المصلحة
قدَّم يومًا أحدُ وزراء روسيا إلى نقولا الأول تقريرًا ضمَّنه اقتراحات توسم فيها خيرًا للإصلاح والارتقاء، فلما انتهى القيصر إلى هذه الكلمة كتب على هامش التقرير: «الارتقاء؟ أي ارتقاء؟ فلتحذف هذه الكلمة من اللغة!»
للأوامر الهمايونية أن تقضي على اسم الارتقاء في معاجم اللغة والتقارير الرسمية، إلا أن المعنى منه يبقى بنجوة عن الإلغاء والتكبيل عاملًا عمله في الأفكار وفي القلوب. أيظن ذوو التيجان والقابضون على أعنَّة الأمم أنهم فائزون في مكافحة القوى الحيوية والقضاء عليها. وما هم فائزون إلا بارتدادهم خاسرين. حظر القيصر على الوزير استعمال كلمة غاب عنه أن يحبس مجراها المندفع في نفوس الرعايا. ولما أن أقبل ذلك التيار الجارف على هاوية البلشفية اندكَّ يهبط فيها من أعالي الملكية المطلقة مكتسحًا معه رفيع العروش ومبطاش الصولجة. ولو سبقت اليد المدبرة ووزعته ترعًا وسواقي تُرضع الحدائق وتروي المروج لما ظل شلالًا عصيًّا يولول مبعثرًا على الصخور. أكان ذلك لروسيا خيرًا أم كان شرًّا؟ سؤال ما زال الجواب عنه دفينًا في صدر المستقبل الجدير دون غيره بإصدار الأحكام التاريخية.
لئن كان النقد فطريًّا في المرء فالإصلاح كذلك. النقد مزيج من كرهٍ وحب: كرهٍ لما يُرغب عنه من موجود، وحب لما يُرغب فيه من مفقود. وهذا المفقود المرغوب فيه هو عنصر الإصلاح بعينه؛ لذلك كان كل نقد إصلاحًا مضمرًا، وكل ناقد مصلحًا محجوبًا. أي شيء يحل بنا لولا الإصلاح؟ إنه إن لم يتبسم لنا بسمة التعليل والتسويف التفَّت حولنا أكفان الجمود وتاقت جوانبنا إلى أخشاب النعوش ومضاجع البلى. إن جمال كل شيء قائم على الرجاء بالتحسن والنمو والتقدم ليصير في الغد أفضل منه اليوم، وما مجد الإنسانية إلا في كونها اليوم أوسع قوة منها البارحة وأشمل إدراكًا. لا أمل بلا إصلاح، وإن لم يكن ثمة أمل فما هو معنى الحياة؟ كلنا عالم بذلك، على أن من الناس من يلحق به من صدمات الأيام ووخز الساعات ما يلفته إلى ما لا يحفل به الآخرون، فيصبح النقد والإصلاح غاية حياته ومحورًا تدور حوله الأفكار منه والأقوال.
أيتها السيدات، أحيِّيكن تحية أخت شاعرةٍ بما تشعرن، يؤلمها ما يؤلم مجموعكن وتجذل بما به تجذلن. «ليس اجتماعنا اليوم لمجرد التعارف أو لعرض مختلف الأزياء ومستحسن الزينات، وإنما هو اجتماع جدِّيٌّ؛ أقصد به تقرير رأي لنتبعه؛ ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها. فقد عمَّت الشكوى منها وكثرت كذلك شكوانا من الرجال. كلنا متظلمون، وكلنا على حق مما نقول. بيننا وبين الرجال الآن شبه خصومة، وما سببها إلا قلة الوفاق بيننا وبينهم. هم يعزُون هذه الحالة إلى نقصٍ في تربيتنا وعوج في طريقة تعلُّمنا. ونحن نعزوها لغطرستهم وكبريائهم» … «والأوفق أن نسعى للوفاق جهدَنا، ونزيل سوء التفاهم والتحزب؛ لنُحِلَّ بدلهما الثقة والإنصاف، ولنبحث أولًا في نقاط الخلاف.»
