الأسطورة والمجتمع
برونيسلاف مالينوفسكي
تبدأ الأسطورة في الظهور عندما يتطلب الطقس أو الاحتفاء أو القاعدة الاجتماعية أو الأخلاقية؛ تبريرًا وضمانًا على عراقتها وحقيقتها وقداستها.
وتُقنِع الأسطورة المواطنين بالانصياع إلى المراتب الاجتماعية من خلال الإعلان عن عراقة هذه المراتب ومن ثم استحقاقها. فتجعل الأسطورة التي تتمحور حول الملكية البريطانية المؤسسة قديمة قدر الإمكان، بحيث يصير أي تقليل من شأنها أو الحط منها حطًّا من قدر التقاليد نفسها. وفي إنجلترا المعاصرة يجري الدفاع عن صيد الثعالب باعتباره جزءًا من الحياة الريفية لفترة طويلة. فيأتي في الأساطير الاجتماعية أشياء من قبيل، «افعل هذا لأن هذا ما كان يجري عمله دومًا.» في حالة الظواهر المادية، المستفيد من الأسطورة هو الفرد. وفي حالة الظواهر الاجتماعية، الطرف المستفيد هو المجتمع نفسه.
إن القول بأن الأسطورة تتبع أصل الظاهرة يعني القول بأن الظاهرة تفسِّر هذه الظواهر. عندما يشير مالينوفسكي، إذن، في معرض هجومه على تايلور، إلى أن البدائيين «لا يريدون «تفسير» أي شيء يحدث في أساطيرهم، وجعله «مفهومًا»» يؤكد مالينوفسكي بالفعل على أن الأساطير لا تعتبر تفسيرات في حد ذاتها، مثلما يعتبرها تايلور. في المقابل، يجب أن تظل الأساطير تفسيرات؛ إذ إن من خلال تفسير الظواهر فقط تؤدي الأساطير وظيفتها التوفيقية.
لا يبين مالينوفسكي أبدًا ما إذا كان الحداثيون، فضلًا عن البدائيين، يمتلكون أساطير أم لا؛ ففي ظل توفير العلم الحديث مزيدًا من التحكم في العالم المادي أكثر من العالم البدائي، هناك بالطبع أساطير حديثة أقل تدور حول الظواهر المادية. وفي حال عدم وجودها، لا تزال هناك أساطير حديثة تدور حول الظواهر الاجتماعية. وإذا لم تكن هذه الأساطير موجودة هي الأخرى، ستحل الأيديولوجية محلها.
جورج سوريل
في سياق هذه الدراسة، كان هناك شيء واحد حاضر في عقلي، أن الأشخاص الذين يشاركون في حركة اجتماعية عظيمة يصورون فعلهم المستقبلي باعتباره معركة لا مجال للشك في انتصار قضيتهم فيها. وهذه التصورات الذهنية … أقترح أن يُطلق عليها أساطير؛ ﻓ «الإضراب العام» النقابي وثورة ماركس الكارثية أمثلة على مثل هذه الأساطير … لم يقنط الكاثوليكيون أبدًا حتى في أصعب الأوقات، لأنهم كانوا دائمًا ينظرون إلى تاريخ الكنيسة باعتباره سلسلة من المعارك بين الشيطان والطبقية الكنسية التي يوجد المسيح على قمتها، ولا تعتبر أية صعوبة جديدة تقع سوى حلقة في حرب يجب أن تضع أوزارها بانتصار الكاثوليكية.
يعتبر عزم أوليفر كرومويل الذي لا يلين على خلع الملك تشارلز الأول عن عرش إنجلترا مثالًا على الأسطورة عند سوريل.
يؤكد سوريل أن كلًّا من العنف والأسطورة لا غناء عنهما لتحقيق الثورة، ومن ثم فإنهما مبرران. ويرفض سوريل أي تحليل علمي محايد للأسطورة، بما في ذلك التحليل الماركسي. يحوِّل سوريل الماركسية نفسها إلى أسطورة؛ إذ إن الالتزام بمبادئها يحرض أتباعها على الثورة. ويشبه سوريل مالينوفسكي في عدم اكتراثه بحقيقة الأسطورة. وفي رأي كليهما، يتمثل مناط الأمر في أن الأسطورة تحدث أثرًا متى كانت صحتها موثوقًا فيها. وفي رأي سوريل، لا يمكن معرفة الحقيقة النهائية للأسطورة — نجاح الثورة — مقدمًا على أية حال.
