الفصل التاسع
قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما (تابع وخاتمة)
قال المقتطف في وصفه حفلة التأبين لقاسم، إنه ورد في خطاب السيد رشيد رضا الكلمات
الآتية:
أخبرني قاسم أمين أنه كان يومًا اطلع على ما كتبه الدوق داركور غافلًا عن حال
النساء بمصر، فآلمه ذلك النقد والتشنيع فاندفع إلى الرد
١ بوجدان الغيرة، وبعد أن شفى غيظه وأرضى غيرته بذلك عاد إلى نفسه وفكَّر
في الأمر فرأى أن كثيرًا من العيوب التي عاب الدوق بها البيوت المصرية صحيح في نفسه
فبعثه ذلك إلى درس هذه المسألة. وانتهى به البحث والتنقيب إلى تصنيف كتاب «تحرير
المرأة».
والواقع أن مَن طالَع الرد على الدوق داركور وعلى كتاب «تحرير المرأة» رأى أن فكر
قاسم
ارتقى واتسع وتسامى في الفترة التي مرت بينهما. وقد عزَّز هذا الكتاب بكتاب «المرأة
الجديدة» ردًّا على معارضيه فجاء كالكتاب الأول، بل أقوى حجة وأوضح دليلًا. فقسمه إلى
حرية
المرأة، والواجب على المرأة لنفسها، والواجب عليها لعائلتها، ثم التربية والحجاب، وخاتمة
ترسم صورة الأفكار في تلك الأيام بالنسبة إلى المرأة. أما الحرية فلا بد من منحها إياها
لأنه لا يظن «أن عقلًا يقبل أن تُعتبر المرأة إنسانًا كامل العقل والحرية من جهة استحقاقها
لعقوبة الشنق إذا قتلت، ثم تُعتبر أنها ناقصة العقل بحيث تُحرم من حريتها في شئون الحياة
العادية.»
٢ فقال:
على أن ما قيل ويقال من أن حرية النساء تعرِّضهن للخروج عن حدود العفة كله كلام
لا أصل له، تبطله التجارب وينبذه العقل؛ إذ التجارب المؤسسة على المشاهدات الصحيحة
تدل على أن حرية النساء تزيد في ملكاتهن الأدبية وتبعث فيهن إحساس الاحترام لأنفسهن
وتحمل الرجال على احترامهن.
٣
ويرى واجب المرأة لنفسها في ترتيب أعمال الإنسان المنقسمة إلى ثلاثة أنواع: الأعمال
التي
يحفظ بها حياته، والأعمال التي تفيد عائلته، والأعمال التي تفيد المجتمع، مقررًا أن هذه
الأعمال من خصائص الرجال والنساء على السواء. ولكنه يضرب صفحًا عن نوع الأعمال الثالث؛
لا
لقصور المرأة وعجزها الظاهر الآن فحسب؛ بل لأنه يرى «أننا لا نزال إلى الآن في احتياج
كبير
إلى رجال يحسنون القيام بالأعمال العمومية.» يسلِّم بأن الفطرة أعدَّت المرأة إلى الهيئة
العائلية ويردد أن «أحسن خدمة تؤديها المرأة إلى الهيئة الاجتماعية هي أن تكون زوجة
ووالدة.» إلا أن هذا لا ينسيه الواقع، وهو أن كثيرات ليس لهن عائل ولا واجبات عائلية،
وأن
عدد هؤلاء اثنان في المائة من مجموع النساء المصريات «فهل من مصلحة للرجال أو لعموم الهيئة
الاجتماعية من أن يعيش هؤلاء النساء ضعيفات جاهلات فقيرات؟» ثم يتبسط في الشرح قائلًا:
يوجد في كل بلد عدد من النساء لم يتزوج وعدد آخر تزوج وانفصل بالطلاق أو بموت
الزوج، ومن النساء من يكون لها زوج ولكنها مضطرة إلى كسب عيشها بسبب شدة فقره أو
عجزه أو كسله عن العمل. ومن النساء عدد غير قليل متزوجات وليس لهن أولاد. كل هؤلاء
النسوة لا يصح الحجر عليهن. «يقول المعترضون إنهم لا يمنعون النساء الفقيرات من
مباشرة أعمال الرجال والاختلاط بهم كما أنهم لا يمنعون المرأة من التعليم إذا كان
لازمًا لكسب عيشها؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات» … «ولا يخفى أن كل نفس حية معرضة
لانتياب الحاجات ونزول الضرورات» … «ولما كان الاطلاع على الغيب أمرًا غير ميسور
للإنسان وجب أن تستعد كل امرأة لهذه الحوادث قبل أن تقع لها.» فإذا تزوجت بعد ذلك
فلا يضرها علمها بل تستفيد منه كثيرًا وتفيد عائلتها، وإن لم تتزوج أو تزوجت ثم
انفصلت عن زوجها لسبب من الأسباب الكثيرة الوقوع أمكنها أن تستخدم معارفها في تحصيل
معاشها بطريقة ترضيها وتكفل راحتها واستقلالها وكرامتها. «يجب أن تربى المرأة على
أن تكون لنفسها لا لأن تكون متاعًا لرجل ربما لا يتفق لها أن تقترن به مدة حياتها.
