الأسطورة والفلسفة
تتداخل العلاقة بين الأسطورة والعلم مع العلاقة بين الأسطورة والفلسفة؛ لذا ربما كان بوسعنا هنا استعراض آراء الكثير من المنظرين الذين أشرنا إليهم في الفصل السابق، غير أن هناك نطاقًا أوسع من الرؤى والمواقف حول العلاقة بين الأسطورة والفلسفة: من قبيل أن الأسطورة جزء من الفلسفة، وأن الأسطورة «هي» الفلسفة، وأن الفلسفة هي الأسطورة، وأن الأسطورة تنبثق من الفلسفة، وأن الفلسفة تنبثق من الأسطورة، وأن الأسطورة والفلسفة مستقلتان إحداهما عن الأخرى، لكنهما تؤديان الوظيفة نفسها، وأن الأسطورة والفلسفة مستقلتان إحداهما عن الأخرى، وتؤديان وظائف مختلفة.
بول رادين
تذكر أنه بينما أدرج تايلور وفريزر الأسطورة والعلم تحت الفلسفة، وضع ليفي-بريل الأسطورة، كرد فعل لهما، في مقابل العلم والفلسفة معًا. ويرى ليفي-بريل أن التوحد البدائي مع العالم، مثلما تدلل الأسطورة على ذلك، هو النقيض للانفصال عن العالم الذي ينادي به كل من العلم والفلسفة.
يشعر الشخص العادي [رجل الأفعال] بالرضا لوجود العالم، ولتتابع الأحداث فيه. لكن لتفسيرات هذه الأحداث أهمية ثانوية. فهو مستعد لتقبل التفسير الأول الذي يأتيه عَرَضًا، ولا يكترث البتة بأية تفسيرات عميقة، بل ينزع لتفسير في مقابل تفسير آخر. ويفضل هذا الشخص التفسير الذي يؤكد فيه تأكيدًا خاصًّا على العلاقة المباشرة بين تسلسل الأحداث. ويتميز الإيقاع العقلي له — إذا جاز لي استخدام هذا التعبير — بالحاجة إلى التكرار اللانهائي لنفس الحدث أو — في أفضل الأحوال — بتكرار الأحداث التي تقع جميعها على المستوى العام نفسه … في المقابل، يعتبر الإيقاع العقلي للمفكر مختلفًا تمامًا؛ فهو يرى أن افتراض وجود علاقة مباشرة بين الأحداث لا يكفي؛ ولذا يُصر على تقديم وصف للتقدم التدريجي والتطور من وضع إلى أوضاع متعددة، ومن البسيط إلى المعقد، أو يصر على افتراض وجود علاقة بين السبب والتأثير.
من غير الإنصاف على الإطلاق القول بأن الأشخاص البدائيين يفتقرون إلى القدرة على التفكير المجرد أو إلى القدرة على ترتيب هذه الأفكار بصورة منهجية، أو، أخيرًا، القدرة على جعلهم وبيئتهم بالكامل عرضة للنقد الموضوعي.
إن القدرة على النقد هي الصفة الأساسية لعملية التفكير، وذلك على الأرجح في رأي رادين، وكذلك كارل بوبر وروبين هورتون بكل تأكيد.
إرنست كاسيرر
على الرغم من أن تبعية الأسطورة لنظام عام من الأشكال الرمزية يبدو أمرًا حتميًّا، فإن ذلك يشكل خطرًا محققًا … فقد يؤدي [هذا الأمر] إلى القضاء على الصورة الجوهرية [أي المتميزة] للأسطورة. ولم تكفَّ المحاولات في حقيقة الأمر عن تفسير الأسطورة من خلال اختزالها إلى شكل آخر من الحياة الثقافية، سواءٌ أكان ذلك معرفة [أي علمًا] أم فنًّا أم لغة.
في جميع اللحظات المهمة في حياة الإنسان الاجتماعية، لم تعد القوى العقلانية التي تقاوم صعود المفاهيم الخرافية القديمة واثقة من نفسها. وفي هذه اللحظات، حل زمن الأسطورة مرة أخرى.
إن هذا التفسير [الذي طرحه مالينوفسكي] لدور السحر والميثولوجيا في المجتمع البدائي ينطبق بالتساوي على المراحل المتطورة في الحياة السياسية للإنسان. ففي المواقف الصعبة، يلجأ الإنسان دائمًا إلى الوسائل الصعبة.
يختلف كاسيرر عن مالينوفسكي في جعل العالم الذي لا يمكن السيطرة عليه هو العالم الاجتماعي وليس العالم المادي، وفي إضفاء قوة سحرية على الأسطورة نفسها، والأدهى من ذلك، في النظر إلى الأسطورة كمجال حديث. ولكن هناك مشكلة تخفى على البعض: وهي أن الأساطير الحديثة تمثل إحياء رجعيًّا للبدائية.
لا تستطيع الفلسفة في حدود قدرتها تقويض الأساطير السياسية؛ إذ إن الأسطورة حصينة إلى حد ما؛ فهي لا تتأثر بالحجج العقلانية، ولا يمكن دحضها من خلال القياس المنطقي. على النقيض من ذلك، تستطيع الفلسفة أن تولينا معروفًا؛ فتستطيع أن تجعلنا نفهم الخصم … فعندما سمعنا للمرة الأولى عن الأساطير السياسية، وجدناها منافية للعقل ومتناقضة، مدهشة ومثيرة للضحك، حتى أصبح من الصعوبة بمكان إقناعنا بتقبلها بصورة جدية. وحاليًّا، صار من الواضح للكافة أن ذلك كان خطأ كبيرًا … فيجب أن ندرس الأصل والبنية والوسائل والأساليب الخاصة بالأساطير السياسية دراسة جادة، ويجب أن نرى الخصم وجهًا لوجه حتى نعرف كيف نحاربه.
من الصعوبة بمكان إدراك كيف تصبح دراسة الأساطير السياسية على هذا النحو المقترح مهمة الفلسفة، وليس مهمة علم الاجتماع. فالآن، لا تُعد الأسطورة قبل منطقية فحسب، بل وغير منطقية على الإطلاق، وهو موقف أكثر تطرفًا من ذلك الذي ينتقد كاسيرر ليفي-بريل عليه!
آل فرانكفورت
ورد تطبيق نظريات ليفي-بريل وكاسيرر بالكامل على الفلسفة في كتاب نُشر عام ١٩٤٦ عنوانه «المغامرة الفكرية للقدماء: مقال حول الفكر التأملي في الشرق الأدنى القديم»، وقد ألفه مجموعة من المتخصصين في الشرق الأدنى. عند إعادة نشر الكتاب في نسخة ورقية الغلاف في عام ١٩٤٩، جُعل العنوان والعنوان الفرعي في صورة عنوان فرعي من شقين، فيما اتخذ الكتاب عنوانًا جديدًا رئيسًا دالًّا على محتواه، هو «قبل الفلسفة». ووفقًا للزوجين هنري وإتش إيه فرانكفورت، اللذين يطرحان النظرية، عاشت شعوب الشرق الأدنى القديم في مرحلة بدائية من الثقافة عُرفت عن حق بأنها «قبل فلسفية». وتعود عملية تصنيف القديم تحت البدائي إلى تايلور وفريزر. ويرى آل فرانكفورت أن الحداثيين يفكرون «فلسفيًّا»، وهو ما يعني التفكير بصورة مجردة ونقدية وغير عاطفية. فمجال الفلسفة هو مجال واحد فحسب يوظف التفكير الفلسفي، أما نموذج التفكير «الفلسفي» الحقيقي فيمثله العلم. ويستخدم تايلور وليفي-بريل وآخرون مصطلح «فلسفة» استخدامًا واسع النطاق، فيما يترادف مع مصطلح «فكر»، وبالمثل يعتبرون العلم أنقى تجلياتها. وعلى الطرف النقيض من الحداثيين، حسبما يؤكد آل فرانكفورت، يفكر البدائيون تفكيرًا «صانعًا للأسطورة»، وهو ما يعني التفكير بصورة مادية، وبطريقة غير نقدية، وعاطفية. ولا تعد الميثولوجيا سوى تعبير واحد عن التفكير الصانع للأسطورة، إن لم يكن التعبير الأكثر ثراءً على الإطلاق بين صور التعبير الأخرى.
في حقيقة الأمر، تعتبر طرق التفكير الفلسفية والصانعة للأساطير أكثر من مجرد أساليب مختلفة لتصور العالم؛ إذ تعتبر أساليب مختلفة لإدراك العالم، مثلما يراها ليفي-بريل. ويتمثل «الفرق الرئيس» في أن العالم الخارجي من منظور الحداثيين يُعبر عنه بالضمير «هو» — للإشارة إلى غير العاقل — بينما هو «أنت» من منظور البدائيين؛ وقد أُخذ هذان المصطلحان عن الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر. وتعتبر العلاقة بين «أنا وهو» علاقة انفصالية وفكرية، أما العلاقة بين «أنا وأنت» فعلاقة تشاركية وعاطفية، إذا نحينا العنوان الرئيس الأصلي المحيِّر لكتاب آل فرانكفورت جانبًا؛ إذن فالعلاقة المثالية بين «أنا وأنت» هي علاقة حب.
يرى آل فرانكفورت أن المصريين وسكان ما بين النهرين القدماء عاشوا في عالم استثنائي صانع للأساطير. وبدأ الانتقال من التفكير الصانع للأساطير إلى التفكير الفلسفي على يد بني إسرائيل، الذين دمجوا العديد من الآلهة في إله واحد، ووضعوا هذا الإله خارج نطاق الطبيعة. وبذلك مهَّد بنو إسرائيل الطريق لليونانيين، الذين حوَّلوا هذا الإله الشخص إلى قوة واحدة أو أكثر غير شخصية، تشكل أساس الطبيعة، أو مظهر الأشياء. ولم تنتقل الطبيعة في النهاية إلى مرحلة «خلع الثوب الخرافي»، حتى تحوَّل الخيال السائد في حقبة ما قبل سقراط إلى العلم التجريبي.
هناك مشكلات عديدة مع طرح آل فرانكفورت: أولًا: يعبر صنع الأسطورة أحيانًا فيما يبدو عن المذهب الروحاني الذي أتى به تايلور، والذي يقول بأن البدائيين يمتلكون العقلية نفسها التي يمتلكها الحداثيون. ثانيًا: لا تتضمن ثنائية «أنا وأنت» لبوبر التعامل مع «الشيء» كشخص، بل تشمل فقط التعامل مع «الشخص» كشخص. ثالثًا: يمكن التعامل مع أية ظاهرة بكل تأكيد باعتبارها «هو» و«أنت»: تدبر مثال التعامل مع حيوان أليف والتعامل مع مريض. رابعًا: لا تستطيع أية ثقافة إشراك الطبيعة فحسب في الأحداث باعتبارها «أنت»، بل تفصلها بصورة كافية تسمح لها بإنبات المحاصيل على سبيل المثال. خامسًا: إن توصيف ثقافات الشرق الأدنى القديمة بأنها صانعة للأساطير من جميع الجوانب، ووصف إسرائيل بأنها غير صانعة للأساطير إلى حد كبير، ووسم اليونان بأنها علمية بالكامل؛ كل ذلك يُعد اختزالًا مخزيًا، كما تبين بوضوح آراء إف إم كورنفورد حول علم اليونانيين.
على كل حال، يجب الثناء على آل فرانكفورت لمحاولتهما تطبيق نظرية ليفي-بريل المجردة على حالات محددة. واتباعًا لنهج ليفي-بريل وكاسيرر، يرى آل فرانكفورت بإيمان عميق أن الأساطير، بينما هي قصص في حد ذاتها، تفترض افتراضًا مسبقًا وجود عقلية متميزة. وللمفارقة، يتطابق أشد نقد يوجهه آل فرانكفورت إلى ليفي-بريل مع النقد الذي يوجهه كاسيرر إليه، وإن كان مثله في غير مكانه؛ فليفي-بريل نفسه يصر على أن التفكير البدائي متميز، مع كونه منطقيًّا. أما عن تطبيق نظرية آل فرانكفورت على أسطورة أدونيس، فإنها ستكون كمثل تطبيق نظرية ليفي–بريل عليها، من حيث التركيز على توحد أدونيس عاطفيًّا مع العالم، وما ترتب على ذلك من عدم قدرة على النظر إلى العالم بصورة سليمة.
رودولف بولتمان وهانز يوناس
قدر ما يتميز كاسيرر خاصةً في المراحل المبكرة من أعماله بأنه فلسفي — شأنه شأن منهج تناوله للأسطورة — فإنه لا يرى أبدًا أن الأسطورة «تعني» الفلسفة. ولا يطرح ذلك من المنظرين سوى عالم اللاهوت الألماني رودولف بولتمان (١٨٨٤–١٩٧٦)، والفيلسوف ألماني المولد هانز يوناس (١٩٠٣–١٩٩٣)، الذي استقر بصورة نهائية في الولايات المتحدة. وكلاهما لا يستقي فحسب معنى الأسطورة من الفلسفة — من الفيلسوف الوجودي مارتن هيدجر في مراحله المبكرة — بل يضيق أيضًا دائرة الدراسة حول مسألة المعنى. ولا يهتم أي منهما بأصل أو وظيفة الأسطورة؛ ولا تعتبر الأسطورة في منظورهما جزءًا من أي نشاط. وشأنهما شأن بعض علماء الأنثروبولوجيا النظريين، يتعامل كلاهما مع الأسطورة كنص مستقل، لكنهما على عكس تايلور، لا يتأملان حتى ولو نظريًّا طريقة نشوء الأسطورة أو طريقة عملها.
لا مراء أن بولتمان ويوناس يترجمان الأسطورة إلى مصطلحات وجودية بغرض جعل معناها مستساغًا للحداثيين، لكنهما لا يبحثان في سبب الحاجة إلى الأسطورة، خاصةً عندما تتطابق رسالة الأسطورة مع رسالة الفلسفة. على سبيل المثال، لا يقترح أي منهما أن الأسطورة، مثل الأدب بالنسبة إلى أرسطو، تمثل طريقة أسهل لتوصيل الحقائق المجردة إلى الآخرين. ونظرًا لأن نماذج الأساطير التي يبحثانها — العهد الجديد عند بولتمان، والغنوصية عند يوناس — نماذج دينية وليست نماذج فلسفية صرفة، فإننا سننظر بمزيد من التفصيل في نظريتيهم في الفصل التالي حول الأسطورة والدين.
ألبير كامو
لم يكشف هوميروس عن الإثم الذي اقترفه سيسيفوس، ويختلف في ذلك عما ورد في المراجع القديمة. وكان سيسيفوس محل شفقة في روايات جميع القدماء، غير أن كامو يراه مثيرًا للإعجاب. وبدلًا من تجسيد المصير الذي ينتظر تلك الحفنة من البشر الذين يجرُءون على تحدي الآلهة، يرمز سيسيفوس إلى مصير جميع البشر الذين يجدون أنفسهم محكومًا عليهم بالعيش في عالم لا وجود للآلهة فيه. ويثير سيسيفوس الإعجاب لأنه تقبل الهراء الذي ينطوي عليه الوجود الإنساني، الذي هو أقل في جوره من عبثيته. وبدلًا من الاستسلام والانتحار، يواصل سيسيفوس كده وكدحه، على الرغم من إدراكه الكامل أن محاولاته لا طائل منها. وتعتبر بطولة سيسيفوس هي البطولة الوحيدة التي يتيحها عالم لا معنى له لخلوه من الآلهة. ويستخدم كامو أسطورة سيسيفوس للتعبير دراميًّا عن الحالة الإنسانية.
كانت أسطورة سيسيفوس جزءًا من الدين، شأنها شأن الأساطير التي حللها بولتمان ويوناس، بل ولا تزال جزءًا منه في رأي بولتمان. ويتعامل كامو مع الأسطورة، تمامًا مثل بولتمان ويوناس، كنص مستقل، مقطوع الصلة بأي دين راسخ ويُمارس. ومن منظور ثلاثتهم، تعد الأسطورة حكاية فلسفية؛ لأنهم يرونها «تعبيرًا» عن الفلسفة.