في رأي مالينوفسكي، تشبه الأسطورة الأيديولوجية في تبريرها الخضوع للمجتمع. وفي رأي سوريل، تعتبر الأسطورة «هي» الأيديولوجية في تبريرها لفظ المجتمع. ولا يمكن تطبيق نظرية سوريل بالكامل على حالة أدونيس، الذي يتصرف وحده، ويعتبر ضحية سلبية أكثر منه فاعلًا مؤثرًا، فضلًا عن عدم تأثره بأية أيديولوجية. وتناسب نظرية سوريل الإرهابيين اليوم، الذين تبرر خرافتهم أحداث الحادي عشر من سبتمبر كمرحلة أولى في هزيمة القوة الدولية المهيمنة، أمريكا المُشيطَنة. ومع هذا، لا يمكن بسهولة معرفة إلى أي مدى توضح نظرية سوريل بالفعل أية أسطورة بخلاف تسميتها كذلك.
رينيه جيرار
في كتاب «العنف والمقدس»، يشير جيرار، مثل رَجْلان ورانك، إلى أوديب باعتباره أفضل مثال على نظريته. فقد كان أوديب بعيدًا كل البعد عن التسبب في الفجيعة التي حلت ببلاد طيبة خلال فترة حكمه كملك، ولذا فهو يعتبر، في رأي جيرار، ضحية بريئة. وربما لم يكن هناك فجيعة من الأساس أو أن الفجيعة لم تكن السبب في وقوع الثورة. أو ربما كانت الفجيعة مجازًا عن العنف الذي انتشر في المجتمع كالوباء. ويتجلى العنف بين مواطني طيبة في الصراع بين الشخوص الرئيسة في مسرحية سوفوكليس: أوديب وكريون وترسياس. وتتمثل الطريقة الوحيدة لإنهاء العنف ومن ثم الحفاظ على المجتمع في جعل عضو مستضعف في المجتمع كبش فداء. وعلى الرغم من كونه ملكًا، يتعرض أوديب للظلم بتشويه سمعته أيما تشويه، ومن ثم استضعافه لأقصى درجة. فهو لا ينتمي إلى الجماعة المحلية، ولا يُعرف بانتمائه إلى أهل طيبة، كما لم يعتلِ العرش بالوراثة بل من خلال قتل الهولة. إضافة إلى ذلك، يعتبر أوديب معاقًا نتيجة وخز كاحليه عند الميلاد. وبذلك تعمل الأسطورة، التي جرى ابتداعها بعد سقوط أوديب، على إعفاء المجتمع من اللوم عن طريق لوم أوديب نفسه: قتل أوديب أباه وتزوج أمه. وبسبب جريرة قتل الأب وخطيئة زنا المحارم تمر طيبة بفاجعة. ويطرح ترسياس المسألة على هذا النحو في مسرحية سوفوكليس:
إذا فسرنا رد ترسياس حرفيًّا، فإن الاتهامات المروعة بقتل الأب وزنا المحارم التي وجهها إلى أوديب لم تنبع من أي مصدر معلومات خارق [ومن ثم لا تمثِّل «الحقيقة»]. ويعتبر الاتهام فعلًا انتقاميًّا ينبثق عن حوار عدواني لمسألة مأساوية. يبدأ أوديب غير عامد هذا الحوار من خلال إجبار ترسياس على التحدُّث. فيتهم أوديب ترسياس بالاشتراك في قتل لايوس [والد أوديب]، ويحثه إذن على الانتقام، بإلقاء التهمة عليه مجددًا … يعتبر اتهام [كل منهما] للآخر بقتل لايوس بمثابة إلقاء كل طرف على الآخر مسئولية التسبب في أزمة كبش الفداء. في المقابل، مثلما رأينا، يشترك الجميع في تحمُّل المسئولية؛ نظرًا لأن الجميع شارك في تدمير نظام ثقافي.
سعى أهل طيبة — المتدينون — إلى علاج لعلتهم من خلال القبول الشكلي للأسطورة، من خلال جعل الأسطورة الرواية غير المتنازع عليها للأحداث التي هزَّت المدينة، ومن خلال جعل الأسطورة ميثاقًا لنظام ثقافي جديد، وذلك عبر إقناع أنفسهم، باختصار، بأن جميع مآسيهم كانت ترجع فقط إلى الفاجعة التي حلت بهم. ويتطلب هذا الموقف الإيمان التام بذنب الضحية البديلة.