يجب أن تربى المرأة على أن تدخل في المجتمع وهي ذات كاملة لا مادة يشكلها الرجل
كيفما شاء. يجب أن تربى المرأة على أن تجد أسباب سعادتها وشقاءها في نفسها لا في
غيرها» … «وليس معنى ذلك إلزام كل امرأة بالاشتغال بأعمال الرجال، وإنما معناه أنه
يجب أن تهيأ كل امرأة للعمل عند مساس الحاجة إليه.»
٤
هذه النقطة من الموضوع ينساها كثيرٌ ممن يتعرضون لمعالجة تهذيب المرأة فيجزمون بأن
لا
وجود للمرأة إلا بجانب الرجل. فكيف يحيا ذلك العدد الكبير من النساء الذي لا يعيش للرجل؟
لقد أنصفهن قاسم. ثم تحول إلى الوظيفة المباركة التي سمَّاها واجب المرأة لعائلتها، مفصلًا
كيف أن الناس عادة يسيئون فهم تلك الوظيفة؛ إذ يجعلونها مقصورة على الأمومة الجسدية،
ناسين
أن المرأة الحرة هي التي يكون لها نفوذ عظيم صالح في أسرتها، وأن نفوذ الجاهلة المستعبدة
لا
يتعدى ما يكون «لرئيسة الخدم في البيت»، وكم كان هذا النفوذ سيئ الأثر جالب الهم والغم!
يلوم من كانت هذه حالتها مشفقًا ناسبًا انحطاطها إلى من هو السيد، مرجعًا أمره — كما
فعلت
الباحثة — إلى أصله الحقيقي وهو إهمال الرجل وأنانيته
وبطشه. وما تتعلمه البنات الآن ليس بكافٍ في رأيه لأن:
أكثر ما تعرفه المرأة التي يقال إنها متعلمة هو القراءة والكتابة، وهذه واسطة من
وسائط التعليم وليست غاية ينتهي إليها. وما بقي من معارفها فهي قشور تجمعها الحافظة
في ريعان العمر ثم تنفلت منها واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى شيء.
٥
هو يريد شيئًا أفضل وأبقى من هذه اللوامع الظاهرة التي يعنى الأهل بطلاء شخصية بناتهم
بها
من العزف على آلات الطرب، والغناء، ومبادئ الرسم، والكلام بلغةٍ أو بلغات لا يحسن بها
غير
ثرثرة الاجتماعات وقراءة الروايات، وتظارف الدمى تصنعًا بالصوت والحركة. يريد للمرأة
شخصية
قوية مستقلة، ولا يظنها قادرة على القيام بوظيفتها في العائلة والأمة إلا إذا حازت جانبًا
كبيرًا من المعرفة، وهي الوسيلة الوحيدة التي يرتفع بها «شأن الإنسان من منازل الضعة
والانحطاط إلى مراقي الكرامة والشرف.» وإن لم تكن الأم راقية بمعرفتها وفكرها فكيف تستطيع
تربية ابنها على مثل ذلك؟ قال:
غاب عنا أن الرجل إنما يكون كما هيأته والدته في صغره. «ويظن الجمهور الأعظم من
الناس أن التربية من الهنات الهينات، ولكن من يعرفها حق المعرفة يعلم ألَّا شيء من
الشئون الإنسانية مهما عظم يحتاج إلى علم أوسع ولا نظر أدقَّ ولا عناء أشقَّ مما
تحتاج إليه التربية. أما من جهة العلم فلأنها تحتاج إلى جميع العلوم التي توصل إلى
معرفة قوانين نمو الإنسان الجسماني والروحاني. وأما من جهة المشقة والعناء فلأن
تطبيق هذه القوانين على ما يلائم حال الطفل من يوم ولادته إلى بلوغه سن الرشد يحتاج
إلى صبر ومثابرة في العمل ودقة في الملاحظة والمراقبة قلَّما يحتاج إليها عمل آخر.
