أهل القمة
١
قبيلة من النساء. خاطرة تُراوِده كثيرًا وهو ينظر نحوهن. سفرة الغداء معدَّة، مُغرِية للجائع. الصحاف والملاعق والشوك والسكاكين، وعاء البلاستيك المملوء بأرباع الأرغفة، الدورق والأكواب .. هُرِعت زهيرة إلى المطبخ لتُحضِّر الطعام. من باب الشُّرفة المفتوح لاح ميدان السكاكيني والجانب الأبعد من البستان الذي يتوسَّطه تحت سماء الخريف المنقوشة بسحائب بيضاء مُتناثرة .. نزع قبَّعته وألبسها فازةً فوق البوفيه واتخذ مجلسه، فعلت هامته بصورةٍ ملموسة فوق مستوى المائدة لطوله الفارع. جاءت زهرة بأواني الطعام، بالكوسة والشواء والأرز والمخلل. تحلَّقت النساء السفرة، سناء زوجته (٣٠ سنة) .. وكريماته الثلاث؛ أمل (١٠ سنوات) .. سهير (٨ سنوات) .. لمياء (٦ سنوات) .. زهيرة شقيقته (٤٠ سنة وتكبره بخمس سنوات) .. كريمتها سهام (١٧ سنة).
تناول خيارةً مُخلَّلة فدمعت عيناه السوداوان الصافيتان. ما أمهر شقيقته زهيرة! طاهية ماهرة؛ تُضفي على الطعام لذةً تُعوِّض ما ينقصه من ترف. يتجنَّب الثناء عليها إشفاقًا من إثارة سناء، يتحاشى قوتها أو بالأحرى عصبيَّتها. إنه قوي في القسم، أمام الخارجين على القانون، ولكنه يتحلَّى بالحكمة في شقته. السخط لا يُفارِق سناء منذ اضطُرَّت زهيرة وابنتها للإقامة معه. ورغم أنها تقوم بأعباء البيت كلها، رغم أنها تعمل كطاهية وخادمة، فإنها لم تستطِع أن تفوز برضا سناء. لسهام كريمة أخته جمالٌ بديع، «إنه يحب جمالها»، لم تحظَ بمثله كريمة من كريماته، رغم أن سناء لا بأس بها، وهو أيضًا لا بأس به، رغم ندبة في صدغه الأيسر من مسِّ رصاصة نجا منها في أثناء مطاردة عصابة في الدلنجات.
انتظمت السفرة حركة نشيطة في جو يسوده الصمت حتى خرقته سناء بصوتها الرفيع: عندنا أخبار.
فتساءل في توجس: ماذا عندكم؟
– بعد الانتهاء من الطعام.
حدثت مشاحنة من المشاحنات التي لا تنتهي. زهيرة وسهام يمكثان هنا بلا ترحيب. لمَ لا يعترف بأنه هو نفسه لا يُرحِّب بالزحام وأنه يُعاني منه من الناحية الاقتصادية، ولكن الواجب هو الواجب. انقلبت الشقة فأصبحت ثلاث حجرات للنوم .. ألغى كارهًا حجرة الاستقبال وأحلَّ مكانها السفرة .. وجعل من الصالة الصغيرة حجرة استقبال وجلوس. يومها قالت سناء: بيتي تهدَّم.
فتساءل بامتعاض: هل أرمي بهما في الطريق؟
– لمَ لم تذهب إلى أحد من أخواتك؟
– لا متسع لها، وكيف تذهب إلى بيت رجل غريب وأنا موجود؟!
– أنت ضابط .. ابحث لها عن شقة .. ولها معاش الأرملة.
فضحك ساخرًا وقال: شقة في هذا الزمان! .. أما المعاش فهو بضعة جنيهات .. لقد مات المرحوم بعد خدمة قصيرة.
– وما ذنبي أنا؟!
– لا حيلة لي أو لك.
من بادئ الأمر شعرت زهيرة بالحرج أكثر مما شعرت بالترمل. ومما يزيد الأسى أنها كانت في زواجها مُوفَّقة .. ولكن الموت عاجله. إنه يدرك تمامًا. يعرف أنها على يقين من أنها غير مرغوب فيها .. لا هي ولا ابنتها الجميلة. وسناء عصبية، لا تُحسِن إخفاء مشاعرها أو لا يهمُّها ذلك. ولم يُخفِّف من حدتها إقبال زهيرة على العمل اليومي الشاق. وطالبتها بالمعاش، ولكن زهيرة قالت بذل: إنه تافه، ولا بد من أن تظهر سهام بمظهرٍ لائق في المدرسة .. وأنا أيضًا .. وهو لا يكاد يفي بهذا أو ذاك.
ولاحظ أن شقيقته مُستوصية بالصبر والاستسلام .. تسمع وتتجاهل .. تتلقَّى الأحجار صامتةً واجمة .. تُحذِّر كريمتها من الانفعال، وأدرك أن سهام مُتمردة نوعًا ما. وقد نما إلى أُذنَيه يومًا صوت سهام وهي تقول لأمها: متى أُنقذك وأُنقذ نفسي؟
فتقول الأم: زوجة خالك لها عذرها، ألم تكن لطيفةً قبل أن نُضطرَّ للإقامة معها؟
– لكن خالي .. إنه ممتاز ولكنه ضعيف.
– ليس المفروض أن يكون ضابطًا في بيته أيضًا .. الغلاء نار يا سهام، كان الله في عونه.
وأشد ما يُزعج سهام هو موقف سناء من مستقبلها. قالت يومًا لزهيرة على مسمع منه: متى ما حصلت سهام على الثانوية العامة فعليها أن تعمل.
ولم تُحِر زهيرة جوابًا، أما سهام فقالت: هذا يعني ضياع مستقبلي.
فقالت سناء بحدة: إنك لا تُدركين حقيقة الوضع.
فقالت زهيرة: لمَ نتعجَّل الأمور؟
فقالت سناء بغضب: نحن نُربِّي ثلاث بنات، نحن نُعاني، عليك أن تفهمي ذلك.
فقالت زهيرة باستسلام: لتكُن مشيئة الله.
وكان محمد فوزي — الضابط — يقول لنفسه إن القبيلة مُمزَّقة .. ما منهن واحدة إلا وهي ظالمة ومظلومة .. الحياة تبدو أحيانًا لعنةً طويلة. ويتذكر كم أحبَّ أخواته فيما مضى وخاصةً هذه الأخت. وهي ليست أسوأ حظًّا منهن .. كلهن مُتعبات .. ووراء كل سرب من الذكور والإناث.
وتقول له زوجته سناء مُتحديةً: عليك منذ الآن أن تستعدَّ لزواج بناتك.
فيتساءل ضاحكًا: من الآن يا سناء؟
– عليك أن تشتريَ شقة لكلٍّ منهن.
فيضحك ضحكةً عالية ويهتف: أتحدَّى وزير الداخلية أن يفعل ذلك.
– ألا تسمع عن الذين يحتفلون بالزواج في هيلتون وشيراتون؟
– كما سمعت عن أغا خان رحمه الله.
ويُداعب أمل كبرى بناته ثم يتساءل: ماذا ندري عن الغد؟!
٢
عقب الغداء جلسوا في الصالة، وسأل محمد زوجته: ماذا عندكم من أخبار؟
ساد صمتٌ غامض كأن كل واحدة تدعو الأخرى للكلام، وقالت زهيرة: أحدهم يطلب خطبة سهام.
ارتسم الاهتمام في صفحة وجهه الأسمر. هذا الخبر قد يعني نكتةً سخيفة، وقد يَعِد بفرجٍ غير مُتوقَّع: من هو؟
– من نفس الحي، طالب بكلية العلوم، يُدعى رفعت حمدي.
نكتةٌ سخيفة لا فرج قريب كما يُوحي به الجو. تساءل: ماذا تعرفون عنه أيضًا؟
فقالت زهيرة: أسرةٌ طيبة.
فقالت سناء: ولكنها فقيرة.
فقالت زهيرة: سيكون مُوظَّفًا بعد ثلاثة أعوام، وتكون سهام قد وجدت عملًا أيضًا.
فقالت سناء: الجملة ثلاثون جنيهًا على أكثر تقدير.
فتساءلت زهيرة: هل نتجاهل سعادتها؟
فقال محمد فوزي مُتهربًا: أعطوني فرصة للتحرِّي والإحاطة.