أن يكون هذا العنف الجماعي، وليس أوديب وحده، هو السبب الحقيقي في المشكلة؛ هو ما تؤكده الأحداث اللاحقة. فبينما تنتهي الفاجعة، يتبعها صراع على العرش بين كريون، وبولينيسس بن أوديب، وابن أوديب الآخر إتيوكليس. في رأي جيرار، يرفض سوفوكليس الأسطورة، وإن لم يكن ذلك بصورة مباشرة أبدًا، بحيث جرى النظر إلى المسرحية بصورة مستمرة، من قبل هاريسون وموراي، باعتبارها «النسخة» الدرامية للأسطورة بدلًا من اعتبارها «رفضًا» لها، مثلما يذهب جيرار الأكثر حدة في الملاحظة فيما يبدو.
تفعل الأسطورة، التي تمتد في «أوديب في كولونس»، أكثر من لوم أوديب على ما حل بطيبة من ويلات. فتتطور لتجعل من أوديب بطلًا. حتى عندما كان ملكًا، يتميز أوديب بالبطولية في اعتبار إنهاء الفاجعة التي حلت برعاياه من واجبه، وفي التعهد باكتشاف المذنب، وفي الإصرار على أن يُنفى عند اكتشافه بأنه المذنب. في المقابل، في رأي جيرار، لا يعتبر البطل الحقيقي هو أوديب الذي سقط وضحى بنفسه، كما يذهب رَجْلان، بل أوديب رفيع الشأن. حتى في حال كان هو المذنب، يمتلك أوديب القدرة على إنقاذ طيبة: مثلما كان ظهوره سببًا في وقوع البلاء، سيؤدي اختفاؤه إلى إنهائه. يعتبر أوديب بطلًا حتى وإن كان مجرمًا؛ فهو يمتلك قدرة تشبه قدرة الإله على إحداث البلاء ورفعه.
في المقابل، بحلول وقت عرض مسرحية «أوديب في كولونس»، كانت مكانة أوديب قد ارتفعت. بوصوله إلى كولونس، التي تقع بالقرب من أثينا، بعد سنوات من التجوال، يؤمر بالعودة إلى طيبة. ومثلما اعتمدت سلامة مجتمع طيبة على نفي أوديب، تعتمد سلامته الآن أيضًا على عودته. يرفض أوديب العودة؛ إذ نعلم أن أوديب كان يريد البقاء في طيبة بعد الأحداث في «أوديب ملكًا»، غير أنه أُجبر على الرحيل من جانب كريون وآخرين في النهاية. ولكن كريون مستعد الآن للقبض على أوديب وإعادته إلى طيبة، فيعرض الملك ثيسيوس على أوديب حق اللجوء. في المقابل، يعلن أوديب أن موضع دفنه في أثينا سيحمي أثينا من أي هجوم من طيبة. باختصار، ينتهي المطاف بأوديب، الذي بدأ ملكًا لطيبة شبيهًا بالإله في «أوديب ملكًا»، بأن يصبح صاحب أيادٍ بيضاء على أثينا وشبيهًا بالإله في «أوديب في كولونس».
أدونيس
ربط اليونانيون القدماء عدم النضج النفسي بعدم النضج السياسي: كان فشل أدونيس في أن يصبح شخصًا بالغًا سيعني فشله في أن يصبح مواطنًا. كان أدونيس سيتناسب تمامًا مع ذلك الشكل من الحكم الذي لا ينطوي على أي نوع من المسئولية ويتبنى الطفولة السياسية منهجًا؛ أي الطغيان. ويتناسب خضوع أدونيس إلى الإلهتين اللتين تشبهان الأمهات مع مجتمع تسيطر فيه الأم على الأحداث. وفي ظل تعامله فقط مع إناث تغمرنه بالاهتمام الخانق، يُسقط أدونيس تلك الصفات على جميع الإناث، ومن ثم يخضع لهن دون أدنى تردد.
تشكِّل العائلة الصلة بين الشخصية و«دولة المدينة» التي يديرها مواطنون من الذكور. وينطبق على الحياة العائلية أيضًا التضاد الذي يعقده هيرودوت بين دولة المدينة في اليونان، التي يخضع فيها الجميع حتى الحاكم إلى القانون، والطغيان في الشرق، الذي يعتبر الحاكم فيه فوق القانون.