إذن فغايتها صريحة، وهي تريد إصلاحًا سريعًا لأن الشقاق بين الجنسين يؤلمها. قد وجدت الوسيلة، فلماذا لا يسير عليها الحائرون؟ إنها كتبت دوامًا كمن يرسل أقواله من على منبر الخطابة، وعندها استحسان لرأيها وإقدام وشجاعة ملازمة دائمًا لجميع المصلحين. كم من الجرأة والثقة بالذات في هذه الجملة: «هو اجتماع جدِّيٌّ أقصد به تقرير رأي لنتبعه ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها»! هذه المرأة تشعر بقلبها، إن لم تقرر بإدراكها، أن المتفوق بين ذويه رسول من لدن الله جاء يحمل إليهم رسالة إنما هي كل غايته في الحياة.
- المادة الأولى: تعليم البنات الدين الصحيح؛ أي تعاليم القرآن والسنة الصحيحة.
- المادة الثانية: تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي، وجعل التعليم الأولي إجباريًّا في كل الطبقات.
- المادة الثالثة: تعليمهن التدبير المنزلي علمًا وعملًا، وقانون الصحة وتربية الأطفال والإسعافات الوقتية في الطب.
- المادة الرابعة: تخصيص عدد من البنات لتعليم الطب بأكمله وفن التعليم حتى يقمن بكفاية النساء في مصر.
- المادة الخامسة: إطلاق الحرية في تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن تريد.
- المادة السادسة: تعويد البنات من صغرهن الصدق والجد في العمل والصبر وغير ذلك من الفضائل.
- المادة السابعة: اتباع الطريقة الشرعية في الخِطبة، فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا بحضور محرم.
- المادة الثامنة: اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج.
- المادة التاسعة: المحافظة على مصلحة الوطن والاستغناء عن الغريب من الأشياء والناس بقدر الإمكان.
- المادة العاشرة: (ليست هذه المادة إلا ملحة مصرية) على إخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا.
- الاقتراح الأول: ذهاب النساء سواء في المدن والقرى لحضور الصلاة وسماع الوعظ في المساجد.
- الاقتراح الثاني: جعل التعليم الأولي إجباريًّا وتكثير المجانية على قدر الإمكان في مدارس البنات الموجودة حاليًّا أو إنشاء غيرها.
- الاقتراح الثالث: تُلزم جميع المدارس أميرية وأهلية بتعليم الدين الإسلامي.
- الاقتراح الرابع: تعيَّن في كل مدرسة للبنات سيدة مسلمة عاقلة تراقبهن كيلا تهملن واجباتهن الدينية ولا يخرجن عن عادة قومهن.
- الاقتراح الخامس: توسيع نطاق مدرسة الممرضات الحاضرة. والأَولى إيجاد مدرسة للطب جديدة لتعليم النساء الصناعة تعليمًا كاملًا بدرجة تساوي درجة الأطباء.
- الاقتراح السادس: تكثير المستشفيات الخيرية والصيدليات للمرضى من الرجال والنساء والأطفال، ويكون في كل مركز من مراكز المديريات وقسم من أقسام المدن واحدة على الأقل.
- الاقتراح السابع: اتخاذ جميع الوسائل لمنع الحيف الواقع على النساء المسلمات، فينبه البوليس بأن يراعي الآداب العمومية في الطرق والاجتماعات وأن يسوق كل مخلٍّ بالآداب إلى القسم.
- الاقتراح الثامن: السعي في تقليل تعدد الزوجات لغير داعٍ ماسٍّ بقدر الاستطاعة؛ فإن شقاق النساء واختلاف الأخوة الناشئين من هذه العادة وما يتبع ذلك من الشقاق كل ذلك يدهور الأمة في مهاوي الفناء الأدبي.
- الاقتراح التاسع: تعليم المرأة المصرية كل ما يلزم من الصناعات الضرورية لجنسها كالتفصيل والتطريز والقيام على تربية الأطفال والخدمة حتى لا يحتاج الوطنيات إلى غيرهن من الأجنبيات.
