الناقدة
أليس النقد من تلكم الملكات الفطرية المتسلسلة أدوارها في الطفل وفي الرجل على نمط واحد؟ فتكون في دورها الأول نظرًا بسيطًا يعقبه انتباه إيجابي أو سلبي؛ أي الانتباه لوجود شيء أو لعدم وجوده. ثم يجيء دور المقابلة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. حتى إذا اكتمل فعل التمييز والمقابلة، وحكم الذوق بأفضلية أحد الوجهين وأنقصية الآخر، كان ذلك الحكم ما نسميه نقدًا.
كان الجمهور بالأمس يتخيل وجود نصوص ثابتة مترفعة عن التحوير هي سلاح الناقد، فردًا كان أو أقلية قادرة. فإذا أثبت الناقد أو نفى احتضنت رأيه الأكثرية بلا تمحيص ولا ارتياب في أنها ماثلة أمام الحقيقة بعينها. ويا لهول روعة تجمد المفكر إزاء ما قاساه الأنام من جراء هذا الاعتقاد الفاسد والاستسلام الذليل! وفي ماضٍ ما أكثر ما أورث الحاضر من الحفائظ والضغائن! أما الآن فالرأي العام — كالرأي الخاص — لا ينقاد إلا إلى من شاء الانقياد إليهم، حافظًا لنفسه حرية النقض والتأييد والمناقشة. والحقيقة أن عصرنا عصر انتقاد بلا نقَدة؛ لأن النقد أصبح جزءًا مدركًا من شخصية كل فرد، وانحصاره في أفراد دون غيرهم ينافي الروح النقدية وينافي الواقع؛ إذ أي الناس لا يحب أشياء ويكره أشياء؟
على أن للنقد شرطين اثنين لا بد منهما ليكون صائبًا مفيدًا.
الشرط الأول: أن يكون قوة فطرية مكتملة لا جزئية، والشرط الثاني: أن يكون الاطلاع والملاحظة والاختبار قد أوسعته تهذيبًا وتصفية. والشرطان لازمان متماسكان، إلا أن الملكة الفطرية أكثر ضرورة؛ لأن وجودها يقبل المزيد والاتساع. وإن لم توجد فجميع المطالعات والأسفار والاختبارات تعمل في محق القليل الذي أفلت من أصابع الطبيعة، وهي تقذف إلى الحياة بمن لم تشأ أن تجعله من أهل الذوق.
اللهم إن أسباب التفضيل عند الأهل كثير. منها أن الفتاة تأخذ نصيبها من ثروة أسرتها وتعطيها لرجل غريب، بعكس الفتى الذي يزيده ثروة أبويه بزواجه وبأرباحه جميعًا. أما المقامرة، والسياحات، والمضاربة وجميع أساليب التبذير التي يبتكرها الولد ليلتهم ثروة الوالد الكئيب فلا حساب لها ولا بأس بها، أليس أنه رجل؟ لقد امتدت يد النساء الآن إلى كثير من أنواع العمل مدفوعة بالحاجة ووجوب إعالة من لا معين لهم وضرورة إشغال الأيام بفكرة جدية، ومنهن من أثرين كأعاظم الماليين وكان نجاحهن حسن العائدة على ذويهن. ولكن ما العمل؟! إنهن نساء! وربما كان سبب التفضيل الأكبر من تلك الأسباب الغامضة التي تذوب حيالها متبلورات المنطق الثابت. كل أعمال الرجل حسنات ما دام «رجلًا» وكل الذنوب جائزة تُغفر له «لأنه رجل»!