فقالت سناء: المسألة واضحة، لن يملك مهرًا، لا بد من جهاز ولو حجرة واحدة، ثم لا بد من شقة، لسنا في زمن العواطف، وهذا يجب التفكير فيه من الآن.
فقال محمد مُتحرِّجًا: أعطوني فرصة.
وعند ذاك قالت سهام بجفاء: فلنعتبر الموضوع مُنتهيًا.
فرمقها خالها بحنان وسألها: لا شك أنك تعرفين أكثر مما نعرف؟
– أبدًا.
– أودُّ أن أسمع رأيك يا سهام.
– لقد أوضحت أبلة سناء الحقيقة.
فقالت سناء: ربنا يرزقك برجل قادر، لا فائدة من الشباب، هذا رأيي.
فقال محمد مُجاملًا: المهم رأيك أنت يا سهام.
فقالت سهام بضيقٍ واضح: لا رأي عندي يا خالي.
– العواطف وحدها لا تكفي.
– نعم.
– إني على استعداد لفعل ما تُشيرين به.
فقالت سناء: سهام جميلة وسوف تسنح لها فرصةٌ أطيب.
وسألته زهيرة: ما رأيك أنت يا أخي؟
فتفكَّر قليلًا ثم قال: رأيي أن تُصارحه سهام بما سمعت وتسمع رأيه.
فقالت سناء: معقول هذا الرأي.
هنا غادرت سهام الصالة إلى حجرتها، أما زهيرة فاغرورقت عيناها على رغمها.
سألتها سناء: هل أخطأنا؟
وبادَرها محمد: سأفعل ما تُشيرين به.
فقالت زهيرة: لا خطأ هناك البتة ولكني حزينة. البنت راغبة في التعليم ولن يُتاح لها ذلك، وراغبة في الشباب ولن يكون نصيبها. لا خطأ هناك ولكني حزينة.
٣
قرَّب مقعده من نافذة تُطلُّ على ميدان السكاكيني ليستردَّ أنفاسه. أي حظ هذا؟ إنه غير راضٍ عن نفسه ولا عن أي شيء. وحسن ألا يكون شابًّا. إنه زمن المودِّعين، ولكن .. وانقطعت أفكاره فجأةً. استقرَّت عيناه فوق البستان. هذا الوجه يعرفه تمامًا، كان صاحب الوجه يتربَّع على الحشائش مُسنِد الظهر إلى جذع نخلة. هو هو دون غيره؛ زعتر النوري. ماذا جاء به إلى هنا؟ هل يتربَّص به الأحمق؟ .. لا .. لا .. ثَمة سببٌ آخر. شعره حليق، ما زال حليقًا. مفهوم. لن أُمهله.
تناول قبعته وغادَر الشقة.
بعد دقيقة واحدة كان يقف أمام المتربع. وثب الرجل واقفًا مُتهلِّل الوجه. طويل القامة ولكنه دون محمد بقبضة. وجهه نحيل طويل .. حادُّ البصر .. نابت شعر اللحية .. يرتدي بلوفرًا بنيًّا قديمًا وبنطلونًا رماديًّا رثًّا وصندلًا. ابتسم عن أنيابٍ قوية مُلوَّنة وهتف: أهلًا بحضرة الضابط العظيم.
فسأله محمد فوزي: متى خرجت من السجن؟
– خرجت من السجن الذي دخلته بفضلك منذ شهر واحد.
– وماذا جاء بك إلى هنا؟
– جئت لأشمَّ الهواء النقي؟
– اسمع يا ابن الثعلب، ماذا جاء بك إلى هنا؟
فقال باسمًا: لماذا تكرهني يا محمد بك؟ .. لولاك ما كان الجن الأحمر نفسه يستطيع ضبطي مُتلبسًا ويُدخلني السجن. إنك ضابطٌ شريف ولكن ربنا أمر بالرحمة، ولا تنسَ العلاقة الحميمة التي تجمع بين الضابط والنشَّال، نحن معروفون لكم من قديم، نحن نتبادل التحية، وفي بعض حوادث النشل الحرجة تُطالبني بردِّ الشيء الثمين فأستردُّه من صاحبه خدمة لك. عظيم. أين الرحمة إذَن؟
فسأله بصرامة مُتجاهلًا مرافعته: لماذا تجلس أمام مسكني؟
– صدِّقني فإني أحبُّ هذه الحديقة.
– زعتر، حذار من المزاح.
– عظيم يا حضرة الضابط العظيم، فلأبحث عن حديقةٍ أخرى.
وتفحَّصه بدقة مليًّا ثم سأله: كيف تحصل على رزقك؟
– حتى الساعة لا رزق لي.
– هذا يعني أنك مُتشرد؟
– كلا.
ثم وهو يضحك: لا مؤهل لي، والحكومة لا تستخدم إلا ذوي المؤهلات.
فهتفت به: حذارِ من المزاح يا زعتر.
فقال زعتر بجدية: يلزمني رأسمال يا حضرة الضابط.
– هذا ليس من شأني، وإذا عثرت عليك مرةً أخرى بلا عمل فسوف أقبض عليك كمُتشرد.
– الله معنا.
– ادعُ الشيطان فهو إلهك.
– أستغفر الله رب العالمين.
– أجِبني، ماذا أنت فاعل؟
فتنهَّد قائلًا: سأبحث عن عمل.
فقال بهدوءٍ مُخيف: ابعد عن وجهي قبل أن أُقرِّر القبض عليك.
رفع زعتر يده تحية ومضى في خطوات سريعة كأنه مشترك في سباق المشي. وقف محمد فوزي يتبعه بعينَيه حتى واراه شارع ابن خلدون.
٤
حظه من النجاح في قسم الشرطة أضعاف حظه منه في بيته، إنه ينتصر عادةً على اللصوص والنشَّالين، ولكنه ينهزم في غشاء الهموم العائلية. وقد أبلغته زهيرة أن الشاب رفعت حمدي يرجو لقاءه فرحَّب بذلك. واقترحت أن تحضر سهام اللقاء فلم يُمانع. ولأنه لا يوجد في الشقة مكان استقبال مُناسب فقد تم اللقاء في حديقة الشاي بحديقة الحيوان. وجده شابًّا معتدل القامة بشوش الوجه واضح الرجولة. قال لنفسه ومن واقع خبرته العريقة إنه يوحي بالثقة ويمكن التفاهم معه. قال الشاب: إني معجب بشخصية آنسة سهام، جادَّة ومحترمة، وحضرتك رجل ذو سمعة طيبة جدًّا.
فشكره محمد فواصَل حديثه: ما يهمُّ العلاقةَ المقدسة متوفرٌ لدينا.
فابتسم محمد قائلًا: للأسف الشديد فإنه تُغطي ظروفٌ جانبية على الشروط الجوهرية.
فقال الشاب بحماس العاشق: علينا أن نتغلب عليها.
– هات ما عندك.
– أمامي ثلاثة أعوام، عملي مضمون في التدريس أو المعامل.
– لعل التدريس أفضل فيما يُقال.
– وأمامي فرصة للعمل في الخارج أيضًا.
– جميل ذلك، ولكن يجب أن تعلم أننا لا نملك تكاليف الزواج.
– أعرف ذلك، المهم أن تُكمل سهام تعليمها.
– زدني إيضاحًا.
– إنها أيضًا ترغب في دراسة العلوم، وستجد فرصة للعمل في الخارج.
دخلت سناء زوجته في إطار الجلسة، فقال بحزم: ظروف حتمية توجب علينا توظيفها حال حصولها على الثانوية العامة في نهاية العام.
– ألا يمكن …
فقاطَعه: غير ممكن. إني آسف.
فتفكر رفعت مليًّا مغمومًا ثم قال: فلنُعلن خطبتنا الآن، ولنؤجل الهموم للمستقبل.
وكان محمد يلحظ سهام من آن لآن ويقرأ موافقتها الصامتة، ولكنه لم يرَ بدًّا من أن يقول: تصرفٌ غير مقبول.
– لماذا؟
– إنه يعني انتظارًا طويلًا وغير مضمون العواقب.
– أرى أنه ما دامت النية الطيبة مُتوفرة فالعقبات تذوب عادة.
– لا أُشاركك الرأي، سهام كريمة شقيقتي، ولا أريد أن أُعلِّق مستقبلها على المجهول.
– إنه ليس مجهولًا.