- الاقتراح العاشر: منع النساء من المشي في الجنازات ومن الاجتماع للندب واللطم والصراخ والتعديد بالطريقة القبيحة التي لا وجود لها إلا في مصر.
عفوًا يا سيدتي! إن عندنا مثلها في سوريا …
•••
وفي ما عدا ذلك، هل من معترض على صلاحية اقتراحات الباحثة؟ إني أرى شيئين بارزين من إطار هذا المذهب الصغير: أولًا وجوب فتح أبواب التعليم للمرأة. ثانيًا وجوب انطباق كل إصلاح على التعاليم الإسلامية والعادات القومية. وتعصبها للأمر الثاني جعل أحدهم يقول عنها: «إنه لا ينقصها سوى العِمَّة لتصير شيخًا.» على أني أتفاءل خيرًا بتمسكها بالمصرية والإسلام ليكون المتعنتون أكبر ثقة برأيها، هي التي لا تقبل من الدخيل إلا ما ليس عنه غنًى.
إننا في زمن مطالبه عديدة واحتياجاته شديدة، وللمرأة كغيرها مكان تحت الشمس، وعليها واجبات لا بد من تتميمها نحو نفسها ونحو الآخرين. فإذا قدِّر عليها أن تعول ذويها وهي ليست من أهل الخدمة والخياطة فكيف تحظر عليها فروع العمل الأخرى؟! حتى وإن لم تقدم على الدرس عن حاجة بل عن رغبة بحتة واحتياج إلى المعرفة والنور، ذاك الاحتياج المعذِّب المنبثق من أعماق الكيان، فبأي عدل يحكم عليها بالبقاء في سجن الجهل، وبأي إنصاف تُمنع عن التصرف بما لديها من مشيئة تطلب القوة وذكاء يطلب الغذاء؟! كيف يحجر عليها في حريتها الشخصية البريئة، وهل أوجد الباري هذه الحرية والعدالة جنبًا إلى جنب فكتب على كل منهما: «خصوصية للرجال» و«حقوق التمتع محفوظة للرجال»؟
وعلى ذكر التعليم أود أن أُقحم جملة معترضة وأقول: كم من عِلْم ضروري للبنين والبنات على السواء يهمل بناتًا بينما هم يصرفون الأعوام في تحصيل آخر لا ينتفعون به. نعم إن المرء يستفيد من جميع العلوم إلا أنه بحاجة ماسَّة إلى بعضها دون الآخر، وإني لأضرب مثلًا بواحد منها. كلما طالعت في الصحف أخبار المحاكم والأحكام شعرت بأن علم القانون والوقوف على ما جاز وما حرم من الأعمال، من أهم ما يتلقَّنه أفراد مجتمع منظم يسير تحت نفوذ تشريع واحد. إن المرء يجبههُ القانون في كل خطوة يخطوها وفي كل أمر يأتيه. يرتكب المخالفة والجنحة لاهيًا، وقد يفقد ثروة أو يرتكب جناية على غير علم منه، ويعاقب شديدًا على جرائم لا وجود لها في تقديره ولا هو ينتبه لها إلا حين صدور الأحكام بها. كذلك في أعماله اليومية يحتاج أحيانًا إلى إيضاحات صغيرة في ذاتها إلا أن جهله إياها جسيم النتائج. فيلجأ إلى السماسرة والمحامين وكتاب المحامين والموظفين العديدين — وقد يبتغي إيضاحًا فلا يلقى إلا تعقيدًا، فتتعطل مصالحه وترتبك شئونه، ولا يقف على ما يريد إلا ساعة تنقضي فرصة الاستفادة وتلافي الشر. وكل ذلك أساسه جهل أصول القانون وجهل أساليب التصرف المعينة في أحوال مخصوصة.