لا يؤخذ من ذلك أني أذهب إلى أن كل أم يجب عليها أن تحيط بتلك العلوم الواسعة ولكن
أن جميع الأمهات يجب عليهن أن يعرفن كلياتها، وكلما زاد علم الواحدة منهن بأصول
العلوم وفروعها زادت قوة استعدادها لتربية أولادها» … «وليس تأثير المرأة في
العائلة قاصرًا على تربية الأطفال، بل المشاهد بالعيان أن المرأة تؤثر على جميع من
يعيش حولها من الرجال. فكم من امرأة سهلت على زوجها وسائل النجاح في أعماله، وأعدت
له أسباب الراحة والاطمئنان ليتفرغ لأشغاله!» … «وكم من امرأة طيبت قلب الرجل وقوت
عزيمته في حال اليأس والقنوط! وكم رجل طلب المجد ومعالي الأمور طمعًا في إرضاء
محبوبته فبلغ الغاية مما طلب!»
٦
وأي مصلحة لرجل أعظم من أن يعيش وبجانبه رفيقة تلازمه في الليل والنهار، في
الإقامة والسفر، في الصحة والمرض، في السراء والضراء، رفيقة ذات عقل وأدب، عارفة
بحاجات الحياة كلها، تهتم بكل شيء يمس بمصلحة زوجها ومستقبل أولادها، تدبر ثروته،
وتحافظ على صحته، وتدافع عن شرفه، وتروج أعماله، وتذكره بواجباته، وتنبهه إلى
حقوقه، وتعرف أنها باجتهادها تجدُّ في منفعتها كما تجدُّ في منفعة زوجها وأولادها.
وهل يسعد رجل لا يكون بجانبه امرأة يهبها حياته وتشخص الكمال بصداقتها أمام عينيه،
فيعجب بها ويتمنى رضاها ويتوسل إليها بفاضل الأعمال ويدنو منها بعقائل الصفات
ومكارم الأخلاق، صديقة تزين بيته وتبهج قلبه وتملأ أوقاته وتذيب همومه؟ هذه الحياة
التي لا يشعر الرجال عندنا بشيء منها هي من أعظم الينابيع للأعمال العظيمة.
٧
يا لبلاغته ساعة يصف المرأة المثلى! إنه يتوق إلى أن يلقى فيها زوجة وأمًّا وأختًا
وصديقةً وحبيبةً وإلهةً ومهذبةً جميعًا. وهو جائع عطِش إلى كل ما تكنُّه ذاتها من رحمة
وحنوٍّ وحزم وحب شامل. كم كان أمينًا لخيالها في ذهنه ساعة قال: إنه كلما حاول أن يتصور
السعادة رآها امرأة «حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل.»
•••
في كتاب «تحرير المرأة» الذي هز مصر يومئذٍ هزة عنيفة لم يطلب رفع الحجاب دفعة واحدة،
بل
هناك أقوال صريحة تدل على أنه ليس أقل من الباحثة اعتدالً؛ مثلًا:
إني لا أقصد رفع الحجاب الآن دفعة واحدة والنساء على ما هنَّ عليه اليوم. «وإنما
الذي أميل إليه هو إعداد نفوس البنات في زمن الصبا إلى هذا التغيير. فَيُعَوَّدْن
بالتدريج على الاستقلال ويودَع فيهن الاعتقاد بأن العفة ملكة في النفس لا ثوب يختفي
دونه الجسم. ثم يُعَوَّدْنَ على معاملة الرجال من أقارب وأجانب مع المحافظة على
الحدود الشرعية وأصول الأدب تحت ملاحظة أوليائهن.»
بل يعتقد: «أنه لو استمر تخفيف الحجاب يتقدم بالسرعة التي سار بها إلى الآن — والنفوس
على
ما هي عليه — لعمت البلوى وزاد الفساد انتشارًا» … «وليس الدواء في تغليظ الحجاب لأنه
مستحيل، بل من متممات شئوننا أن نحافظ على هذه الحالة: «حالة الاختلاط بالأجانب وقبول
الصالح من عاداتهم» متقين المضار التي نشأت عنها. والطريقة الناجحة والحجاب المنيع هي
التربية الصالحة.»