– ولكن عندي رأي أفضل.
– ما هو يا سيدي؟
– أن يسير كلٌّ منكما في سبيله دون التزام بعلاقةٍ ما، أنا شخصيًّا لا أحب الخطبة أن تطول بلا حدود، فإذا وُجدت ظروفٌ ملائمة في المستقبل فلا بأس من الموافقة عند ذاك.
فقال رفعت حمدي بقلق: قد يتقدم لها في أثناء ذلك رجلٌ ما.
– أُصارحك بأنني سأعمل ما أراه في صالحها و…
وتوقَّف مُتمهلًا ثم قال عادلًا عما كان في نيَّته قوله: ما أراه في صالحها.
فقال رفعت بهدوء: أظن من الإنصاف احترام رأيها.
– طبعًا .. طبعًا.
وساد صمتٌ مُثقَل بالخيبة .. وكانت سُحبُ الخريف مُنبسطة فلم يهبط من الشمس شعاعٌ واحد، غير أن البرودة كانت وانيةً مُحتملة .. وابتسم محمد فوزي وقال: هناك رجاء لا مَفرَّ منه.
فنظر إليه الشاب مُستفهمًا، فقال بحزم لا يجد مشقة في دعوته في أي وقت: ألَّا يقع بينكما في الهدنة المقترحة لقاء من أي نوع كان.
لحظ الرجل سهام في طريق العودة مرَّات .. قال لنفسه إنها ستجهش في البكاء حالما تنفرد بنفسها .. لعن نفسه .. ولعن أشياء كثيرة.
٥
كان مُنفردًا بنفسه في مكتبه عندما استأذن زغلول رأفت في مقابلته .. نهض باهتمام فاستقبله عند الباب. شدَّ على يده باحترام، وأجلسه أمام مكتبه وهو يقول: شرَّفت يا أفندم.
الرجل في الأربعين، ولكنه يتمتَّع بحيوية شاب في العشرين .. بَدِين مع ميل إلى القِصر، كبير القسمات، داكن السُّمرة .. معروف أنه رجل أعمال، وأنه ذو صلات، ويتردد اسمه أحيانًا عند التبرع لمشروعاتٍ خيرية في الحي.
قال الرجل بصوتٍ مبحوح قليلًا: كان يجب أن نتعارف من قديم؛ فأنت ضابط ذو سمعة هائلة.
– كانت ستكون فرصةً سعيدة لمعرفة وجيه من مُحبِّي الخير.
– شكرًا، ها هي الفرصة ولكنها ليست سعيدة.
وضحك، فابتسم محمد فوزي وقال: حادثٌ سخيف؟
– ثمنه عشرة آلاف.
وقدَّم سيجارة؛ فلما اعتذر لعدم التدخين أشعلها وقال: نُشلت حافظة النقود، بمائة جنيه غير الفكة، ولكن توجد بها علَّاقة مفاتيح ذهبية وذات فص من الماس.
فتساءل محمد: كيف يُنشَل رجل مثلك؟ .. لا بد أنك كنت في حفل.
– هو ذلك .. في جامع القبة الفداوية.
– آه.
– أعتقد أنه ليس من الميسور بيعه إذا وزَّعنا نشرة بأوصافه.
– سنفعل ذلك على سبيل الحيطة، ولكن النشَّال يبيعه بثمن بخس لمن يُصادفه.
فقال الرجل مُبتسمًا: إنه عزيز لأسبابٍ شخصية. ما نسبة الأمل في استرداده؟
فقال محمد فوزي باسمًا ابتسامةً أسيفة: لا سبيل إلى نشَّال إلا إن ضُبِط مُتلبِّسًا. نحن نعرفهم ولكن من أين لنا الدليل، وثَمة تنبيهاتٌ مُتلاحقة بوجوب احترام القانون.
– إذَن أقول عليه العوض؟
– توجد وسيلةٌ مُجرَّبة في الأحوال النادرة. أعطِني فرصة أربعًا وعشرين ساعة.
– وإذا لم تنفع؟
– سنسير في الإجراءات العقيمة.
– لكم ولا شك وسائل سحرية أقرأ عن أخبارها أحيانًا في الصحف.
٦
أمر الضابط باستدعاء زعتر النوري .. جميع المخبرين يعرفون مقهى النشَّالين المعروف بمقهى حنش في خلاء الحدائق فيما تتَّصل بالحقول، وهو الذي أطلق عليه المعلم حنش اسم «مقهى الأمراء» بعد الثورة .. ودخل زعتر حجرة الضابط تبوح عيناه الحادَّتان بنظرةٍ قلقة مُتوجِّسة وهو يقول: ستجعلني لعبتك يا حضرة الضابط؟
لم يرفع رأسه عن أوراق بين يدَيه. تركه وحده في دوَّامة التوقعات المُزعِجة. قال زعتر: أعطِني فرصة.
نظر إليه ببرود وسأله: أعتقد أنك مُصمِّم على تغيير حياتك، قد أصبحت من المُصلِّين.
– نعم؟!
– رآك البعض وأنت تؤدي فريضة الصلاة.
– أنا ما دخلت جامعًا قطُّ طيلة حياتي.
– جامع القبة الفداوية.
– سيدي الضابط أنا لا أفهم شيئًا.
– ولا أنا.
– أنا تحت أمرك.
قال بهدوء: أريد علَّاقة المفاتيح.
تراجَع رأسه قليلًا. اختفت نظرة القلق. أدرك أنه مطلوب لمفاوضة. تشجَّع قائلًا: أي علَّاقة مفاتيح؟
– نحن نفهم بعضنا يا زعتر.
– مذ خرجت من السجن وأنا أعيش عالة على المعلم حنش.
– نَشْل حافظة الوجيه زغلول رأفت عملٌ لا يُقدِم عليه سِواك.
فابتسم زعتر وقال: إنك تطلب مساعدتي.
– حذار من الغرور.
– لقد قدَّمت أكثر من خدمة، ولكن صدري ينقبض في جو القسم.
– لا تخشَ شيئًا. إنك تعرف ما تعنيه كلمتي.
– كلام رجال؟
– نعم يا ابن الثعلب.
– عظيم .. لنبدأ من الأول، ماذا تريد؟
– علَّاقة رأفت زغلول.
– لم أنشلها.
– لا أصدِّقك.
– أُقسم لك بشرفي.
فضحك محمد فوزي قائلًا: يا ابن الثعلب.
– أُقسم لك بشرفك أنت.
قال الضابط بحدة: عليك اللعنة، أتعرف ما يعنيه هذا القسم؟
– أعرف.
– فمن نشلها؟
فهزَّ رأسه قائلًا: سؤالٌ غير جدير بذكائك.
– عندك علم بالموضوع؟
– غير جدير بذكائك أيضًا.
فنظر إليه مُقطِّبًا وقد اكفهرَّ وجهه.
قال زعتر: يلزمني وقت للعمل.
– متى تُحضِرها لي؟
– لا أدري، وربما ضاعت إلى الأبد.
– اسمع يا ابن الثعلب …
– أعدك بأني سأبذل جهدي.
– في ظرف يوم.
– على الله الجبر.
تمهَّل الضابط قليلًا ثم قال: ربما نالك خير، الرجل ثري لدرجة الخيال.
قال زعتر بحماس: لا يهمُّني المال، ما يهمُّني حقًّا هو خِدمتك.
تمتم محمد فوزي باسمًا: يا ابن الثعلب!
٧
المفاجأة أن زعتر طرَق باب الضابط عصر اليوم التالي. كانت سهام هي التي فتحت الباب، وهي التي أبلغت خالها بقدوم زائر يُدعى زعتر. انفعل محمد انفعالًا شديدًا ولعنه ألف لعنة، غير أنه اضطُرَّ لاستقباله ومجالسته في الصالة، بل وقدَّم له القهوة. بدا زعتر مُفعَمًا بالحيوية والسعادة. قال: لا تؤاخذني على حضوري إلى بيتك؛ إذ إنني أكره القسم.
– ماذا فعلت؟
دسَّ يده في جيبه فاستخرج منه العلَّاقة والمحفظة. تمتم محمد: والنقود أيضًا؟
– عن آخر ملِّيم، إذا لم تكن في الاتفاق فدعها لي.
فقال محمد مُداعبًا لأول مرة: الغنى غِنى النفس.
فقال الآخر بتسليم: أمرك.