ولبيان طغيان الحكام الشرقيين، يعدد هيرودوت تجاوزاتهم لقواعد الأخلاق العائلية. على سبيل المثال، يأمر كاندوليس ملك سارديس جايجيس، حارسه الشخصي، باختلاس النظر إلى الملكة أثناء خلعها لملابسها. وتجبر الملكة جايجيس على قتل زوجها (هيرودوت، الكتاب الأول، الفصول ٨–١٣). ويخبر سولون كرويسوس، ملك ليديا، أن أسعد الرجال الذين كان يعرفهم لم يكن سوى مواطن أثيني غير معروف كان لديه أبناء رائعون، وظل على قيد الحياة ليرى أبناءه يربُّون أبناءهم أيضًا. وكان لدى كرويسوس نفسه ولدان: أحدهما أصم وأبكم، فيما قُتل الآخر — مثل أدونيس، بينما كان يصيد خنزيرًا بريًّا — بيد صديق قتل أخاه خطأ ونفاه أبوه بسبب ذلك (هيرودوت، الكتاب الأول، الفصول ٢٩–٣٣). وأمر استياجس ملك ميديا بقتل كورش، حفيده، عند ميلاده؛ لكيلا يستولي على العرش فيما بعد. وردًّا على فشل هارباجوس في القيام بالمهمة، يقتل استياجس ابن هارباجوس؛ بناءً على ذلك، يسقط كورش جده وإن لم يقتله (هيرودوت، الكتاب الأول، الفصول ١١٧–١١٩). ويتزوج كامبيسس ملك بلاد فارس، ابن كورش وخليفته، اثنتين من إخوته، ويقتل واحدة منهن، ثم يقتل أخاه أيضًا. ويُجن كامبيسس ويموت بلا أطفال (هيرودوت، الكتاب الثالث، الفصلان ٣١-٣٢)، وهكذا يحدث لشايارشاخ ملك بلاد فارس، أسوأ الملوك على الإطلاق.
أما عن الحياة العائلية للطغاة اليونانيين، الذين يقر هيرودوت بزيغهم وضلالهم، فمن أحداثها أن يقتل برياندر حاكم كورنث زوجته، ويعزل حماه عن العرش، ويتخلص من ابنه الموهوب الوحيد (هيرودوت، الكتاب الثالث، الفصل ٥٠، الجزء ٣؛ الفصل ٥٢، الجزء ٦). ويرفض بيسستراتوس حاكم أثينا ممارسة جنس «معتاد» مع زوجته الثانية؛ لأنه يخاف من وقوع لعنة على عائلتها (هيرودوت الكتاب الأول، الفصل ٦١، الجزء ١).
لا يستطيع أدونيس نيل المواطنية؛ نظرًا لأنه، مثل الطغاة، لا يستطيع ممارسة الحياة العائلية. من جانب، لا يؤسس أدونيس أية عائلة؛ فهو لا يتزوج، ولا ينجب أطفالًا، ويموت صغيرًا. من جانب آخر، لا يولد أدونيس لعائلة؛ فهو ابن زنا محارم، لا زواج، ويحاول أبوه قتل أمه. وبذلك، يُمنع أدونيس مرتين من نيل المواطنية: فهو لا يفتقر إلى النضج فحسب بل إلى الأصل العائلي، الذي هو نتيجة لعدم نضج الأم. فإذا كان هيرودوت يؤكد على الضرورة السياسية لتأسيس عائلة، يؤكد «دستور الأثينيين» لأرسطو على الضرورة السياسية للانحدار من أسرة ما: «الحق في المواطنية حقٌّ مكفول لأولئك الذين كان آباؤهم مواطنين.»
وإلى أن غيَّر كليسثنس الأساس الذي كانت تقوم عليه المواطنية في أثينا في عام ٥٠٧ق.م من القرابة إلى محل الإقامة، كانت العضوية في العشائر شرطًا ضروريًّا سابقًا للحصول على المواطنة. حتى بعد أن حلت وحدات الديم كتقسيم إداري، وقد كانت تتعلق بمحل الإقامة، محل العشائر باعتبارها الوحدة السياسية الأساسية، ظلت العشائر على قدر من الأهمية. على سبيل المثال، على الرغم من احتمالية أن يكون أحد الأثينيين في القرن الرابع مواطنًا دون أن يكون منتميًا لأي من العشائر، كان وضع ذلك المواطن «باعثًا على القلق ومحل سؤال». إضافةً إلى ذلك، كانت العضوية في وحدات الديم وراثية؛ بناءً عليه، ظلت المواطنية مسألة تتعلق بالميلاد، مثلما يبين «دستور الأثينيين» الذي يشير إلى عصر ما بعد كليسثنس.
