالقوتين. ومن لم يكن مهتمًّا بشئونه فكيف يتوقع من الغير بأحواله اهتمامًا؟!
•••
سيرى فريق أن باحثة البادية كانت متعصبة، ذلك مما لا ريب فيه، وكيف ينتظر أن تكون غير متعصبة؟! أليست بشرًا؟! أَوليس التعصب من أشد العواطف ملاصقة للنفس؟! حدِّثوني عن تسامح من لم يكن متعصبًا لأضحك قليلًا! مَن هذا الشخص؟ ومن أي مذَنَّبٍ مجهول في فيافي الفضاء قد هبط علينا؟ العالِم في مكتبه، والمحسن في كرمه، والشاعر في عزلته، والفيلسوف في تأملاته، كلٌّ من هؤلاء متعصب تعصبًا يتفاقم شره كلما كان خفيًّا تحت مظاهر الحلم والتساهل.
وإني لأرى استعمال المفرد في التعصب سخيفًا، بل هناك تعصبات يجوز عليها جمع الجمع وجموع الجموع إلى ما لا نهاية له. فالتعصب الجنسي والقومي والعلمي والفلسفي والأدبي والاجتماعي والحزبي والفردي، وتعصبات أخرى لا أسماء لها تسير موكبًا هائلًا سرِّيًّا لا يبرز فيه إلا التعصب الذي ننعته بالديني. قال قائل: إن التاريخ سلسلة حروب، وإن الشعب الذي لا حروب له لا تاريخ له. ولو قلنا إن الحروب إجمالًا وتفصيلًا ليست إلا حكاية تعصب البشر لكنَّا معبرين عن الفكرة نفسها بكلمات هنَّ أقرب إلى معنى الصدق.
كثيرًا ما أسائل نفسي: تُرى هل يهدأ يومًا ثائرُ العواطف المتطرفة وتتوازن قوى الإنصاف فيرتفع المرء بإدراكه إلى أفق يشرف منه على جميع النزعات الإنسانية؟ تُرى هل يفطن البشر يومًا أن كلًّا من الميول وكلًّا من الأديان ينطبق دون غيره على مطالب فئة واحتياجاتهم، فلا تطمئن منهم النفوس إلا بالتمشي مع نصوصها؟ لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، فمتى يذكرون؟ وما يسمونه عند الآخرين تعصبًا يدعى عندهم غيرة قومية ونخوة وحميَّة، فمتى يذعنون؟ ومتى يقولون مع الشاعر: