العنكبوت
قرية خربتي الجبل، قد لا يعرفها الكثيرون، حتى الذين ولدوا ونشئوا وماتوا بإقليم دارفور، قرية صغيرة تقع في مضب صخري جنوب جبل مرة، سكانها القليلون يعملون في زراعة المانجو والبصل، وقليل جدًّا من الذرة للاستهلاك اليومي، وتُعتبر المانجو هي عصب الحياة لديهم، وينتجون عينة منها تعرف بمانجو الجبل، وهي نادرة، كبيرة الحجم، غالية الثمن وحلوة الطعم، لها بذرة صغيرة جدًّا، ليس بها ألياف، لا تتلف بسهولة، يشتريها منهم تجار يأتون من أقاصي دارفور؛ ليصدروها للخرطوم، في شهور مارس وأبريل ومايو، يبيعون البصل في السوق المحلية. يعتمدون في شرابهم وسقيا حيواناتهم، على ماء اليمامات من الخور الوحيد الذي يهبط من الجبل عابرًا جنائن المانجو التي يمتلكونها، تتمتَّع خربتي بأرض زراعية خصبة تنمو عليها الأعشاب الموسمية بكثرة، ولو أن سكان خربتي لا يميلون لتربية الماشية بكميات كبيرة، إلا أن بيئتهم وأرضهم رعويتان، وعمدة خربتي رجل طيب وإنسان مُسالم ومسلم؛ لذا يؤمن بأن الناس شركاء في ثلاثة: الماء والنار والكلأ.
في صيف ١٩٨٨ قبل هطول الأمطار بخمسة وأربعين يومًا، جاء إلى قرية خربتي شيوخ من الأعراب، وليس غريبًا أن يرى الناس مثلهم من حين لآخر يتجوَّلون حول أراضيهم، ويرسمون معهم وآخرين مسارات لمرور الماشية. وجدوا الشيخ وحوله جماعة من الرجال يشوون لحم مرفعين شحيم، صاده أحدهم. كانوا يستمتعون بالشواء، وكلٌّ في أعماقه ما يأكل اللحم لأجله؛ فهو مفيد لذوى العمش والعمى الليلي، هو طاقة جيدة للباردين في الفراش والذين يتأخَّرون في القذف كثيرًا، وشفاءٌ مجربٌ للعقم أيضًا، وهو يعالج بصورة نهائية المرضى الذين يعانون من ألم المفاصل، بالإضافة إلى أن لحم المرفعين يُفسد عمل السحر، وزيت المرفعين إذا وضع الرجل قدرًا قليلًا منه في سرته، فسيصبح بذيل قصير، ولحسن الحظ لم يوجد الرجل المغامر الذي سوف يتحقق من الفرضية الأخيرة، كانوا يتجادلون في كل ذلك، بينما شيوخ البدو يقتربون من الجمع، لم يهتمَّ الناس كثيرًا بهم، إلى أن هتف هاتفهم: السلام عليكم.
في تلك اللحظة رد الجميع ولحم المرفعين بين أسنانهم: عليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، تفضلوا قُدَّام.
يعرف بدو بني حسن فضيلتين أخريين للحم المرفعين، ولكنهم كانوا في ضيق من أمرهم؛ لذا اكتفوا بالكلام عن فضيلة واحدة مهمة، وهي أنه يجعل الراعي مطمئنًّا أنَّ مرفعينًا على الأقل لا يمكنه أن يأكل أغنامه بعد الآن.
تدبروا أمر إكرام الضيوف سريعًا، الطعام في هذا الصيفِ وفيرٌ، والناس ما زالوا متواجدين في القرية ولا يذهبون بعيدًا، ربما يعمل الشباب في اصطياد أبشوك، ولم تبدأ الاستعدادات الجدية للزراعة إلى الآن؛ أي إنها لم تأخذ جل وقتهم بعد، لكن الجميع في مثل ساعة العصرية تلك، يوجدون في الغالب فيما يسمونه بالديوان، وهو حجرة كبيرة في حوش كبير ببيت الشيخ آدم كُويا، يؤدون فيه الصلاة، يقيمون المآتم والأفراح، يتبادلون الآراء، ويحددون سعر المانجو. ولولا وليمة لحم المرفعين لوجدوهم يلعبون الضالة تحت شجرة المانجو الكبيرة، التي يطلقون عليها شجرة الرأي.
لم يذبحوا لهم؛ فالماشية كانت بعيدة، ولكن تجمعت سريعًا بعض صواني وقداح الطعام من الحلة، أتى بها الصبية الشباب أو الأطفال، بالإضافة إلى شواء لحم وشحم المرفعين اللذيذين، كان غداءً مقبولًا وكريمًا على أية حال.
تحدث أكبر الأعراب سنًّا، كان حكيمًا ومرحًا في ذات الوقت، تحدث عن أخلاق أهل خربتي، وعن مواقف لهم مشهودة في الملمات والمصاب، وقصد العفو عن قاتل أحد أبنائهم من بني حسن في شجار حول المرعى، وقصد الذرة التي أعانوهم بها في سنة الجفاف، التي هم أنفسهم كانوا في أشد الحاجة إليها، وقال إنهم يطمعون في أكثر من الجيرة المؤقتة والعلاقات العابرة، ثم أفصح بأنهم ونسبة لشح المراعي وفترات الجفاف المتتالية، وخاصة جفاف ٨٣-٨٤-٨٥ الرهيب، الذي فقدوا فيه ٩٠٪ من حيواناتهم، بدأت حياتهم تختلف قليلًا، ويؤدون ممارسة الزراعة بصورة محدودة على الأقل بالطريقة التي تؤمِّن غذائهم وتوفِّر أقصابها بعض علف الماشية في الصيف، ويتعلم أبناؤهم مهارة أخرى تعينهم على الحياة؛ أي إنهم يريدون استقطاع جزء من الأراضي الزراعية الخصبة الخاصة بخربتي، لزراعة الذرة، ولم يطلبوا مساحة كبيرة، بل ما طلبوه كان أقل من ألف فدان لا أكثر، وهي تقع في المناطق الأقل خصوبة، وقاموا بتحديدها بالشجرة والخور والمفازة.
بالطبع أعطاهم الشيخ ميعادًا يعودون فيه للقرية لمعرفة الرد بعد أخذ المشورة ومراجعة الشرتاي، والشيوخ الآخرين، وسوف لا يحصل إلا ما فيه الخير للجميع.
الشيخ آدم كُويا، شيخ خربتي، التي إذا سمع بها أحد المثقفين، سيحكُّ فروة رأسه الأصلع، وإذا كانت برأسه بعض الشُّعيرات فإنه سيبرمها بأنامل مرتعشة، يستغرق قليلًا في التفكير، ثم يفتكر: إنَّ اسمها غربتي، ولكن لأن أهل تلك المنطقة ليس بلغتهم الحرف غين، وينطقونه خاء، فأصبحت خربتي، والحقيقة غير ذلك تمامًا، فهي في الأصل كانت كلمتين: خور وبتي؛ أي خور بتي، وبتي ليست هي ابنتي كما بدارجة كثير من أهل السودان، ولكنه اسم فقيه، أول من أقام بهذا المكان، وهو جد الشيخ آدم كُويا فكي بتي هارون، والد عبد الرحمن وإخوانها؛ هارون، إسحاق، موسى، وأختها الكبرى مريم، كان إنسانًا كريمًا، متدينًا، بالإضافة إلى أنه كان إمام الجماعة في الصلاة بالزاوية التي هي أيضًا نفس الديوان، كان يقوم بمهمة المأذون والفكي والقاضي. في الحقيقة يعرفه كل سكان تلك الأنحاء، وله مكانة خاصة عند الشرتاي بمدينة كاس، نقل طلب العرب إلى الشرتاي، سأله الشرتاي عن وجهة نظر الشيوخ بالمنطقة، فأخبره بأن الغالبية منهم يشكون في نوايا العرب، ويعتبرون ذلك حيلة للسيطرة على أراضيهم واعتبارها حاكورة تخصهم وسيرثها أبناؤهم من بعدهم، وقد تكون بذلك بذرة لصراع مستقبلي، والبعض يرى أن ذلك سوف لا يحدث، وأن العرب تضرروا كثيرًا من الجفاف، وأن ضررهم يؤثر سلبًا على كل المنطقة، والناس تشيل بعض، نحن نحتاج لهم كما يحتاجون لنا هم أيضًا، وإذا رفضنا طلبهم قد يؤدي ذلك لحرب؛ لأن حيواناتهم عندما تجوع فلا مفر أمام العرب سوى أن يعتدوا على أراضينا الزراعية، وحينها يحصل الموت.