– من الذي نشلها يا زعتر؟
– لماذا تسأل يا حضرة الضابط؟
– العلم بالشيء ولا الجهل به.
فابتسم الآخر قائلًا: لم أخُن زميلًا في حياتي.
– حقًّا؟! .. يا لك من رجلٍ عظيم في الشر.
فضحك زعتر واشتدَّ لمعان عينَيه وقال: وشرف ربنا لولا الحظ السيئ …
– هه .. لكنت من رجال الأمن؟
– كلا .. لا يُعجبني عملك.
– حقًّا؟ .. ولِمَه؟
– أقول لك، إنك تُطارِد اللصوص لحساب الحكومة بينما الحكومة أكبر لص في الدولة.
– يا ابن الثعلب!
– إنكم تكرهون قول الحق يا محمد بك.
– هه .. إذَن ماذا تُفضِّل من المهن؟
فتفكَّر قليلًا وقال: أقرب عمل لعملي الراهن أن أكون مدير بنك.
فلم يتمالك محمد فوزي نفسه من الضحك، فقال زعتر: أريد رغيفًا محشوًّا باللحم المُحمَّر.
– طلب غير هيِّن، ولكن سيكون لك ما تريد.
فقال زعتر وهو يتنهَّد: ورغم العيش والملح سترجعني إلى السجن غدًا إذا وقعت في قبضتك؟
– طبعًا .. لا مَفرَّ من ذلك.
– الأمر لله .. من صاحب العلَّاقة؟
– زغلول رأفت من رجال الأعمال والبر.
– رجل أعمال؟ .. طبعًا لص، ولكن ما تخصُّصه؟
– كل الناس عندك لصوص؟!
– اسمع يا محمد بك .. ستندم ذات يوم على تمسُّكك بالشرف.
– على فكرة يجب أن أزفَّ إليه البشرى.
وأدار قرص التليفون: زغلول بك رأفت؟
– …
– مُبارك .. العلَّاقة والحافظة معي.
– …
– وهو أيضًا موجود.
– …
– ولكن .. فكِّر قليلًا .. إنه قادر على أن يخطف الكحل من العين.
– …
– إلى اللقاء يا إكسلانس.
والتفت نحو زعتر قائلًا: إنه مُصمِّم على رؤيتك.
فقال زعتر باهتمام: تحت أمره.
– كن عاقلًا .. وكن حكيمًا أيضًا في الإفادة مما يجود به عليك.
– طبعًا .. ولن أنسى المالك الشرعي للمحفظة.
– المالك الشرعي؟
– الذي نشلها يا محمد بك.
فابتسم الضابط وقال: احذر أن تجعلني أندم على الموافقة. الحظ يفتح لك بابًا شريفًا يا زعتر .. والآن دعني أُعدُّ لك الرغيف.
ولكن زعتر نهض في لهفة وقال: لا تضيِّع الوقت. شكرًا. بنا إلى الرجل، وسوف أشتري اللحم بنقودي الحلال لأول مرة.
٨
مضت حياة الضابط بهمومها الشخصية وتوفيقها العام. البيت يسوده غالبًا التوتر، وقد استغرقت سهام في دراستها ولكن في تعاسةٍ ملحوظة. من يدري؟ فقد ينتصر الحب في النهاية، سيَجد لسهام عملًا في نهاية العام، وسينضمُّ مُرتَّبها إلى معاش أمها، وربما حقَّق رفعت حمدي حلمه، وهاجرت الأسرة الجديدة — سهام، رفعت، زهيرة — إلى الخارج مجبورة الخاطر. عند ذاك يطمئنُّ على أخته وتحظى أسرته بالاستقلال وتستكنُّ أعصاب سناء زوجته. ما أجمل الأحلام المُلطِّفة للآلام!
وحصلت سهام على الثانوية العامة، وراح يسعى لإلحاقها بعمل، ولكن التوفيق في ذلك بدا بعيد المنال. وفي ذلك الوقت جاءه المخبرون بنبأ مُثير، وهو أن مقهى الأمراء أو مقهى النشَّالين قد خلا منهم. وكان قد لاحَظ قلةً ملموسة في حوادث النشل، حتى مضت أشهُر لم يتلقَّ فيها بلاغًا واحدًا. وأمر بالبحث عن مجمعهم الجديد ولكن لم يُعثَر لهم على أثر، ولم يجد أحد من المخبرين عند المعلم حنش صاحب المقهى تفسيرًا، وفسَّره هو على هواه فقال إنهم ضاقوا بصرامته ويقظة المخبرين فهاجروا من الحي. وسُرَّ المأمور بتلك النتيجة غير المتوقَّعة، وهنَّأ محمد فوزي عليها.
•••
وكان يُغادِر نادي الشرطة ذات يوم عندما رأى شابًّا وشابَّة في غاية الفخامة يُغادِران سيارة ويتَّجهان نحو برج القاهرة. نال من الشاب نظرةً عابرة وهو يمضي في طريقه، ولكنها لم تتلاشَ كما توقَّع. التفت وراءه فرأى الشخصَين يصعدان سُلَّم البرج، جعل يتأملهما حتى غابا في المدخل.
ما معنى هذا؟ هل سبق له أن رأى هذا الشاب؟ لقد التقت عيناهما لحظةً خاطفة؟ لم تكن عينا الآخر مُحايِدتَين. أم هكذا خُيِّل إليه؟ لمح فيهما معنًى ما، حياة من نوعٍ ما تشي بنوع من المعرفة، وضرب الأرض بقدمه، مستحيل. توقَّف عن المشي. استدار مُتجهًا نحو البرج. تفَّحص الكافتيريا ثم صعد إلى الشرفة العليا. رأى الشخصَين يُطلَّان على القاهرة ونسمةٌ عليلة من نسمات الصيف تُداعبهما. اقترب حتى وقف وراءهما. سمع الشاب يقول للشابة بصوتٍ يسمعه هو كأنما هو المقصود به: ألم أقُل لك إن له عينَين لا تُخدعان؟
فهتف محمد فوزي: زعتر النوري.
فاستدار نحوه باسمًا عن أسنانٍ بيضاء وهو يقول مُحتجًّا: محمد زغلول من فضلك؟
وأشار إلى الفتاة قائلًا: صديقتي بهية.
فتمتم الضابط: جلجلة!
– قلت بهية من فضلك.
جعل ينظر إليها بريبة، فضحك زعتر وقال: بهية اسمٌ اختارته بنفسها، أما أنا فكوَّنت اسمي الجديد من اسمك «محمد» واسم البك زغلول، بصفتكما صاحبَي الفضل الأول.
فقطَّب محمد فوزي مُتسائلًا: ما معنى هذا؟
– عن أي شيء تسأل؟
– أنت تفهم ما أعنيه تمامًا يا زعتر.
وضح له عن قربٍ أن فخامة الملابس وصقل الوجه والأطراف لم تُغطِّ تمامًا عن الابتذال في الحركة والهيئة، وتقدَّمت بهية (جلجلة) خطوة بجمالها الشعبي الصارخ وتساءلت مُحتجَّةً: ماذا فعلنا لتُحقِّق معنا؟
وسأله زعتر النوري بشيء من العظمة: بأي حق تتعرَّض لنا يا حضرة الضابط؟
فقال الضابط: أريد أن أكتشف الجريمة المُستترة وراء هذا التغيير.
– إنك تُخاطِب رجلًا من رجال الأعمال، وهذه امرأة من نساء الأعمال.
– نحن نعمل في ضوء النهار.
– لن يخفى سر.
فضحك زعتر وقال: يؤسفني أن يكون أول لقاء لنا على هذا النحو، لنا ماضٍ مشترك، وفضلك عليَّ عميم، أنت الذي سلَّمتني مفتاح السعادة، فماذا يُثيرك عليَّ الآن؟ دعني أدعوك لفنجان شاي .. وليطمئنَّ قلبك .. وهاك بطاقتي الشخصية إذا شئت.
فقال محمد بذهول: إنه عامٌ واحد.
– ما قيمة الزمن؟ .. صفقةٌ واحدة تُحوِّلك من دنيا إلى دنيا، الفضل لك ولزغلول رأفت أيضًا، ما زلت أُعَد من رجاله، ولي أيضًا رجالي.
– تهريب؟!
