الكاتبة
وما حاجتي إلى الكلام عنها كاتبةً؟! إننا لو ضربنا صفحًا عن شهادة من شهد لها بالمقدرة الكتابية مكتفين بما ورد من أقوالها في الفصول الماضية، لأثبتنا على الورق ما قد سبق وقرره حكمنا الصامت، وهو أنها كاتبة كبيرة. يطلق الناس عادة اسم «الكاتب الكبير» على من كتب كثيرًا، وهم في ذلك مخطئون؛ إن من حملة الأقلام من له مؤلفات عديدة وهو ليس بالكاتب الكبير حتى ولا بالصغير، لأنه ليس كاتبا على الإطلاق. إنه ينقصه ما يسميه الإفرنج «قماش الكاتب» أي السر الذي يقود الفكر إلى اختيار الألفاظ الصائبة، ويعلِّم اليد صياغة الجملة الملائمة، وينقصه خصوصًا ذلك اللهيب الخفي الذي ينشر بين السطور أشباح النور والظلام.
ما هي الكلمة؟
والكلمة التي تعيِّن الحركة والإشارة والصوت واللون والانفعال، الكلمة التي تعني أمرًا دون آخر وتوقظ عاطفة دون غيرها، ما هي وما هو سر انتخابها؟ الأبجدية لجميع البشر، والناس لا يتفاهمون عادة إلا بالكلام، فما هي تلك القدرة المعطاة للبعض ليرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها، والشفاه وحدود ثناياها، والآفاق واتساعها اللانهائي، والليل وعمقه وكواكبه والنفس وعجائب خفاياها؟ كيف تنبض في الألفاظ المجردة الجامدة حياة سريعة متقدة بثورة الشعور وهيجان الغضب وأنين الشكوى ورنين النجاح والظفر؟ لماذا تهتز الألفاظ تارة كالأوتار، وتولول طورًا كأمواج البحر العجاج، وتهمس حينًا همسًا عجيبًا كأنما هو منطلق من سحيق الذراري ومبهم الآمال القصوى؟
إن للإفصاح عن الفكر أساليب جمة، ولكن لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد. وهو الذي يتفق مع ذاتيته. كلنا عالِمٌ ذلك. وكلنا باحث عن الطريقة التي … فأجارك الله يا أيها الباحث من الطريقة التي … إنك لتهوي قبل الوصول إليها في دركات التصنع والتكلف والتعمُّل، وتتيه في فيافي الخلو والتقعُّر والجفاف. وإذا حاولت النهوض من الدركات أو العودة من الفيافي تعثرت قدماك وقلمك بذيول الزوائد والحواشي الجاهزة بين المتداولات كالحلوى على أطباق حلواني العيد. أو داهمك مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئك الشقيُّ بأنه حُكم عليه بسفِّ التِّبن لجريمة مجهولة منه ومن البشر أجمعين.
إن أفلاطون الذي اشتهر ببلاغته اشتهاره بفلسفته ظل ينسخ كتابه «الجمهورية» إلى عمر الثمانين ليزيده تحسينًا وإصلاحًا. ذلك لأن الكتابة التي يراها الكثيرون مسألة هينة أكثر الفنون دقة وعسرًا. ولا أظن اكتشاف القطب أصعب على الرحالة من اكتشاف الأسلوب (هذا القطب الآخر) على الكاتب الذي عنده شيء يقوله لأن نفسه تفيض به وتحثه على إعلانه. كلمات النفس حركات خفيفة لطيفة. فكيف يتيسر نقل هذه الخفة واللطافة بالكلمات البشرية الكثيفة؟ وكيف تتبع أداة القلم خطوات النفس الوثابة الكثيرة الأهواء في تموُّجها وتحنِّيها المباغت من الفرح إلى الحزن ومن التحنان المذيب إلى النقمة البركانية؟ إن ذلك لسرٌّ تملَّص من القواعد والنصوص وترفَّع عن أن تلقيه الضمائر إلى الألسنة. وهو كل مقدرة الكاتب أو كل ضعفه.
كذلك فيه الحكمُ بالإعدام أو بالخلود. وهناك معيار للوقوف على مقدرة الكاتب ومعرفة النقطة المتغلبة لديه ودرجة إدراكه للسر المكنون، وهو المقابلة بين ما كتبهُ هو وما كتبه آخرون في الموضوع نفسه.
•••
وما الذي تظنه موجبًا لهذه السطور المنمقة بقلمٍ قديرٍ، كما أنها تنم عن نفس منبسط الأرجاء توزَّع فيها حب الطبيعة وتفهُّم الجمال؟ أتحسبه مشهد شروق أو غروب أو وقفةً على جبل شاهق، أو جوبة بين ضلوع الوادي المخططة بالمياه المتعلمات؟ إنها استهلت النبذة السابقة بهذا المطلع: «بين الزوجين الحضريين من أهل مصر تكلُّف لا يتفق مع ما يريده الله لهما من سكون الواحد إلى صاحبه، ويشذ عن شواهد الطبيعة وآثارها المرسلة إرسالًا من غير تعقيد ولا إبهام. فالسماءُ معقودة على الأفق في مصر … إلخ.»