كان الشرتاي يستمع ويفهم ويعي كل وجهات النظر هذه، ويعرف تمامًا أن كلا الرأيين صائب، فطلب من الفكي خربتي، أن ينتظره حتى يستشير ملك دار مساليت بالجنينة، وملك الداجو بجبل أم كردوس، وملك الزغاوة بشنقلي طوباي، وأنه سيفيده بالنتيجة قبل الخريف بوقت كافٍ، فأرسل الشرتاي رسله إلى: سلاطين كاره ودنقو وفنقرو وبنه وبايه وفوقي وشالا، وملوك البرقد والتنجر وكبقة والميمة والمسبعات في الشرق من جبل مرة، المراريت والعورة وسميار والقمر وتامة والجبلاويين وأب درق وجوجة وأسمور في الغرب والشمال الغربي، وزغاوة كبا والميدوب في الشمال والشمال الشرقي، والبيقو ورنقا في الجنوب والجنوب الغربي.
والقبائل العربية الرعوية الذين كانوا قد أقاموا من قبل وأصبحوا جزءًا لا يتجزأ من الأرض، وأصبحوا أصحاب مصلحة، كان عليه أن يستشيرهم أيضًا، مثل الهبانية والرزيقات والمسيرية والفلاتة والتعايشة وبني هلبة والمعالية في جنوب دارفور، والماهرية وبنو حسين في غرب دارفور.
أرسل الرسل الشباب على ظهور الخيل، بعث رسائل عن طريق الشاحنات واللواري السفرية التي تعبر القرية، ماضية شمالًا أو جنوبًا، ابتعث رجالًا على سنام الجمال لملوك الزغاوة الذين يسكنون شمالًا تخوم الصحراء، على ظهور الحمير أرسل إلى الملوك الذين يقيمون على بعد أقل من يومين سيرًا على الأقدام.
جاءت النتائج تباعًا وفي أوقات متفرقة على حسب بعد وقرب القبائل عن الشرتاي، وتقريبًا كلها إيجابية ما عدا رأي لقبيلة عربية واحدة، وكان رأيهم واضحًا وجليًّا في القبيلة التي تطلب الجوار وهي قبيلة بني حسن، يقولون إنها قبيلة عدوانية مشاكسة تميل لسفك الدماء، ولكن الشرتاي لم يأخذ برأيهم نسبة لعلمه أن القبيلتين دخلتا في حروب كثيرة بينهما، وخسرتا خيرة شبابهما في تلك المعارك العبثية التي لا فائدة من ورائها تُرجى وليست لها أسباب منطقية، وأرسل إلى شيوخ بني حسن وشيوخ خربتي أن يعدوا للاحتفال بالجيرة بخربتي، وأرسل لهم المصحف الكبير لأداء القسم عليه.
بعد أسبوعين جاء شيوخ بني حسن وذبحوا كثيرًا من الإبل، وبعد أن أدوا القسم على حسن الجوار والتعاضد في السراء والضراء وعدم العدوان المتبادل، وأقسموا أيضًا على أنه إذا حصل خلاف بينهما، أن يحكم بينهما الشرتاي إذا لم يستطيعوا أن يفصلوا فيه بأنفسهم: والخائن الله يخونه.
ولكي يثبت شيخ بني حسن حُسن النية، كانت في صحبته ابنته الصغرى وعشر أخريات من بنيات العُمد والشيوخ، وطلب تزويجهم في الحال لأعيان خربتي، وبالمقابل قام أهالي خربتي بتعيين اثنتي عشرة فتاةً من بناتهم وتزويجهن لأعيان بني حسن، تم ذلك في احتفالية ضخمة استمرت أسبوعًا كاملًا، رقص فيها الجميع على إيقاعات طبول بني حسن ونقارة الفور معًا، وأخيرًا: دعوا الله في صدق أن يبارك لهم هذه الجيرة وينصرهم على الأعداء، فلقد أصبحوا الآن من دم ولحم.