– رجعنا نُردِّد ألفاظًا لا معنى لها، اسمها الوحيد «تجارة» .. حتى لو أصررت على الألفاظ الميري فربما كانت تهريبًا قبل أشهُر، لكننا اليوم في عصر الانفتاح، لا تهريب ولا دياولو .. تفضَّل بزيارتنا .. وانظر إلى تلميذك بنفسك.
فقال الضابط ببطء: زعتر …
فقاطَعه بسرعة: محمد زغلول من فضلك.
– أنت تعرف من هو محمد فوزي.
– طبعًا .. أعرف أنك ستتحرَّك .. أعرف أنك تحلم بإرجاعي إلى السجن .. ولكن الحقيقة ستتكشَّف لك .. ستعرف أنني رجلٌ شريف .. آمل أن نكون أصدقاء .. لست دون زغلول رأفت استحقاقًا لذلك.
وقالت بهية بدلال: وأنا أيضًا أريدك أن تكون صديقًا لي.
وتساءل زعتر: البضائع المُهرَّبة كانت تملأ الطرقات فلِمَ لم تُصادروها؟ .. لمَ لم تقبضوا على مُروِّجيها؟ .. كنا نجول في الميدان يحرسنا رجال الأمن .. ووراء كل واحد منا شخصٌ ذو مقام .. انتهى عصر المغامرة، وما نحن اليوم إلا تجارٌ شرفاء .. ثم إنك صاحب الفضل.
– أضجرتني بقولك هذا.
– لمَ يُغضبك قول الحق؟ .. أنا أيضًا نُشلت ذات يوم، ولكني استرددت مالي بقوتي الذاتية، لم ألجأ إليك لتستردَّ بقوتك مال لص كبير من نشَّالٍ مسكين.
وهتفت بهية: صديقك زغلول رأفت لصٌّ عظيم.
فانتهرها زعتر قائلًا: اقطعي لسانك. إنه بحكم القانون الجديد تاجرٌ عظيم.
فقالت مخاطبةً محمد فوزي: نحن ندعوك إلى فنجان شاي.
فقطَّب الضابط مُتحولًا عنهما، فقال له زعتر: يؤسفني ألا تُلبِّي دعوتنا، ولكن لا تُبدِّد قوتك في لا شيء.
٩
اقترب من الخلاء المُشارِف للحقول فتبدَّى له مقهى الأمراء في عزلته ورثاثته؛ حجرة حجرية يتقدَّمها فِناءٌ ترابي مُسوَّر بالصبَّار. بدا كالخالي بعد أن تخلَّى زبائنه الأصليون عنه. وقف في الفِناء المهجور فلمحه الحنش — العجوز الأحدب — وسرعان ما هُرِع إليه مُرحِّبًا وقلقًا في آن. جلس محمد وهو يُشير للكرسي المُقابل داعيًا العجوز للجلوس وهو يقول: لا تُقدِّم شيئًا، لي معك حديث يا حنش.
جلس الحنش، لم يُزايله القلق. قال: لم أرَك منذ زمن، آخر مرة كنا في عاشوراء.
– أذكر ذلك .. ولكن أين أصحابنا؟
أخذ يطمئنُّ نوعًا ما فقال: ذهبوا ولم يرجعوا .. اختفَوا تمامًا.
رماه بنظرةٍ طويلة وقال: عرفت ذلك، ولكن أين ذهبوا يا حنش؟
– الله وحده يعلم.
– ولكنك تدري أشياء ولا شك.
– هل وقعت حوادث نشل؟
– كلا.
– ماذا يهمُّك من أمرهم بعد ذلك؟
– هذا شأني يا حنش.
– والله …
فقاطَعه بنبرةٍ آمرة: هاتِ ما عندك.
اطمأنَّ العجوز تمامًا وشعر بأهميته، قال: لقد أقلعوا عن النشل، غدًا سيختفي اللصوص جميعًا.
– هات ما عندك.
فضحك العجوز عن فمٍ خالٍ وقال: أنت السبب يا حضرة الضابط.
– ذلك بالنسبة لزعتر النوري. إني أسأل عن الآخرين.
– قيل إن زعتر ذهب للقاء الرجل الذي نشله.
– أعرف ذلك طبعًا.
– وإذا بالحال يتغيَّر تمامًا، لم يعد عتريس النوري إلينا. انتظروا، انتظروا طويلًا ولكنه لم يعد، وكادت جلجلة تُجَن.
– ثم؟
– ظنوا أنه قُبِض عليه .. أخذوا يتناسَونه .. حتى جلجلة بدأت تستجيب لعُشَّاق آخرين .. حتى كان يوم.
وسكت الرجل ليشحن الضابط بالشوق، فقال هذا باستياء: استمِرَّ يا عجوز.
– كانوا في الداخل يُقامرون حين دخل فجأةً سمسون العفش مُضطربًا بفرحةٍ طاغية، لوَّح لهم بحافظة نقود فاخرة وتساءل: «لمن هذه؟» فأجابه أحدهم مُتفكهًا: للسفير الأمريكي. ولكنه قال بهدوء: إنه عتريس النوري. ملَكهم ذهولٌ شامل. أقبلوا نحوه وفي مقدمتهم جلجلة، أقسَم لهم على صدقه. أين هو؟ لماذا لم يعد؟ وكيف نشلته؟ وراح الرجل يقول: «رأيته في ميدان رمسيس. كان يُغادِر سيارة. ليس عتريس الزمان الأول، شخص آخر تمامًا، أي وجاهة وأبهة، شككت فيه طويلًا حتى عرفت مشيته وسمعت صوته. إنه عتريس النوري. ماذا حصل له؟ كل شيء تغيَّر حتى جلده. تغيَّر لونه أيضًا كأنه نُقِع في الماء عامًا. هل استولى على ثروة الرجل الذي دعاه ليُكافئه؟ هل نشل البنك الأهلي؟ وهو يقصد دكان غيار، إنه محترم ابن الدائخة. في الحال رسمت خطة لنشله، نشلته في الدكان. هذه هي الحكاية.» وصاحت جلجلة: الخائن ابن الخائنة. أين يُقيم؟ ماذا يعمل؟ ولكن سمسون العفش لم يكن لديه مزيد. وصاحت جلجلة: لا بد من العثور عليه .. وأكثر من صوتٍ صاح: لن يفلت ولو اختبأ في جبال «الواق الواق». وفيما هم يتبادلون الرأي إذ بدا عتريس النوري في مدخل الحجرة وهو يرمقهم بنظرةٍ ثقيلة مُحتدمة بالسباب والسخرية.
وسكت العجوز ليستريح ويسعل ما شاء له السعال، فصبر محمد فوزي حتى استطرد: دخل منفوخًا بالأبهة. تبادلوا النظرات في صمتٍ هادئ، حتى خرقته جلجلة مُتسائلةً: «من سعادة الباشا القادم؟» فقال بهدوء: الحافظة أولًا ثم نتكلم، فسأله سمسون العفش: عن أي حافظة تتكلم؟ فثقبه بنظرة من عينَيه الحادَّتَين وقال: هو أنت يا ابن الخائنة! قلبي قال لي .. فقالت جلجلة: «قلب المؤمن!» فقال زعتر لسمسون: «الحافظة واعتذر لعمك.»
– أنت خائن.
– زعتر خائن!
– أين كنت؟ .. تقطعنا للنقود .. من أين لك هذا؟
– العمل الشريف.
هزَّت جلجلة وسطها وهتفت: ادعوا له .. ادعوا له.
– العمل الشريف .. عمل الناس الأجلَّاء .. هات الحافظة.
– أقسم لك بشرفي …
قاطَعه مُقهقهًا: احتفِظ بشرفك وهات المحفظة.
فقال سمسون بتسليم: لي مكافأة.
– دع ذلك للنساء، هات الحافظة لنتكلم في المفيد.
فرمى بها إليه سمسون وهو يقول: نار في جثة الخائن.
– الله يسامحك .. كان في خطتي أن أزوركم في الوقت المناسب.
فتساءلت جلجلة: وما الوقت المناسب؟
– هو وقت الخير، لا يتقدم ولا يتأخر.
– ومتى يجيء؟
– عما قريب جدًّا.
– ما هو العمل؟
– تجارة .. بضائع تجيء من أوروبا.
– تهريب؟!
– الصبر .. موعدنا بعد شهر واحد.
وفي الميعاد يا حضرة الضابط ذهبوا جميعًا ولم يرجع منهم أحد.