«والذي أراه في هذا الموضوع هو أن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشف للنساء، وقد تغالينا
نحن في طلب التحجب» … «وبين هذين الطرفين وسط؛ هو الحجاب الشرعي، وهو الذي أدعو
إليه.»
يمكننا اليوم أن نتخيل بسهولةٍ بأي حدة وغضب قوبلت هذه الدعوة الجسورة، وكيف هبَّ
البعض
يدحضونها ويرمون صاحبها بالكفر. أما هو فقرأ تلك الانتقادات بتمعُّن ورد عليها بحصافة
في
كتاب «المرأة الجديدة» حيث قال:
وعلى أننا بعد أن دققنا النظر في جميع ما قيل أو كُتب في هذا الشأن، لا نزال على
رأينا ولم يزدنا تكرار البحث فيه إلا وثوقًا بصحة ما ذهبنا إليه. «لو لم يكن في
الحجاب من عيب إلا أنه منافٍ للحرية الإنسانية، وأنه صار بالمرأة إلى حيث يستحيل
عليها أن تتمتع بالحقوق التي خولتها لها الشريعة الغراء والقوانين الوضعية، فجعلها
في حكم القاصر لا تستطيع أن تباشر عملًا ما بنفسها مع أن الشرع يعترف لها في تدبير
شئونها المعاشية بكفاءة مساوية لكفاءة الرجل، وجعلها سجينة مع أن القانون يعتبر لها
من الحرية ما يعتبره للرجل — لو لم يكن في الحجاب إلا هذا العيب لكفى وحده في مقته
وفي أن ينفر منه كل طبع غرز فيه الميل إلى احترام الحقوق والشعور بلذة الحرية. ولكن
الضرر الأعظم للحجاب فوق جميع ما سبق هو أنه يحول بين المرأة واستكمال
تربيتها.»
ولعل هذا الرجل سليل الأمير الكردي تسعى أبدًا في مجاري دمه ومطاوي روحه تذكارات
إغارات
جدوده في جبالهم العصية وكل ما استنشقه آباء آبائه من هواء نقي وتمتعوا به من حرية، فما
ذكر
الحجاب والضغط إلا هتف:
أي نفس حساسة ترضى بالمعيشة في قفص مقصوصة الجناح مطأطأة الرأس مغمضة العينين،
وهذا الفضاء الواسع الذي لا نهاية له أمامها والسماء فوقها والنجوم تلعب ببصرها
وأرواح الكون تناجيها وتوحي إليها الآمال والرغائب في فتح كنوز أسرارها؟
وللمعترضين بأن الإطلاق يجلب الضرر يجيب:
أما الإطلاق في نفسه فلا يمكن أن يكون ضارًّا أبدًا متى كان مصحوبًا بتربية
صحيحة؛ لأن التربية الصحيحة تكوِّن أفرادًا أقوياء بأنفسهم يعتمدون على أنفسهم
ويسيرون بأنفسهم، فمن كملت تربيته استقل بنفسه واستغنى عن غيره. ومن نقصت تربيته
احتاج إلى الغير في كل أموره. فالاستقلال في النساء كالاستقلال في الرجال يرفع
الأنفس من الدنايا ويبعدها عن الخسائس؛ لذلك يجب أن يكون هو الغاية التي نطلبها من
تربية النساء.
بيد أنه أدرك أن إصلاح المرأة لا يتم بالتربية وحدها ما لم يتوفر لها وسط يكفل حفظ ما
تكسبه من فائدة معنوية، ولا بد لذلك من كمال نظام العائلة القائم على مسائل مهمة ثلاث،
وهي:
الزواج والطلاق وتعدد الزوجات. وقد جعل أساسًا لكلامه الآية الحكيمة القائلة: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً.