وما يقال في الرجل يزاد عليه في المرأة. لا سيما المرأة المسلمة التي يقوم حجابها جدارًا بينها وبين دوائر الأعمال، فيتاجر بجهلها الوكيل والقيِّم والحارس والكاتب ومن نحا نحوهم فيتلاعبون بمصالحها ما شاءت لهم الأطماع تلاعبًا. فإذا كانت المدارس تعنى الآن بتدريس علم الصحة البدنية لأهميته فأحرِ بها أن تدرس مبادئ القانون وهو علم الصحة الاجتماعية. وعلى اللبيب المتيقظ رجلًا كان أو امرأة، أن يدرس ما استطاع منه في وحدته كيلا تصادمه البلية ولاتَ ساعة ندم.
•••
رأي الباحثة في الخطبة والزواج معروف، تقبله الأكثرية المتنورة إن لم يكن عمليًّا فمبدئيًّا. لقد قالت في لائحة خطبتها في نادي حزب الأمة — وفي جميع مقالاتها عن الزواج — باتباع الطريقة الشرعية في الخطبة، فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا بحضور محرم. وقالت في الاقتراح الثامن من اقتراحاتها في المؤتمر الإسلامي بوجوب السعي في تقليل الزوجات. وهما رأيان في منتهى التعقل والصواب. ومما يبشر بالخير أن تعدد الزوجات أصبح نادرًا في الطبقة الراقية، وقلَّ من هؤلاء من يتزوجون بلا اجتماع وتعارف. وانتباه الآباء والفتيات لهذا الأمر والعمل به إنما هو في مصلحة المرأة المصرية كما أنه في مصلحة القومية المصرية، وإلا فما أسهل أن يتزوج الشاب من امرأة أجنبية تُشربه روح وطنيتها فيتزوجها مبصرًا بدلًا من أن يقترن بالمصرية كفيفًا.
وقد ارتأت اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج. تُرى أتعني عادتهن منذ اثنتي عشرة سنة، أم عادتهن المتحركة مع الحياة، المتغيرة بتغيير الأحوال؟ إن المرأة التركية تحركت كثيرًا في هذه الأعوام، وقد كتب بعض مراسلي صحف الفرنجة في الآستانة أنها صارت تسير في الشوارع سافرة بزيٍّ باريسي، كذلك تحركت المرأة المصرية. وكان أن قامت مظاهرات نسائية في إبان الحركة الوطنية في الربيع السابق فلم يعترض الرجال ولم يقابلوا هذه النهضة الجميلة بغير الرضى والإعجاب. ثم كان أن لجنة ملجأ الحرية أعلنت في أواخر نيسان (إبريل) أو أوائل حزيران (يونيو) رغبتها في إقامة سوق خيرية تبيع فيها الفتيات المصريات أزهارًا مساعدة للملجأ، فهبت الصواعق والزلازل في وجه هذا الإعلان واستاء الجمهور استياءً شديدًا.
وأنا قرأت احتجاجاته بتعجب واحترام: التعجب لأن سخط اليوم لا يتفق مع رضى الأمس مع أن أعمال البر لا تنقص عن أعمال الحماسة الوطنية شرفًا اجتماعيًّا، وإن فاقتها شرفًا أخلاقيًّا. أما الاحترام فلأن ذلك الإباء صادر عن طائفة كبيرة من المصريين، وجميع الآراء القومية جديرة بالاحترام لأنها تعرب عن نفسيات الأقوام وعقلياتهم. ولكني عدت على رغم مني أتبين أحوال المرأة التركية. ففضلًا عن أنها اشتغلت في مصالح التليفون والبريد والتلغراف وغيرها فإن الحركة لم تقتصر على طالبات المعاش؛ إذ إن السلطانة حرم السلطان محمد الخامس ذهبت إلى إحدى مدارس البنات في الآستانة لتتصدر حفلة ختام الدراسة الثانوية، ووزعت بيدها الجوائز على المبرزات من الطالبات. ولما زار الإمبراطور شارل الهبسيوري الآستانة وذهب لمقابلة الحضرة السلطانية حضرت الحرم السلطاني تلك الزيارة الرسمية في قاعة التشريفات من وراء الحجاب. قد يقال إن هذا ليس سفورًا بحتًا. صحيح، ولكنه يشبه المقدمة، ولم يسبق له مثيل — على ما أعلم — في تاريخ سلاطين بني عثمان. وإذا قيل: إنْ هذه إلا أخبارًا طيَّرتها البروق في ذلك الحين ولا يسهل التثبُّت من صحتها، فماذا نقول في السوق الخيرية التي أقامتها في الآستانة جمعية نسائية قبل نشوب الحرب بشهور قليلة، وقد برزت فيها سيدات وأوانس البيوتات الإسلامية الكبيرة، ونشرت صور بعضهن يومئذٍ مجلة «الأيلوستراسيون» الفرنساوية؟
بعد تناول الشاي تحادثنا في تحرير المرأة والحجاب الذي يحاول بعضهم تمزيقه فقالت: «سيمزق الحجاب عن قريب، ونحن سائرات حتمًا نحو السفور، ولكن أيكون ذلك لخيرنا؟ أنا من القائلين بتحرير المرأة، ولكن علينا ألَّا نحتضن الحرية دفعة واحدة لنأمن شرها. ليس من الممكن أن نخرج من الظلام الحالك إلى النهار الساطع دون أن تبهرنا الأنوار فتتضعضع البصائر ولا نعود نرى الأشياء في مكانها كما هي.»