– ترامقا صامتَين، ثم تساءل الضابط: أين هم الآن؟
فقال العجوز بقلق: إنهم خارج منطقتك.
– نعم .. هل تُعلمني واجبي؟ أين هم الآن؟
– إنهم يعملون في ضوء النهار وتحت حماية الشرطة.
– ألم أقل لك إنك تعرف أشياء كثيرة؟
فضحك العجوز وتساءل: ألم تسمع عن سوق ليبيا؟
– كلا.
– إنه في القلعة يا حضرة الضابط.
١٠
يموج سوق ليبيا بالخلق والحركة والأصوات، يغمره ضوء الكلوبات الأحمر المُدلَّاة أعمدة من رءوس مغروسة في الأركان؛ أمواج تتلاطم من النساء والرجال مصبوغة الوجوه بالأضواء المُركَّزة. قال الضابط إنهم اختاروا مكانًا مُناسبًا بين القلعة والمساقي القديمة. وتابَع بعينَيه الأكشاك القائمة في محيط السوق مُكتظَّة بالصابون والقوارير والعُلب والبرطمانات والأدوات الكهربائية والإلكترونات. وراء كل كشك صُفَّت الفريجيديرات والسخَّانات ومُكيِّفات الهواء والنجف في سرادقات. بُهِر الضابط بألوان البضائع، بجنون البيع والشراء، بالمهد الذي يلد أناسًا جددًا. ها هي وجوه العصابة التي اختصَّ دهرًا بمراقبتها، خُلقوا من جديد. إنهم يرمقونه بدهشة لا تخلو من قلق ثم ينسونه تمامًا. الشرطة تحفظ الأمن، والنشَّالون أصواتهم مُرتفعة. سيَختفي اللصوص ويُستغنى بالتالي عن رجال الأمن. ما علاقة زغلول رأفت بهذا كله؟ أصبح هؤلاء من الأغنياء، أما هو وأضرابه فيغوصون في غمار الفقراء. ها هو زعتر، محمد زغلول أستغفر الله، معه جلجلة في كشك واحد. وجم الرجل عندما رآه. ها هو يُقبِل نحوه مرحًا مُرحبًا: أهلًا محمد بك .. خطوة عزيزة.
– أهلًا بك.
– انتقلت إلى منطقتنا؟
– كلَّا.
– جئت للشراء؟
– للفُرجة.
فتحت له جلجلة علبة كوكاكولا مستوردة وقدَّمتها مُبتسمةً. قال: شكرًا، لا أحبها.
تناولها زعتر وراح يشرب قائلًا: إني أعرف ما يحرجك .. لعلك سُرِرت بما ترى، تاب الله علينا.
– حقًّا؟ .. من النشل إلى التهريب؟
فضحك زعتر قائلًا: عملُنا مشروع، انظر إلى الشرطة، نحن تجار، أناس يحتجون إذا الفقراء اغتنَوا.
– الحال مَعدِن.
– سمسون دفع أمس خلوَّ رجل لا يُستهان به وأصبح من سكان المنيل.
وقالت جلجلة: عندنا بضائع تجنن .. شاهد بنفسك.
فقال في هدوء: لست في حاجة إلى شيء.
فسأله زعتر بقلق: لمَ شرَّفتنا؟
– العلم بالشيء ولا الجهل به.
– اسمع يا حضرة الضابط، ما كان تهريبًا أصبح بفضل الانفتاح تجارةً مشروعة.
فضحك محمد فوزي ولم ينبس، فواصَل زعتر: سيكون أبناؤنا ضباطًا ووكلاء نيابة.
– ولمَ ترجعهم إلى الفقر؟
فتمادى الآخر في حماسه قائلًا: ماذا كان الأمراء والباشوات قبل أن يصيروا أمراء وباشوات؟ .. كانوا لصوصًا؛ فنحن أصل الوجود يا محمد بك .. ولكن أناسًا يكرهون أن يفعل أبناء الشعب مثل الأمراء والباشوات.
– يا لها من آراء!
– دعنا من هذا كله .. ألا يلزمك فريجيدير .. معصرة .. ريكوردر .. مقويات؟ كل شيء تحت أمرك، ومن غير فلوس.
– إنك لكريم ولكني لا أريد شيئًا.
فمدَّت جلجلة عنقها بدلال وإغراء وتساءلت: ألا يُعجِبك شيء؟
فتساءل الضابط: هل تزوَّجتما؟
فقال زعتر: كلا .. إنها تُهدِّدني بالقتل.
– لمَ؟
– رأيي أنه يجب أن أتزوَّج من أسرة .. وعليها أن تبحث هي أيضًا عن عريس لقطة.
قال محمد فوزي لنفسه إنها جميلة، حتى ابتذالها جذَّاب، ليس في بيته من يُضارعها في جمالها إلا سهام.
وقالت بهية (جلجلة): إنه وغد يستحقُّ الإعدام.
فقال الضابط: إنها لمشكلة.
فقالت جلجلة: لا أهمية لذلك، المهم أن نُقدِّم لك هدية.
– شكرًا، لا عودة إلى هذا الحديث.
فقال زعتر: صدِّقني لا يقضي بالفقر على الإنسان إلا عقله.
وقالت له جلجلة: لو عثرت على رجل قوي مِثلك لزهدت فورًا في هذا الوغد.
فتجاهَل قولها ضاغطًا تأثُّره الباطني.
فعادت تقول: إذا لم تقبل هدية مستوردة فخُذني أنا هدية محلية .. ما رأيك؟
فقال زعتر: وتهديني حلًّا لمشكلتي معها.
فسأله محمد فوزي: هل صادَفتك متاعب أيام التهريب؟
– لا تكاد تُذكَر، كل كشك يكمن وراءه رجلٌ هامٌّ يحميه من بعيد.
– لا تُبالغ.
– هي الحقيقة، أنت نفسك رجَّعت إلى زغلول رأفت ماله الضائع.
– رجل لا غبار عليه.
– صدِّقني ليس في ثروته مليم حلال واحد.
– ماذا فعل معك؟
– وظَّفني عنده في أعمال تهريب تحتاج إلى جرأةٍ خاصة، تعلَّمت أشياء وأشياء، استعملت بدَوري العصابة، اليوم العمل كله مشروع.
وسألته جلجلة: هل لو كنت في منطقتنا أيام التهريب كنت قبضت علينا؟
– طبعًا.
– رغم الحماية؟
– بلا تردُّد.
فقال زعتر ضاحكًا: يعملها ولو تعرَّض للنفي، أنا عارفه.
فقالت جلجلة: يا لك من حبيبٍ قاسٍ، وهل كنت تقبض على زغلول رأفت؟
– ربما قبلكم.
فثنَت رقبتها في مرح وقالت: ستصبح المدينة بلا لصوص، ماذا تريد أكثر من ذلك؟
– أو ستصبح كلها لصوصًا.
– النتيجة واحدة.
وقال زعتر بحرارة: بودِّي أن أغرقك في السعادة.
فتمتم في فتور: شكرًا …
تصافحا، هتفت جلجلة مخاطبةً زعتر: قل له إني مستعدة أن أوصله بسيارتي إلى أي مكان.
لوَّح لهما مُودِّعًا ومضى.
١١
ما معنى ذلك؟ ها هو العبث يتأبَّط ذراعه مُتدثرًا بالبسمات الحمراء. لاحَظ الضابط أن صوت مُرافقه مبحوحٌ مثل صوت حنش. سأله عن السبب فأجاب بأن صوته بُحَّ من كثرة الخُطب، ولأنه يُؤذِّن كثيرًا داعيًا المُصلِّين إلى سوق ليبيا. وأشار إلى الشجرة الضخمة تتوسط الميدان الصغير في شارع البرج وقال للضابط: أي ضخامة، ما عمرها؟ ستعيش بعدك طويلًا، إنها لا تعرف القيود، تحيا حياةً مطلقة.
وأشار أيضًا إلى كلبَين يتلاعبان وتمتم: يعيشان مثل الشجرة، حياة مطلقة، لا يعرفان الضمير ولا يخافان الموت.
فقال الضابط: ولكنه الإنسان، وحده.
– حماقة مُقنَّعة بالجلال.
– الجلال!
– هو السجن.
– لكنه الإنسان، لا يعرف ذلك إلا الإنسان. ألا يعني ذلك شيئًا؟
– لا يعني شيئًا.