أين «المودة والرحمة»؟ يسائل قاسم نفسه. أمن دواعي المودة أن يرتبط الزوجان برباط
الزواج
قبل أن يتعارفا وقبل أن يميل كلٌّ منهما للآخر؟ أمن دواعي المودة ألَّا يتفاهم العروسان
إلا
بعقول الآباء والجيران والرسل، وأن لا يعلم الواحد من أحوال الآخر إلا ما يسمعه نقلًا
عن
ناقلٍ مغرض أو متهوس؟ وأين تلك «الرحمة» من رجل يتزوج من النساء ما شاء ومتى شاء؟ وأين
الرحمة في قلوبهن وكلٌّ منهن شاعرة بأنها مظلومة وأن زوجها مستبدٌّ طاغٍ؟ أين الرحمة
في قلب
رجل يؤذي امرأة في أرقِّ عواطفها وأعزِّ ما عندها، ويسحق حياتها وسعادتها تحت قدم
أهوائه؟
يقول بضرورة التلاؤم في الأذواق والميول، وأنه لا غنى عن أن يرضى كلٌّ بهيئة صاحبه؛
فلا
يشعر بذلك «النفور» الذي يُبعد بين الأشخاص لمجرد النظر، ويقول بوجوب ائتلاف الملكات
والعقول. ولا يتأتَّى كل ذلك إلا إذا خالط كلٌّ منهما الآخر ولو قليلًا قبل الخطبة، وبهذا
الاجتماع عود إلى «أصول الدين وعوائد المسلمين السابقين، وهو إصلاح يقضي به العقل السليم»
…
«لأن رجال العصر الجديد لا يرضون الارتباط بزوجة لم يروها، وإنما يطلبون صديقة يحبونها
وتحبهم لا خادمة تُستعمل في كل شيء» … «وكل ذي ذوق سليم يرى من الصواب أن يكون للمرأة
في
انتخاب زوجها ما للرجل في انتخاب زوجته؛ فإنه أمر يهمها أكثر مما يهم ذوي قرابتها.»
أما تعدد الزوجات فقد قاومه بشدة مستعينًا في ختام المرأة الجديدة بالتقرير الذي
وضعه
يومئذٍ فضيلة خالد الذكر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية بشأن إصلاح المحاكم الشرعية.
تعدد الزوجات عنده عادة «بربرية» كانت منتشرة عند ظهور الإسلام، ولا محل لها في هذا العصر
الذي تصعد فيه الشعوب درجة الرقي، وأن الفرد إذا ارتقى إلى حد عرف عنده كرامته وكرامة
الزوجة والأولاد، مال إلى الاكتفاء بامرأة واحدة؛ لأن:
في تعدد الزوجات احتقارًا شديدًا للمرأة. «وعلى كل حال فكل امرأة تحترم نفسها
تتألم إذا رأت زوجها ارتبط بامرأة أخرى؛ إذ لا يخلو حالها من أحد أمرين: إما أن
تكون مخلصة في محبتها لزوجها فتلتهب نيران الغيرة في قلبها وتذوق عذابها. وإما
ألَّا تكون كذلك وهي راضية بعشرته بسبب من الأسباب، فهي مع ذلك ترى لنفسها مقامًا
في أهله فإذا ارتبط بأخرى سواها قاست من الألم ما يبعثه إحساسها بأن ذلك المقام
الذي كان باقيًا لها قد انهدم، ولم يعد لها أمل في بقاء شيء من كرامتها عنده» …
«ولا ريب في أن شقاء المرأة بهذه الحال يكون له أثر شديد في نفس الرجل المهذب حتى
يشعر دائمًا بأنه هو السبب في هذا الشقاء. ثم إن الأولاد من أمهات مختلفات ينشئون
بين عواصف الشقاق» … «مثلهم كمثل الممالك الأورباوية تظهر بحالة السلم وهي تأخذ
أهبتها للحرب، حتى إذا حانت الفرصة وثب كلٌّ منها على الآخر فمزق بعضهم بعضًا كما
نشاهده في أغلب العائلات» … «فلا ريبة بعد هذا أن خير ما يعمله الرجل هو انتقاء
زوجة واحدة؛ ذلك أدنى أن يقوم بما فرض عليه الشرع فيوفي زوجته وأولاده حقوقهم من
النفقة والتربية والمحبة، وأقرب إلى الوصول إلى سعادته.»