•••
إن عدم حرية الفتاة في اختيار الثوب الذي تلبسه لا يرجع إلى ازدراء الأبوين بها، بل إلى نقص في تربيتهما الأصلية وعدم إدراكهما وجوب تربية الصغار على الاستقلال في الاختيار والاعتماد على النفس. الشرقيون — كبعض الشعوب اللاتينية — متأخرون جدًّا في هذه الطريق التي قطعت منها الشعوب الأنجلوسكسونية شوطًا بعيدًا. إن هذه تثقف الأولاد على التمييز والاختيار فيشبُّون أحرارًا يعرفون ماذا يريدون ولأي سبب يريدونه. فكم من أمٍّ إنجليزية وأمريكية رأيتها مع طفل لها أو طفلة تبتاع لهما في المخازن أثوابًا أو أدوات مدرسية أو لعبًا يلتهيان بها، وتخيِّرهما في الانتخاب ضمن ما شاءت هي من حدود اقتصادية. وما أبهج مرأى الصغير ناظرًا إلى تلك الحوائج يقابل بينها مناقشًا نفسه، حتى إذا قرَّ رأيه على أحدها سألته أمه سبب اختيارها وأبانت له منها العيوب والحسنات بألفاظٍ مختصرة وحجة مفحمة وتأدب تام كأنما هي لا تحادث طفلًا هو ابنها، بل تحادث رجلًا غريبًا عنها.
وما أجمل دوائر التيقظ تتسع قليلًا قليلًا في عيني الصغير! وما أعظم الفرق بين هذه الأم الرشيدة والأم الشرقية الفظَّة التي رأيتها البارحة تشد بذراع صغيرها قائلةً بصوت أجشَّ وعبوسة قبيحة: «امش يا ابن الكلب»! سيكبر هذا الولد واثقًا من أن أباه كلب، وأمه امرأة كلب، يعني كلبة، وأن وسطه جحيم أسود لا متسع فيه لغير الضنى والمحن! كيف تستلم تلك اليد الخشنة نفس الطفل الطريئة، وإذا عاملته على هذه الصورة حين لا ذنب له سوى أن ذكاءه المتنبه ونفسه الطُّلَعة وقفت تستعرض بضائع نُشرت في نوافذ الحانوت طالبةً التفهم والمعرفة، فماذا تفعل به ساعة يجني إثمًا ساهيًا أو متعمدًا؟ وهل يستطيع هذا أن يحب أمه ويحترمها كما يحب ذلك الغربي الصغير أمه الصالحة ويحترمها؟ كثيرًا ما ينسى الأبوان أن الاحترام يولد الاحترام والحب يستدعي الحب، وإن معاملة أبنائهم لهما نتيجة لازمة لتصرفهما معهم. فكما أن لهما شخصية مستقلة، وإرادة ترغب في الخبرة، وميولا تريد أن تنمو وتصلح، كذلك — بل أكثر من ذلك — للأبناء المتنبهين رويدًا رويدًا ليقظة الحياة المنبسطة أمامهم بهولها وجلالها. وأي يدٍ تُحسن قيادتهم بين أدغال الحوادث بحكمة وإنصاف وحنان أكثر من تلك التي عينتها الطبيعة لتضمهم وتداعبهم وتهذبهم وتؤاسيهم؟
غريب جدًّا إننا نتعلم جميع الفنون والأعمال قبل ممارستها إلا فن تهذيب النفوس الصغيرة! الفتاة التي ترعرعت على جهل وغرورٍ في منزلٍ هذه حاله، تحت مراقبة أمٍّ هذه درجة إدراكها، إذا صارت ربة بيت واستلمت نفوس الأطفال فكيف تتكفل بحل مشكلة إسعادهم وإعدادهم لحياة ينفعون فيها الغير وينتفعون؟ لا ريب في أن هذا هو الأساس الأول لشقاء العائلة، أساس يقوم عليه سوء التفاهم والمشاجرة المؤدية إلى النفور المحزن بين أعضاء الأسرة الواحدة.
•••
هنا تلمس الباحثة القفل وتفتح باب العائلة على مصراعيه لتجيل بنظرها في كل ما يختفي وراءه. فتبصر الفتاة في ذلك الدور الذي يسبق الخطبة. الخاطب والأهل يبحثون ذاك عما يرغب فيه من ثروةٍ وهؤلاء عما ينشدون من جاهٍ، والفتاة بين هؤلاء الأنانيين المستبدين كألعوبة لا صوت لها في الجماعة. يجب ألَّا ننسى أن فريقًا كبيرًا من البنات لا يهم كلًّا منهن من الزواج إلا زخرف الفرح والطمع بالاستقلال في منزلٍ تصبح سيدته وتتصرف في تنسيقه وإدارته كيفما شاءت، سعيدة بأن لها «مملكة صغيرة» تنفذ فيها إرادتها. ربما كانت فكرة هذه الحرية المتواضعة من أهم المرغبات في الزواج. وقد يكون في هذا الفريق زوجات مخلصات وأمهات صالحات. إلا أن شح السعادة وتزايد الانشقاق في العائلات ينبآن بأن غير المسرورات من زواجهن كثيرات ومعظمهن عائد شقائهن إلى عبث الأهل برغائبهن، وحملهن على قبول من رضين به زوجًا بالترغيب، أو بالتوسل، أو بالإرغام الصريح. وليس هذا التحكم من خصائص الشرق وحده، بل سمعت من أجانب وأجنبيات مختلفي الجنسيات أن هذه حالهم في بلادهم، وقد يكون هنا كذلك العنصر الأنجلوسكسوني أكثر احتسابًا برضى الأولاد من غيره.
لما كنت أدرس الإنجليزية أخذتُ يومًا أتحادث وأستاذي بهذه المسألة الحيوية فأخبرني أنه لما خطب، كانت الفتاة التي انتقاها ضئيلة في عيني أمه؛ لأنها ليست «ذكية ولا جميلة ولا متعلمة ولا غنية» فقالت له «لك أن تبحث عن فتاة حائزة لصفات اجتماعية أكثر من هذه.» أجاب: «صفتها الوحيدة أنها فتاة محبة وهذا يكفيني. أستطيع أن أبحث عمن تفضلها في نظر الغير، ولكنها تحبني وأنا أحبها ولا أريد غير ذلك.» فبعد أن قامت تلك الأم بواجبها نحو ضميرها ومطالبها الشخصية قامت بواجبها نحو ولدها فاحترمت عواطفه وأذعنت.
إني بكلامي عن العائلة عندنا واستبداد الأهل لا أعني الجميع على الإطلاق، بل أعني الأكثرية؛ لأن النفوس النيرة الكبيرة موجودة في كل مكان لا تقيدها الحدود الجغرافية ولا يسطو عليها مناخ الإقليم. حدَّثني نابهٌ من أعاظم المصريين أنه بعد أن اختطب ابنته أحد أبناء العائلات الوجيهة رأت الفتاة خطيبها وهو داخل فلم يعجبها مع أنه كان جميل الطلعة حسن الهندام، وحملت أباها على استرجاع وعده. وبعد مدة وجيزة جاء خاطب آخرٌ يماثل ذلك مقامًا ويقل عنه جمالًا فأرادت أن تراه قبل البت في الأمر فأعجبها لأن «دمه خفيف» وتزوجت منه. وهو من أشهر رجال مصر في هذه الأيام.
- (١)
جهل أحد الزوجين بالآخر.
- (٢)
زواج مختلفي الطباع؛ كعالِمٍ وجاهلة وبالعكس، أو غني وفقيرة، ومختلفي الدين والبلد.
- (٣)
الطمع في الغنى بغير نظر إلى الأخلاق.
- (٤)
الزواج القسري.
- (٥)
تأويل الدين الحنيف على غير ما أريد منه في أحكام الزواج والطلاق.
بعض النساء يهدَّدن بالفراق إذا لم يعطين أزواجهن ما يطلبون ويُذكر لهن الزواج إرهابًا، فأي الأمرين تختار المرأة البائسة؟ المرأة مظلومة دائمًا؛ إذا كانت فقيرة لا يُرغب فيها، وإن كانت وارثة يُطمع في مالها. والوارثة مظلومة أيضًا؛ فإما ألَّا تتزوج لتأمن الطمع والطماعين، وإما أن تتزوج على غير بصيرة كعادتنا.
في الضرِّ ترى جميع أنواع المتاعب للرجل، وأكبر أسباب الغم والتعاسة للمرأة؛ فهو عندها مفرق العائلة وأظلم مشتت لسلامها. قالت: «هو اسم فظيع تكاد أناملي تقف بالقلم عند كتابته» … و«هو اسم فظيع مملوء وحشية وأنانية.» إذا شقيَ الرجل مع زوجته الأولى له أن يتزوج عليها. في هذا الظرف تسمح بالضرِّ وتحرِّمه فيما عداه. «أما إذا كان يعدُّ بقاءها (القديمة) معه منغصًا لحياته أو كان كارهًا لها فليطلقها بتاتًا، فربما يجد مع غيرها راحة وتجد هي كذلك مع غيره» … «الطلاق شقاء وحرية، والضرُّ شقاء وتقييد. ألا إن حزينًا حرًّا خير من حزين أسير!»
•••
أكتب هذا الفصل وبي عاطفتان قويتان: عاطفة الحزن وعاطفة العجز. فالعجز يجعلني قاصرة دون تشخيص هذه العلل الغريبة عنِّي؛ لأني فتاة مسيحية أرى الضرَّ شيئًا وهميًّا لا وجود له في قومي، وقد ألغيت بغيابه جميع صنوف الرزايا اللاحقة به. ومهما تفهمت هذه الأوجاع بقلبي النسائي فإنها تظل عندي خيالية ليس غير. أما عاطفة الحزن فمتأتية من أن العائلة التي وُجدت لتكون مستودع السعادة الطاهرة تصير على قولها مستنقع الحسرات والكوارث والقنوط. وهل يجدي إصلاح المصلحين نفعًا إزاء ناموس الألم النافذ على جميع الكائنات؟! لماذا يعذب الأب ابنه والولد أمه، والغريب الغريب، والحبيب الحبيب؟ من أين تهجم جيوش الألم الدقيقة غير المنظورة مصادمةً أشرف الميول، جارحةً أصفى النوايا، ساحقةً أخلص القلوب؟ ما هذا ما نسميه ألمًا؟ وما هي الغاية منه؟ إذا كان كما يزعم الروحانيون نتيجة ذنوب سابقات، وأننا نكفر اليوم عن آثام الأمس وسنكفر في عمر آتٍ عن آثام هذا العمر، إذا كان ذلك صحيحًا فقد كان يوم بدء أعمار الإنسان فيه تألم هذا مظلومًا؛ لأنه تألم بريئًا. وإذا سلَّمنا بالمعنى الشريف الذي جعله الروحانيون للألم فقالوا إنه النار المطهرة من الفساد والواسطة المثلى للتهذيب والارتقاء، فماذا نفكر إزاء من يتألمون ولا يستفيدون، بل يتقهقرون مجدفين على قوى الطبيعة والألوهية، بل ماذا نقول فيما يقاسيه الحيوان من آلام جسمية دون أن ينتفع به؟ إن الذي تروعه معاني الألم يتقطع قلبه إزاء أوجاع صغار الحيوان، فيرى الألم كما هو شيئًا هائلًا وحكمًا صارمًا تخضع له الموجودات مرغمة مقهورة، وتخترع له البشرية مخففات المعاني لتؤاسي يأسها وتنقص من بلواها. يخاف الناس ويرجون، ويكرهون ويرغبون، وظلام الألم مخيم عليهم أبدًا، فيبحثون عن الأصدقاء والمساعدين والمؤيدين والمحبين ليأمنوا شر ذلك السواد القاسي. ولكن، ولكن! أليس هؤلاء الذين نحبهم ونحتمي في قلوبهم من مكايد الأيام هم الذين يسبكون سيَّال الألم في كئوسنا صرفًا، ويتفننون في التعذيب كأنما الطبيعة ائتمنتهم على أسراره؟
ما هو الألم؟ من أين يأتي؟ وما هي الغاية منه؟ هل يتغلب عليه المصلحون يومًا فتعيش العائلة الجزئية بسلام وتترابط العائلة البشرية الكبرى برباط الأمان؟
أم سنظل أبدًا على ما نحن فيه كأنما الباري جلَّ وعلا ينشئ وراء سماواته عالمًا جديدًا لا يتغذى إلا بعنصر الألم المتجدد مع الثواني في حياة أبناء الأرض؟