– هو وحده.
– الإنسان الحقيقي مثل الشجرة، مثل الكلبَين.
– إنه وحده، هنا يكمن سِره.
– هَبْك مُشرِفًا على الغرق ولا نجاة لك إلا بالتضحية بآخر، ماذا تفعل؟
– ساعة الغرق يُسيطر الحيوان.
– هذه هي الحياة.
– كلا، إنها جريمة يجب التكفير عنها.
– هل تعرف الجريمة بالفطرة؟
– كفى، على أحدنا أن يتلاشى.
•••
تهبط النقود بلا حساب في ميدان ليبيا، السماء تُمطر هدايا. بالوقاحة تُصان الهيبة. طيب، ها قد تغيَّر كل شيء. ستُسيطر على الحياة بدل أن تُسيطر هي عليك. تتحسَّن علاقات الكائنات. تستقلُّ سناء ببيتها ثم تنتقل إلى بيتٍ أفضل، يتورَّد مستقبل أمل وسهير ولمياء. تُغدِق البركة على سهام وزهيرة. تنطلق سيارة بالأسرة يوم العطلة. الفضلاء يعملون بالرذيلة، الأرذال يحلمون بالفضيلة.
•••
كان بالنادي عندما رأى زغلول رأفت قادمًا نحوه. انتحى به جانبًا فجلسا في جانب من الحديقة.
– فقدت شيئًا ثمينًا؟
فقال زغلول باهتمام: كلا، الأمر أجلُّ.
– ماذا فعلت بزعتر؟
– كافأته بعملٍ شريف مُربح .. ولكنه طمَّاع.
فضحك محمد فوزي وسأله: ما عدد الأعمال الشريفة في نظرك؟
فقال باهتمامٍ مُتزايد: محمد بك .. إني هنا لغرضٍ هام .. إنك رجلٌ شريف، صاحب جميل .. حسن .. عليَّ أن أردَّ الجميل.
– خير؟
– الأمر يتعلق بزعتر.
– سرقك؟
– كلا .. لكنه شرع في سرقتك أنت.
– ماذا تعني؟
– الأمر يتعلق بكريمة أختك.
قطَّب محمد في حيرةٍ شديدة: كريمة أختي؟
– إنه يحوم حولها .. يحوم حولها باعتباره الوجيه محمد زغلول.
تغيَّر وجهه تمامًا. ارتفق الخوان بساعدَيه مُتسائلًا: ماذا؟
– إني على يقين مما أقول.
– كريمة شقيقتي آية في العقل والأخلاق.
– لم أقل خلاف ذلك.
– لو تعرَّض لها بإساءة لشكَته إليَّ.
– لا يتعرض لها بما يسوء .. إنه يحوم حولها كرجل شريف.
– الوغد.
– خِفت أن تُخدَع الفتاة به ونحن لا نملك قلوبنا.
– شكرًا لك تحذيري.
۱۲
بدا محمد فوزي كئيبًا مُتجهمًا. من أول نظرة لاحظت ذلك سناء وزهيرة وسهام، أما الصغيرات فيئسن من ملاعبته. ونطق بنبرةٍ مُفعَمة بالغضب: سهام.
نظرت إليه الفتاة بذهول فقال: ما هذا الذي يُقال عنك؟
وسكت من شدة الانفعال ثم قال بازدراء: عن رجل له مظهر الوُجهاء يدَّعي أن اسمه محمد زغلول.
فقالت زهيرة: لا شيء يستحقُّ الغضب يا أخي.
وتمتمت سناء زوجته: فعلًا.
فتساءل بحدة: آخر من يعلم؟
فقالت سناء: إنه رجلٌ غني، غرضه شريف، لم تُخفِ سهام عنا شيئًا.
قالت زهيرة: لم أُرِد أن أُزعجك قبل أن أتحقَّق بنفسي، وافقتني سناء على رأيي، قالت لي سهام إنه رجاها أن يُحدِّثها، ذهبت إليه بنفسي لأقول له إن الطريق الوحيد أن يُحدِّثك أنت.
– ماذا قال؟
– قال إن ثَمة سوء تفاهُم بينكما قد يُخيِّب رجاءه.
– أكان في نيَّتك أن تُزوِّجيها من وراء ظهري؟
فقالت سناء: اتفقنا أن أحدثك ولكنَّك سبقت.
فنظر إلى سهام مُتسائلًا: هل أعجبك؟
فقالت زهيرة: إني أبحث عن حلٍّ يُرضي الجميع.
أدرك أبعاد الموقف. أدرك أيضًا دور زوجته التي تحلم بالتخلص من زهيرة وسهام. ضحك بمرارة وقال: ما هو إلا نشَّال قضى في السجن عامَين.
فوَجمنَ في ذهول. تذكَّر هو يوم رآه رابضًا في البستان تحت البيت. قال بأسًى: لقد رويت لكُنَّ حكاية سوق ليبيا، وحكاية زعتر النوري، محمد زغلول هو زعتر النوري.
قرأ وجوههن بنظره الثاقب. سهام يغمرها شعور بالنجاة. زهيرة مطبوعة بالخيبة. سناء مَغِيظة مُحنَقة، ولكن قُضي عليها بالهزيمة. تمتمت زهيرة: ما تصوَّرت ذلك قط.
فقال بسخرية: هو هو لم يتغير إلا مَظهره، كان لصًّا غير قانوني فأصبح لصًّا قانونيًّا.
١٣
التقت عيناه بعينَيه رغم الضجيج والزحام. رسالة خفيَّة سرَت منه إلى الآخر. غادَر موقفه أمام الكشك نحوه. بدا أنه استشعر الجو كله. قال بتسليم: قلب المؤمن دليله.
سار محمد فوزي خارجًا من نطاق السوق والآخرُ يتبعه حتى وقفا تحت جدار القلعة الشاهق، وعند ذاك هتف به الضابط: إنك وغد كالعهد بك.
فتمتم وهو يُواجهه بثبات: الحِلم سيد الأخلاق.
– كيف تُسوِّل لك نفسك التعرُّض لبنت أختي؟
– بالشرف تعرَّضت لها.
– لا تنطق بهذه الكلمة يا زعتر.
– محمد زغلول.
– كذَّاب.
– هذا كل شيء.
– سأعتبر الموضوع مُنتهيًا، وحذار …
– محمد بك .. ربنا قَبِل التوبة.
– أنت لص لا أكثر ولا أقل.
– إني رجلٌ شريف وغني، ومن حقي أن أفتح بيتًا شريفًا.
– اللعنة على شرفك المزعوم.
– لا داعيَ للغضب.
– فليَنتهِ كل شيء، إني أكره الاستمرار في هذا الحديث.
وتركه دون تحية.
١٤
أول ما صنعه أن كلَّف مُخبرًا بمراقبة زعتر. وانهمك في العمل أكثر وأكثر لينسى هموم المطاردة، وقال لنفسه: سأبقى شريفًا ولو لم يبقَ في الحومة سِواي. ولم يُترَك طويلًا للنسيان؛ فقد زاره في النادي من جديدٍ زغلول رأفت. في ذلك المساء رجع إلى بيته بالسكاكيني مُتفكرًا ولكن يُصاحبه أملٌ جديد. وبدا وسط قبيلة النساء مرحًا، وقال: عريس له وزنه يطلب يد سهام.
فتطلَّعت إليه الأبصار، وقالت سناء بنغمة أمل واضح: ما أكثر العرسان!
فقال بهدوء: هذه المرة زغلول رأفت.
فبادرته سهام: قلت إنه لص أيضًا يا خالي.
– لا أُنكر، ردَّدت ما سمعته من لص محترف، ولكن لا دليل على ذلك.
– لن يغيِّر ذلك من الواقع.
فقالت سناء: فرقٌ بين النهار والليل، إنه رجل شريف برأي الجميع.
وقال محمد فوزي: عرفته ثريًّا ومن رجال البِر.
فقالت سناء: رجل له وزنه حقًّا، وهو الحُلم المطلوب.
فقال محمد: إنه في الأربعين، أرمل، ولا أولاد له.
– عزُّ الطلب. لا خير في الشُّبان.
ونظر محمد فوزي إلى سهام وسألها: ما رأيك؟
ونظرت إليها أيضًا زهيرة كأنما تستوهبها الموافقة، ولكنها لاذت بالصمت حتى ضاقت سناء بصمتها فقالت: من واجبك أن تكوني سعيدة.