وقد تم سرد هذه السيرة بهذه التفاصيل لكي نفهم كيف كان الأمر في غاية الصعوبة للمسئول الحكومي الذي جاء بعد عشرين عامًا لتلك القبيلة العربية، قبيلة بني حسن يحمل أسلحة وذخائر وخبراء تدريب، كما فعل مع عشرات القبائل العربية، طالبًا منهم استلامها للدفاع عن أنفسهم ضد النهب المُسلح الذي تقوم به قبائل الزُّرقة؛ فإنهم سألوه أولًا: من هم الزُّرقة؟
شرح لهم من هم الزرقة، ولكن الأمر التبس عليهم؛ لأن كل المواصفات التي بالزرقة متوافرة في كل فرد من أفرادهم؛ لذا قام باتباع أسلوب آخر في إقناعهم، بأن قبائل الفور والزغاوة والمساليت والداجو يعدون خططًا سرية للقضاء على العرب بدارفور، وذلك لتقسيم المنطقة إلى ثلاث دويلات، وهي مملكة زغاوة الكبرى، وتضم كل فروع قبيلة الزغاوة، وستجد الدعم من دولة تشاد وهي تستولي على شمال دارفور، ودارفور تضم الفور والتنجور والكنجارة والداجو، وهي مدعومة من إسرائيل وستستحوذ على وسط وجنوب دارفور، ودار مساليت، وهم منذ ١٩١٩ يعدون أنفسهم للانفصال في دولة تشمل كل غرب دارفور، وتدعمهم ليبيا؛ بالتالي أين سوف يقيم العرب؟
قالوا له إنهم لم يسمعوا بتلك الدويلات، ولم يطلب منهم أي كان أن يغادروا الأرض أو يحاربهم، وأن النهب المسلح يقوم به أفراد من كل قبائل دارفور ولا تتصف به قبيلة دون الأخرى، وأنهم لا يرغبون في السلاح، ولا يرغبون في التدريب في الدفاع الشعبي، طلب منهم المفاوض الحكومي، طالما رفضوا حمل السلاح، فإن موقعهم هذا تعتبره الحكومة المركزية موقعًا استراتيجيًّا؛ أي موقع مواجهة، عليهم إما أن يغادروا جنوبًا أو أن يستضيفوا بعض القبائل العربية الوافدة حديثًا من دول مجاورة، وهم من بني عمومتهم رعاة إبل، لا يمانعون في حمل السلاح، بل وهدم المشروع الانفصالي الذي يقوده الزرقة، أو أن يستهدوا بالله ويستلموا السلاح، ويأتوا بشبابهم للتدريب العسكري، ويحتفظوا بخبيرين عسكريين معهم في القرية.
كانوا يعلمون تمام العلم إذا استلموا السلاح سيصبحون مقاتلين مثلهم مثل كثير من القبائل التي انطلت عليها الخدعة، حيث طُلب منهم مهاجمة جيرانهم الذين تعايشوا معهم منذ مئات السنين، وعندما رفض الشيوخ وكبار السن ذلك، قامت الحكومة باستبدال القيادات المجتمعية والشعبية المتوارثة بقيادات شبابية أسمتهم الأمراء، أخذتهم لدورات تدريبية نفسية واجتماعية وعسكرية قاسية بالخرطوم، وأعادتهم لقبائلهم وقد تغيرت عقلياتهم وأصبحوا لا يفكرون سوى بالحرب، ولا يخشون سوى من خطر الزُّرقة عليهم. شيوخ بني حسن لا يريدون أن يصبحوا مثل هذه القبائل؛ لأنها خسرت أكثر مما كسبت، خسرت الجيرة والشباب وأصبحت عرضة لهجمات الثوار من القبائل المستهدفة من قبل الحكومة، بل إن هذه القبائل دخلت في صراع مع تجمعات عربية مسلحة أخرى في التنازع حول الأراضي والثروات والمسالب والغنائم التي استولوا عليها من الجيران، قال الشيخ لرسول الحكومة: لا هذا ولا ذاك.
عاد وفد الحكومة بأسلحته وخبرائه، ولكن بعد أسبوعين جاء الأبالة الذين عُرفوا فيما بعد بالجنجويد، يحملون زادًا ثقيلًا من الأسلحة، وفي رفقتهم عربات لاندكروزر مقاتلة وكثير من الخبراء العسكريين، وأقاموا في ضيافة إجبارية لدى شيخ عرب بني حسن، كما أنه كان في رفقتهم أمير القبيلة المُعين الشاب المجاهد المقاتل في سبيل الله الذي لم يروه من قبل لا يعرفون اسمًا له أو قبيلة.
في الأسبوع الثاني، كانت قرية خربتي الجبل، كأن لم تكن، ليست سوى بقايا رماد وجثث متفحِّمة، وحدائق مانجو محروقة. الأحياء من النساء والطفلات المغتصبات، أخذتهم القوات الحكومية وبعض منظمات الإغاثة، إلى معسكر كلمة بنيالا، وكانت من بينهم طفلة في الخامسة عشرة من عمرها، وجدت حية تحت جثث أفراد أسرتها، أخبرت عمال الإغاثة بأن اسمها عبد الرحمن. أما الرجال والأطفال الذكور فقد تُركوا بالقرية في مقابر جماعية ضخمة وقبيحة.