٨
ولا يجيز التزوج بأكثر من واحدة إلا في حالة الضرورة المطلقة. ومن ثم يصل إلى الطلاق
فيقول بأنه يفضل أن يكون الزواج عقدة لا تنحل إلا بالموت، «ولكن مما يجب مراعاته أن الصبر
على عشرة من لا تمكن معاشرته فوق طاقة البشر.» فيبيح الطلاق حينئذٍ لأنه من المضرات التي
لا
يستغنى عنها، ومنافعه تزيد أضراره على ما يرى. غير أنه يقبحه كما هو شائع مبنيًّا على
اللفظ
المستعمل بسهولة العادة، ولا يقبل به إلا مع النية الحقيقية والإرادة الواضحة برفع قيد
الزواج ووقوع الانفصال. وقد سن للطلاق نظامًا قائلًا إن الحكومة إذا أرادت أن تفعل خيرًا
للأمة فعليها أن تعمل به. وهو:
- المادة الأولى: كل زوج يريد أن يطلق زوجته فعليه أن يحضر أمام القاضي الشرعي أو المأذون
الذي يقيم في دائرة اختصاصه ويخبره بالشقاق الذي بينه وبين زوجته.
- المادة الثانية: يجب على القاضي أو المأذون أن يرشد الزوج إلى ما ورد في الكتاب والسنة
مما يدل على أن الطلاق ممقوت عند الله وينصحه ويبين له تبعة الأمر الذي
سيقدم عليه ويأمره أن يتروى مدة أسبوع.
- المادة الثالثة: إذا أصر الزوج بعد مضي الأسبوع على نية الطلاق فعلى القاضي أو المأذون أن
يبعث حكمًا من أهل الزوج وحكمًا من أهل الزوجة أو عدلين من الأجانب إن لم
يكن لهما أقارب ليصلحا بينهما.
- المادة الرابعة: إذا لم ينجح الحكمان في الإصلاح بين الزوجين فعليهما أن يقدما تقريرًا
للقاضي أو المأذون، وعند ذلك يأذن القاضي أو المأذون للزوج بالطلاق.
- المادة الخامسة: لا يصح الطلاق إلا إذا وقع أمام القاضي أو المأذون وبحضور شاهدين، ولا
يقبل إثباته إلا بوثيقة رسمية.
وليكون إنصافه تامًّا مستوفيًا قال إن اعتبار المرأة لنفسها وحفظ كرامتها يقضيان بمنحها
حق الطلاق، كما للرجل، وإنه ليس من العدل ولا من الإنسانية أن تسلب واسطة التخلص من زوج
شرير أو من ذوي الجرائم، إلى غير ذلك ممن لا يمكن لامرأة سليمة الذوق والخلق أن ترضى
بمساكنته.
معلوم أن هناك ضربًا من الزواج يدعى «زواج العصمة» به تحفظ المرأة عصمتها بيدها فتنطلق
عندما تشاء دون أن تقدم سببًا للمحكمة. ويقال إن عددًا يذكر من أغنياء المصريين يحفظون
عصمة
بناتهم عند الزواج، وأن المرحومة البرنسس نازلي هانم كانت متزوجة على هذه الكيفية.
•••
ينجلي من كل ما سبق إذن أن باحثة البادية وقاسم أمين متفقان في وجوب إصلاح المرأة
وفتح
أبواب التعليم أمامها وجعل التربية متوفرة لها، وعلى أن هذه من خصائص المنزل. كذلك هما
متفقان في وجوب الاجتماع والتعارف قبل الخطبة، وفي حل مشاكل الطلاق وتعدد الزوجات. ولا
يختلفان في مسألة الحجاب إلا قليلًا؛ لأن كلًّا منهما يعترف بخطر إباحته بلا استعداد،
وبضرورة تعويد البنات عليه في الصغر وإعدادهن له مسلحات بالعلم الكافي والتربية المتينة.
هذا في النقط الأساسية، أما من حيث التفاصيل فإن كلًّا لحق فطرته وأثبت نظرته الخصوصية
في
الحياة.
قضى قاسم أمين سنة ١٩٠٨، وقضت الباحثة منذ عام وشهر وبعض شهر. فما هي نتيجة عملهما،
وما
هو الأثر الذي تركاه في بيئتهما؟ إنه يصعب جدًّا تعيين هذا الأثر وحصر تلك النتيجة، لأن
عمل
الفكر مِكروب خير وضياء يسري متواريًا في الأذهان والعواطف، محتجبًا عن أنظار الناظر
وإحصاء
الحاسب. إننا لا نستطيع أن نتصور كيف تكون الحالة لو لم يجيئا ويكتبا. أما من جهة الباحثة
فلو لم يكن غير حفلتي التأبين اللتين أقام إحداهما الرجال لمرور الأربعين يومًا على وفاتها،
وعقد الأخرى النساء لمرور العام، لو لم يكن غير ما قيل في رثائها وإذاعة فضلها مما لم
يكن
لامرأة قبلها في مصر الفتاة، لو لم يكن غير ذلك لكفى لتعيين مكانتها العالية. وسل الشبيبة
التي كتب لها قاسم أمين وهي طفلة تلعب ووضع كل آماله فيها، سلها عنه تجبك كما تقدره وإلى
أي
درجات الإعزاز والإكبار يصل في نفسها.