فقالت سهام بنبرةٍ مُتوترة: صبركم حتى أجد عملًا، عند ذاك سأذهب أنا وماما.
فقال محمد مُقطِّبًا: قولٌ غير لائق.
واجتاح الغضب سناء فهتفت: جئناكِ بالسعادة حتى مَوطئ قدمَيك ولكنك ما زلت تحلمين بالمستحيل. إنها فرصة لا تتكرر، وأنا بصراحة لم يعد بي صبر.
وقال لها محمد مُعاتبًا: سناء!
فصاحت بصوتٍ يهدر بالغضب: دعني أُنفِّس عما في صدري.
فقالت زهيرة: أعطونا فرصة، سهام ذكية وتفهم كل شيء، ستسير الأمور كما نود.
١٥
أبلغ الضابط زغلول رأفت بموافقة الأسرة. كان التفاهم بين الرجلَين كاملًا. لم يترك صغيرة ولا كبيرة. اطمأنَّت سناء تمامًا إلى أن زوجها لن يُغرَّم مليمًا واحدًا وأن حلمها يتحقق بكل أبعاده. وتصدَّى محمد فوزي لموجة امتعاض زاحفة في أعماقه بأن جعل يؤكد لنفسه شرف العريس، ويقول لضميره القلق إن أحدًا لم يتَّهمه في شرفه إلا الوغد زعتر. أجل لقد تصرَّف مع سهام بطريقةٍ قاسية، فما من شك أن الموافقة انتُزعت منها على رغمها، غير أنها ستحظى بالسعادة والجاه. إنه قرارٌ حكيم، وستُثبت الأيام صدقه وإخلاصه. وسارت الأمور في سبيلها المرسوم حتى خرجت سهام ذات يوم إلى زيارةٍ قريبة ولكنها لم تعد. طال الوقت وغرق الانتظار في مستنقع الشك القاتل. تحرَّى عنها في جميع مظانها، ولكن لم يسمع لها عن خبر .. تجسَّد واقع لم يخطر على بال. تقوَّض البنيان كله وتلاشت الآمال مخلفةً الرعب والأسى. جُنَّت سناء كما جُنَّت زهيرة، أما محمد فقد ثار ثورةً هائلة. قصد من توِّه رفعت حمدي ولكنه وجده على حال يُرثى لها، وصاح به غاضبًا: إنك مسئول عما حدث. أنت .. أنت المسئول الأول.
وفي الحال استغلَّ الضابط خبرته في الخدمة وإمكاناته الغزيرة في البحث عن المُختفية، ولكن مرَّت الأيام تباعًا دون نتيجة.
ورنَّ التليفون في بيته ساعة الغداء عند اجتماع الأسرة، فتناوَل محمد السماعة: آلو.
– أنا سهام يا خالي.
– سهام .. أين أنت؟
– أُكلمك من الإسكندرية.
– ماذا تفعلين هناك؟
– إني أعمل .. وبخير .. اطمئنُّوا .. أريد ماما أن تلحق بي.
– أعطِني عنوانك، أريد أن أقابلك.
– ممكن أحضر بنفسي.
– وماذا يُؤخِّرك؟
– عِدني أن تلقاني بهدوء واحترام.
– لك هذا يا سهام.
– سأحضر غدًا.
– احضري الليلة أرجوك.
– ليَكن .. إلى اللقاء.
•••
أقبلت عليهم في ثبات كأنما قد نضجت في أيام غيابها أعوامًا. تلقَّتها أمها باكيةً. تساءلت سناء: ماذا فعلتِ بنا يا سهام؟
وقال محمد بهدوء: آخر ما كان يُتوقَّع منك.
فقالت باسمةً: الدفاع عن النفس حقٌّ مشروع.
– ليس بهذه الوسيلة.
– الأفضل أن تسمعوا حكايتي.
صمتت مليًّا لتجمع شتات أفكارها ثم راحت تقول: بلغ مني اليأس مداه، صمَّمت على التحدي والانتقام. قلت إنهم يريدون أن يُزوِّجوني من لص مُغطًّى آخر، سأتزوَّج من اللص المكشوف. وذهبت إلى محمد زغلول أو زعتر النوري.
صاح محمد في جنون: كلا.
– هو ما حصل، كنت يائسةً عمياء. رأيت في کشکه امرأةً جميلة، فلوَّحت له من بعيد، فجاءني وهو لا يُصدِّق عينَيه، فقلت له أريد أن أُحدِّثك حديثًا هامًّا. أخذني في سيارته إلى مدينة المقطم. في مكانٍ شِبه خالٍ يُطلُّ على القاهرة. كان من العسير جدًّا أن أبدأ ولكن كان لا بد أن أبدأ. سألته: ألا زِلت تريدني؟ أجاب ذاهلًا بالإيجاب، فقلت له إني موافقة. سألني: هل أفضيت برغبتك إلى محمد بك أو والدتك؟ أجبت بالنفي. سألني: ماذا دفعك إلى المجيء إليَّ؟ فقلت له: إني لا أريد استجوابًا، وإني مستعدَّة وكفى. قال: إني رجل لا يهمُّني شيء، لا يهمُّني خالك نفسه .. أستطيع أن أفعل ما يحلو لي .. ولكن لا بد أن أعرف ما حملك على المجيء .. قلت: لا جواب عندي .. واتركني إذا شئت. قال: إني أعرف أن الوغد زغلول خطبك .. هذه هي المسألة .. ما قولك؟ قلت: إني أرفض الاستجواب. قال: يبدو أنك لا تُوافقين عليه .. ربما لسنه وسوء سمعته .. إن ما جاء بك إليَّ هو الرغبة في الانتقام أو الرغبة في الانتحار، فلم أُحِر جوابًا، ولمعت عيناي، قال إنك عنيدة مثل جلجلة .. إني أُحبُّ هذا .. ولكني لا أعرف العبودية في الحب. قلت: فلنرجع. قال: أرفض أن أجعل من نفسي أداة انتقام في يدك. قلت: إذَن فلنرجع. قال: هذا يعني أن أُسلِّمك للوغد زغلول رأفت .. كلا .. لقد وقعت في شبكة من المنافقين واللصوص، ومن الشهامة إبقاؤك. قلت: ولكن كيف؟ قال: خالك يحسبني شيئًا قذرًا .. كلا .. أنا لم أخُن زميلًا في حياتي .. حتى جلجلة فإني مُرتبط بها رغم شبعي منها .. وقد جعلت عصابة من النشَّالين عصبة من الأعيان .. معجزة تحتاج لثورة كاملة .. وإني أرفض أن يستعملني أحدٌ أداة انتقام، ولكنني سأنقذك .. خالك رجلٌ فقير لأنه شريف .. لذلك يهمُّه أن يتخلص منك على خير .. لذلك وافَق على تسليمك للصٍّ قانوني .. اسمعيني جيدًا .. أنتِ مُتعلِّمة .. سأُلحقك بعمل يحفظك من المنافقين واللصوص.
ساد صمتٌ تجلَّى فيه صوت الأنفاس المُترددة .. ثم تساءلت أمها: أي عمل؟
– موظفة في كشك يملكه في الإسكندرية بأجرٍ بسيط ونسبة في الأرباح.
– أهو يكفيك يا بنتي؟
– فوق الكفاية يا ماما .. لا بد أن تأتي معي .. ستجدين حياةً معقولة جدًّا.
وقالت سناء: إنه رجلٌ مُذهِل.
استمرَّ الحديث بعد ذلك، ولكنه — محمد — لم يُتابعه. غَرِق في أفكاره بعمق وحزن وذهول. أي هزيمة مُنِي بها؟ إنه يتلاشى من الوجود، ويَحسُن به أن يتوارى عن الأعين. وغادَر الشقة صامتًا. ولما اقترب من ضجيج السوق أثارت الأصوات في صدره شجنًا ثقيلًا، ولمحه زعتر فهُرِع إليه مُتهللًا. تصافحا. وقفا يترامقان في صمتٍ طال حتى ضاق به محمد، فتمتم: شكرًا لك يا زعتر.
فقال الرجل ضاحكًا: محمد زغلول من فضلك.
فقال محمد فوزي بهدوء ويقين: زعتر النوري، اسمٌ طيب لرجلٍ طيب، ماذا يخجلك منه؟!