«قلت مصممة على إبقاء المناقشة في هذا الموضوع: حقًّا إن الأبصار تنبهر في الأوقات الأولى فتخطئ النظر والحكم ثم لا تلبث أن تعود إلى مقدرتها الطبيعية. ففي الاندفاع الأول للتحرير النسائي لا بد من بعض الفوضى ثم تعتدل الشئون وتتبع صراطًا سويًّا.»
أجابت بقوة: «كلا! محجوبات اليوم يجب أن يبقين محجوبات دائمًا. أما بناتنا الصغيرات …»
قلت: «نعم. البنات الصغيرات اللاتي ما زلن جالسات على مقاعد الدراسة ويلبسن البرنيطة الإفرنجية …»
الأمهات! نتوقف عند سماع هذا الاسم أمام كل صلاح وكل فساد، ونتطلع إلى حاملاته حيال كل تربية أخلاقية وكل إصلاح اجتماعي. لئن كانت الجنة تحت أقدام الأمهات فإن الجحيم بين أيديهن، ولهن أن يكن لذويهن ولوطنهن نعيمًا أو جحيمًا، عظمة أو هوانًا. لو أدركت معنى هذه الكلمات التي طال ترديدها كلَّ فتاة، وبذلت مجهودها في إتيان ما في مقدورها، لضمنت للذراري تربية عالية ورفعة مقبلة. لو أدركت كل امرأة أن في قبضتها السعادة والشقاء لعرفت قيمة الواجب وكبرت في عيني نفسها، وفهمت هذا العناء العذب والمجد الخفي الحلو في أن تكون مليكة الأسرة. وإذن لأصبح الشرق شرق العلو والقدرة كما أنه شرق الشمس والقمر. عبثًا يقتحم الرجل منطق الذرى؛ إن لم تكن رفيقته في أفقه المعنوي فإنها تقتل مواهبه بسخافتها وتعذبه بمطالبها، وتسيء تربية أولاده بتربيتها السيئة، وكلما حاول التحليق فوق جبل كانت هي جبلًا معلقًا في عنقه تشد به إلى الهاوية بدلًا من أن تكون بتشجيعها وإعجابها جناحين لنفسه. كلُّ إصلاح وكلُّ نظام جدار لصرح العمران والعائلة، المرأة أساسه. لترتفع الجدران الباذخة المزخرفة ما شاء ذكاء الباني ومجهوده ارتفاعًا، ولكن إذا لم تقم على أساسٍ خالٍ من الضعف، سليم من الشقوق، تمر الرياح فتتداعى وتعصف العاصفة فتنتقضها حجرًا حجرًا.
