الكلمة
الكلمة يا أصحابي لا تأتي إليكم، إنما أنتم الذين تنتبهون لها، أنتم الذين تختارونها من بين الكلمات الكثيرة، ولمن يرى فهي مضيئة، تشع مثل الجوهرة أو قل إنها مثل الشمس في السماء، أما لمن لا يرى فإنها كنقطة ماء عذبة في المحيط، وأنا هنا من أجل الكلمة لا غير، أنا أبشركم بها وأهبها لكم جائزة، وأزوِّجكم إياها وأخطبها للعاشقين والعاشقات. سأغنيها كماء النهر وأرقصها كالموج، وأصلي لها في الرمل الحارق النبيل، الكلمة هي حياتكم وموتكم، وهي سبيل المحبة والكراهية.
قال: المؤمنون بي لا يرونني، يعرفني أكثرَ الكافرون بي.
وقال لنا: لا تصنعوا مني صنمًا وتعبدوه؛ لأنني لا أصنع منكم أربابًا وآلهة.
وقال لنا: أنتم أعرف مني في كل شيء، وأعلم مني عن كل شيء، وأقرب مني من كل شيء، وأنتم في الحُب مثل اللهب في وجه الشمس، وأنا يا أحبائي الشمسُ: فلا تؤمنوا بي ولا تكفروا بي، وضعوني في ذاكرة أيامكم.
وقال لي: يا إبراهيم، لا تسع عينيك كما تسع قلبك، بل افتحهما للكون هكذا؛ ومَدَّ ذراعيه في اتجاهين متعاكسين، ورأيناهما يحتويان الدنيا كلها وقلبي وعيني وقلبه وعينيه.
قال لتلاميذه: العالم أضيق قليلًا من أحلامكم وأكثر اتساعًا من أحلامكم، إنه مثل شعلة النار التي تكمن في الشجرة، ومثل الشجرة التي تكمن في الصخرة، ومثل الصخرة التي في القلب: ثقيلة وملساء، ولها بريق جذاب، تحروا الحقيقة فإنها مخادعة.
عندما خرجوا من المغارة، خرجوا مثل الأغنام التي احتجب المرعى عنها سنوات طوالًا، وبقي في ذاكرتها شهيًّا أخضر وبعيدًا جدًّا ونادرًا. كانوا يتشوَّقون إلى الراكوبة والقرية وغدير الماء العذب، خلعوا ملابسهم ورموا بأجسادهم في الماء، رجالًا ونساءً وأطفالًا، في ذات المكان، ذات الشط، ذات الماء، وذات العُري. كانوا يسبحون ويلعبون مثل الدلافين المسحورة، مثل سمكاتٍ دَبَّ فيها روح شيطان نزق: كالأطفال.
وعندما خطا خطوته الأولى في الماء، فعل الماء كما يفعل دائمًا عندما يتوغَّل فيه ابن الإنسان، أصبح أكثر هدوءًا من لوحة على الحائط، أكثر صفاءً من قلب أنثى تعشق، وأكثر جمالًا من مرآتك الشخصية. كان مصقولًا، دافئًا، وله شميم الياسمين. ولأنهم اعتادوا على ذلك واصلوا يلعبون ويضحكون ويشربون الماء ويتغنون. كانوا من بلاد شتى، وسحنات شتى، وقبائل شتى، وألوان شتى، ورؤى فاتحة على نوافذ شتى: كانوا يلعبون.
قال لها: لا تجعلي قلبك مملوءًا بالحب، لا تجعليه مملوءًا بالجمال، لا تضعي ذلك الشيء الذي يُسمى الرحمة والطمأنينة فيه؛ لأنهما يتمددان كالهواء الحار ويملآنه، لا تشغليه بهذا وذاك، حرري قلبك من كل شيء ولا شيء، حتى يصبح خاويًا كالفراغ، حينها فقط تستطيعين أن توطني الكلمة فيه، فالكلمة لا تكون مع شيء ولا يكون شيء معها، ولكنها إذا استوطنت القلب ملأته بالأشياء.