إذا أرادت انتقاد الكلفة بين الزوجين المصريين ليس غير! وإن ذلك ليذهلني قليلًا. لأن الفكر الذي يبقى ضيق الحدود ما ظل مستقرًّا على الجزئيات ينفتح منه الجناح بانطلاقه إلى الكليات. فيستنسر محلقًا في آفاق بعيدة، ويتسع منه الكيان ممتدًّا في تمدد الكون الذي هو جزء منه. وحينما يصل إلى هذا المقام من النشوة المعنوية ينحسر لثام الظرفية عن صغائر الحياة ويتموج الجزء الحقير غارقًا في الكل العظيم فيبدو للمفكر بوجهٍ آخر ومعنًى جديد عميق. ولكن باحثة البادية بعد هذه الطيرة الفكرية تهبط إلى ضرب مثلٍ عن أحد ملوك الصين لتثبت قبح التكلف وحلاوة البساطة، ولتنتقد المرأة التي تقول لزوجها «يا سيدي» أو «يا بك» فيناديها هو بقوله «يا هانم!»
ترى ألم تكتب النبذة الأولى في يوم ثم عادت فألحقت بها ما يليها في يوم آخر؟
•••
«اللانهاية في الفضاء»! في المدن مجد النشاط وجلال العمران، ولكنَّ عين المفكر في حاجة إلى تسريح النظر في المدى الواسع كأنما هي تبحث في أبعاده المتراميات عن حلِّ ما غمض عليها من مشاكل الحياة، أو كأن القلب الحزين يستخرج من عصير الألوان الجوية بلسمًا إن لم يكن شافيًا لسآمته ففيه ما يجلب التلطيف والتسكين.
سمعت مرةً فتاةً تقول: «ومَن ليس جميلًا من هنا (مشيرة إلى العينين)؟» وقد كانت مصيبة. إن من جميع أعضاء الجسم وتقاطيع الوجه ليس أكثر من العينين شفوفًا عما يألفه الذهن من الخواطر وما يلتصق بالنفس من رغبات. العين مرآة السريرة، تطل منها جميع الخيالات والأشواق، فإذا عرفت عين امرئ عرفت ما هو إجمالًا وبعض ما طُوي عليه. ولئن كان بعض العيون جميلًا دائمًا فإن جميع العيون جميلة في أوقات معينة، والمعنى النفسي الأقوى تغلبًا على الملكات يُنيل العينين تعبيرها المقيم.
لم يكن في عينَي باحثة البادية ما يدل على أنهما اعتادتا النظر إلى داخل الوجدان، حيث وراء الجراح والدماء والآمال المهشَّمة يلمع بصيص النور الذي لا يخبو، وهو السعادة الحقيقية الوحيدة، لأنه من الروح، وللروح، وفي مأمن من كل شاردةٍ وعادية. إن الباحثة لم تكن على شيء من الروحانية، وكانت تقدِّر الظواهر وتتكئ عليها في أشياء كثيرة، حتى في تدينها. وعلى رغم ذلك فإن إدراك «اللانهاية في الفضاء» كان يتألق أحيانًا في عينيها الباسمتين الكئيبتين، في تينك العينين القاتمتين لونًا ومعنًى؛ لأن الاحتياج العنيف المندمج في مطاوي النفس البشرية، ذاك الاحتياج الدائم إلى قوت أثيري، ليس ليقوم مقامه ما تقدِّمه الأرض من غذاء وعزاء. وأكثر الذين لا تسمح لهم شواغلهم بالشعور بذلك الاحتياج يطلقون عليه اسم «الخيال» وهو في الواقع خيال بالنسبة إليهم. ولكنه بالنسبة إلى الآخرين حقيقة ثمينة قد ائتمن عليها أصفى جواهر الإنسان.
•••
… أوْ تدري. وهذا لا يقلل من جمال البشاشة.
ولو جاز لي تحديد هذا الأسلوب الكتابي لقلت إن له من المزاج العصبي الصفراوي الحرارة التي تكون حينًا حدةً وحينًا نعومةً، ومن الإسلام التنميق والبلاغة، وهو بالجملة مصري أسمر «نغش» جذاب.
•••
ما أوجع هذه الكلمة وأوجع المرارة التي أملتها! لقد فعل الحزن هنا ما يفعله في كل نفس صالحة، فكان اليد المنبهة الخصب الجانية الخيرات. إن لهف أيامٍ ولواعج عمرٍ أنتجت أبحاثًا قليلة ولكنها فريدة من نوعها في الآداب العربية. وسنقف على زبدة هذه الأبحاث في الفصلين المقبلين إذ نعالج الباحثة ناقدةً ومُصلحةً، فنجد ثمة أكثر الآراء تعقلًا ورزانةً. لو لم يكن للحزن من منفعةٍ سوى انتباه ضحيته إلى ضرورة الإصلاح وعثورها على مواطن الضعف والسقام من بيئتها، ولو لم يكن له من منفعة سوى تمزيق حجب الزهو والغرور عن محيا الرصانة والحكمة، لكفى به قوةً تسكب عليها البركات على كر الدهور!
كلا، لم تمضِ أتراحكِ جزافًا، يا روح العزيزة؛ إذ لا يتلاشى شيء في هذا الوجود العظيم، ولا ذهبت منكِ القدرة ضياعًا؛ لأن الحياة والموت ألعوبتان في يد النظام المطلق: نظام التحول الشامل، وما كان قومك بذلك التحول فيك إلا القوم الرابحين!