لم يكتفِ اليونانيون بربط عدم النضج بالسياسة بل ربطوه أيضًا بالصيد. كان سوء طالع أدونيس في الصيد يرمز إلى سوء طالعه في مرحلة البلوغ. فيصير أدونيس الطريدة وليس الصياد. فهو لا يملك أية فكرة عن الصيد ومخاطره. وكان ينظر إلى العالم باعتباره عالمًا أموميًّا أو كان يظن نفسه في مأمن بحماية الإلهتين اللتين كانتا له بمنزلة الأم؛ فلا يلقي بالًا بتحذيرات فينوس من أن الحيوانات الخطرة لا تعبأ بالشباب أو بالجمال.
تصبح العلاقة بين الإنسان والصياد مجازًا للعلاقة بين الإنسان والمواطن. يرى بيير فيدال-ناكي (ولد عام ١٩٣٠) أن الصيد كان يمثل جانبًا رئيسًا من تدريب عسكري يمتد لعامين كان على الشباب الأثيني الاضطلاع به قبل أن ينالوا المواطنية، وذلك وفق «دستور الأثينيين». يرى فيدال-ناكي أن هاتين السنتين كانتا بمنزلة مرحلة مهمة ينفصل فيها المرء عن الحياة التي عرفها الشباب، أو الشباب الإغريقي، وما سيعرفونها لاحقًا؛ بناءً عليه، كان الشباب الإغريقي يقضي هاتين السنتين على حدود البلاد لا في المدينة، كما كانوا يقضونهما معًا وليس وسط عائلاتهم.
الأدهى من ذلك، كما يذهب فيدال-ناكي، كان الشباب الإغريقي المراهق يمارس نوعًا من الصيد يقابل ذلك النوع من الصيد الذي سيمارسونه لاحقًا عندما يصبحون محاربين هبليت بالغين. وكشباب، كانوا يمارسون الصيد أفرادًا، في الجبال، في الليل، ولا يحملون أية أسلحة سوى الشبك، ومن ثم كانوا يعتمدون على الخداع للإيقاع بالفريسة. أما كمحاربين هبليت، فقد كانوا يصطادون في جماعة، في السهول، خلال النهار، وكانوا مسلحين بالحراب، ومن ثم يعتمدون على الشجاعة والمهارة لقتل الفريسة. وبذلك أسهم التضاد بين صيد الشباب وصيد محاربين الهبليت في ترسيخ قيم الهبليت في عقول الشباب.
تتمثل قرينة فيدال-ناكي على الصلة بين التدريب العسكري للشباب والصيد في جانبين؛ أولًا: يحتكم فيدال-ناكي إلى الأسطورة المصاحبة لمهرجان أباتوريا، وهو المهرجان الذي كان الآباء الأثينيون يسجلون أبناءهم في سن الستة عشر عامًا كمواطنين، وكأعضاء في العشيرة، وكشباب لمدة عامين. ويؤكد فيدال-ناكي على أن موضوع الأسطورة، أسطورة ميلانثيوس الأثيني، أو «الأسود»، يتمثل في نموذج سلبي للشباب؛ وهو شاب لا يصير محارب هبليت أبدًا. حتى وهو بالغ، يلجأ هذا الشاب إلى الخداع وليس الشجاعة أو المهارة لهزيمة خصمه، زانثوس ملك بيوتيا («الأشقر»).
تتمثل العلاقة بين ميلانيون والتدريب العسكري للشباب في أن ميلانيون — كشخص أسود — يملك جميع الصفات المرتبطة بميلانثيوس الأسود، وأن ميلانيون يعتبر صيادًا شبيهًا بالشباب لا يتزوج أبدًا.
إذا طبَّق المرء ما حدث لميلانثيوس كمحارب على ميلانيون كصياد، فإنه سيجد أن ميلانثيوس وميلانيون سينجحان في صيد الفرائس التي يصطادها المراهقون فقط. في المقابل، يعتبر نموذج أدونيس أسوأ: إذ يفشل أدونيس في ممارسة الصيد من أي نوع؛ بناءً عليه، لا يُعد أدونيس — كميلانيون وميلانثيوس — مجرد مراهق لا يشب أبدًا إلى مرحلة البلوغ، بل إنه رضيع لا يشب أبدًا إلى مرحلة الطفولة. وتشير حدة فشله كصياد إلى حدة فشله كمواطن. فتدعو الأسطورة إلى تحقيق المواطنية، من خلال ضرب مثال شديد السلبية.