•••
كلا، لا يتم ذلك في لحظة؛ لأن التربية كالعلم تُكتسب شيئًا فشيئًا، وتظل مكتسبة طول الحياة. والعلم هو العلاقة الوحيدة بين الإنسان وبين الأشياء، والسلك السمباثاوي الجامع بين الفكر الفردي والفكر الكوني، هو اليد القادرة الحاذقة التي تحسر اللثام عن أسرار الحياة، وبه وحده ينتبه المرء لقيمته كفرد وكإنسان. لا ذلَّ إلا في الجهل ولا رفعةَ بدون معرفة. إنما هلاك النوع البشري في سد أبواب الإدراك وحذف إمكانية التعلم والتعليم. ولكن ما زال الإنسان متناولًا من بحار المعرفة والنور فهو سائر إلى الأمام مهما ألبست عليه السبل.
تقول الباحثة: إن التربية من خصائص البيت لا المدرسة، وفي فرنسا اليوم مشروع جديد لنزع الولد من حضن العائلة وهو في السنة السابعة من عمره ليتلقى تربية أخلاقية. أليس هذا المشروع ناتجًا عن ملاحظة عدم كفاءة الأمهات في التربية المطلوبة؟ على أن هناك تربية أخرى هي تربية الذات. وقد ذكرتها المُصلحة تلميحًا حيث قالت: «فقد وجب علينا أن نضاعف مجهوداتنا لإصلاح شأن أنفسنا ثم إصلاح النشء.»
إن الذين يسعدون بتربية متينة في الصغر قليلون في الشرق، ولعلهم ليسوا بالكثير في الغرب، ولكن يكفي أن يكون المرء حساسًا راغبًا في الرقي ليباشر إصلاح نفسه. هو يستطيع ذلك في كل أدوار الحياة وفي أي عمل من الأعمال. ولا يلبث الأمر المستهجن في بادئ الأمر أن ينقلب لذة كبيرة وقوة نامية. وربما كان أكثر الأفراد تأثيرًا في المجتمع أولئك العاكفون على تربية ذواتهم، وهؤلاء يستفيدون من الكتب فائدة مزدوجة.
من اعتقادات الناس عامة أن العلم شيء والأخلاق شيء آخر، وقد يكون هذا ظاهرًا في أحوال كثيرة إلا أنه لاغٍ عند من يتعاطون إصلاح نفوسهم. عندهم يمتزج العلم بالأخلاق وتتوحد المعرفة والتربية فتصير قوة رفيعة. وليس أقرب من العالم إلى الخلق السامي؛ لأن العلم يرينا عظمة الإنسان وجلال الوجود وقدرة الألوهية الشاملة، فيصبح العالم محبًّا ويتوق إلى الصلاح؛ إذ لا شيء يحث على الصلاح والرفعة الأخلاقية كالحب العميق الأكيد.
ألا فلنذكرنَّ ذلك جميعًا! وأنتم أيها الجالسون على مقاعد المدارس فتيانًا وفتيات، المطلون من وراء السطور على غرائب الحياة وخفاياها وممكناتها، أنتم الأمل الذي لم يذوِ بعد، والزهرة النضرة التي لم تلفحها السَّموم، لو ذكرتم أننا في عصر عظيم لكنتم شيوخ حكمة في شبابكم! إننا في عصر لا مثيل له في التاريخ، فلا يُغفر اليومَ للفرد أن يكون ضعيفًا ضئيلًا لأن الأحوال تطلب الطبع الكبير والإرادة القوية ورجال الجد والعمل. فإن لم يعد في نصوص الآباء ما يرضي مطالب الأبناء فما الواجب إلا أكثر خطورة على الذرية الحاضرة.
قد تغلط هذه الذرية في تأويل معاني الارتقاء ولكن عليها أن تتجنب الخطأ بدرس أغلاط من كان لها سابقًا. وقد تلقى فشلًا مثلما لاقى السلف، ولكنها ستجعل اهتمامها مملوءًا بثقة في الفوز والغلبة. وستجتهد على الأقل في فتح طريق الارتقاء للذراري المقبلات. وأي فخر أعظم من فخر من يهيئ السبيل؟! أليست قيمة الباحثة في أنها حفرت خط الإصلاح بدموع الإخلاص وإخلاص الدموع!