لقد شاع قبيل الحرب أن عددًا من الشبان المتعلمين اتفقوا فيما بينهم على تأليف جمعية
لتحرير المرأة، حتى إذا بلغ عددهم الألف أطلقوا الحرية لنسائهم وأخواتهم وأمهاتهم وبناتهم
وأباحوا لهن أن يخرجن سافرات. أليس أن قاسم أمين أوجد هذه الفكرة بكتاب «تحرير المرأة»
حيث
اقترح تأسيس جمعية يدخل فيها من الآباء من يريد تربية بناته على الطريقة الجديدة، وأن
يختار
لتلك الجمعية رئيس من كبار المصريين، ويكون عمل الجمعية في أمرين: الأول التعاون على
تربية
البنات على القاعدة الحديثة. والثاني السعي لدى الحكومة في إصدار القوانين التي تضمن
للمرأة
حقوقها بشرط ألَّا تخرج في شيء من ذلك عن الحدود الشرعية.
وأما الحكم في صلاحية ما ارتآه كلٌّ من هذين المصلحين الجليلين فهو كما قال حافظ في
مرثاته لقاسم أمين:
الحكم للأيام مرجعهُ
فيما رأيت فنمْ ولا تسَل
وكذا طهاة الرأي تتركهُ
للدهر يُنضجه على مهل
لينتبه الآن كلٌّ منهما في أكفانه متلفتًا كما يتلفت الزارع إلى سهول زرع فيها حبات
قلبه
يريا أن البذور المودعة في صدر الأرض نمت وترعرعت وصارت خضرة سندسية تبشِّر بالحصاد الذهبي
العتيد. يريا الشبيبة ناهضة والمرأة مشاركة الرجل في أفكاره وعواطفه. يريا أن فئة بدأت
تفهم
ما قاله تنسن من أن قضية المرأة هي قضية الرجل،
٩ وأن هذا وتلك عامودا العائلة، فإن مال أحدهما وقصَّر واختلَّ وضعه تداعى سقف
الأسرة وانهار صرح الاجتماع القائم على دعائم العائلة. يريا نفوسًا متيقظات وعقولًا تدرك
كرامة الأفراد وكرامة الجماعات. نعم إن هذه فئة صغيرة من المجموع الكبير ولكن نقطة النور
ستظل آخذة في الاتساع حتى تشمل القوم قليلًا قليلًا؛ إذ ذاك تقدر مصر المفكرة قدر من
فتح
الطريق بكل ما لديه من وسيلة وقوة؛ إذ ذاك تشعر نحوهما بتلك العاطفة التي هي فوق الإعجاب
والشكران، وقد سماها كارليل «عبادة الأبطال» فتطلق على كل اسم «بطل الإصلاح».
وعلى هذا فكلمتي الأخيرة كلمة أمل ونشيد ظفر. والحكم في مستقبل المرأة المصرية —
وامرأة
الشرق الأدنى على العموم؛ لأن مصر عظيمة الأثر في أبناء هذه الأقطار — يجب أن يُستخرج
من
كتاب «تحرير المرأة»، ذلك الحكم الذي أصدره المؤلف ساعة وحيٍ ودوَّنه في السطور الآتية:
إنه لا بد لحسن حال الأمة من أن تحسن حال المرأة. فإذا أرسل الناظر فكره ليحيط
بأطراف هذا الموضوع الواسع وبجميع ما يرتبط به من المسائل انجلت له الحقيقة وتجلَّت
له بجميع أسرارها فيرى صورة لا تشابه الخيال الذي كان يظنه جسمًا. ويرى المرأة التي
يهيئها المستقبل تتلألأ في أنوار جمالها ظاهرة مظهرها الفطري ولابسة حلة كمالها
الثنائي: الجسم والعقل.