السماء السابعة
١
سحابةٌ مُعتِمة تقتحم الوجود وتنغمس في الفضاء. كل شيء يموج بحضورٍ كوني غريب، لا شبيه له من قبل، يُحلِّل الكائنات إلى عناصرها الأولى، يُنذِر بالعدم أو بخلقٍ جديد. رغم ذلك ما زال يملك وعيًا بما يحدث أو أنه يعيش اللحظات الأخيرة من الوعي. سيطر عليه شعورٌ فائق الإلهام أنه يشهد ما لم يشهد من قبل، ولكنه ما زال رءوف عبد ربه، رءوف عبد ربه بلا خوف ولا وساوس ولا مُبالاة. يقف خارج أسوار البوَّابة التاريخية، في الخلاء، في الظلام، بلا وزنٍ البتة. هو والصديق عانوس قدري راجعان من سهرة الليل، أين أنت يا عانوس؟ لا يسمع صوتًا، لا يُحسُّ بمس الأرض، وثَمة شعورٌ عجيب بانعدام الوزن، والغوص في السحابة المُعتمة المُقتحمة. وعندما يُنادي صديقه لا يندُّ عنه صوت، إنه موجود وغير موجود، وهو حائر ولكنه غير خائف، وقلبه يتوقع إجابة قريبة وصريحة. وترقُّ السحابة وتمضي في التلاشي، ويقف التموج ويختفي. عند ذاك تتَّضح ظلمة الليل المُشعشعة بإشعاعات النجوم. أخيرًا تتراءى يا عانوس، ولكن ماذا تفعل؟ ثَمة أناسٌ يحفرون في الأرض حفرةً بهمة ونشاط، وثَمة شابٌّ مطروح على ظهره ينزف الدم من رأسه. إنه يرى ذلك بشيء من الوضوح أكثر بما تسمح أضواء النجوم. يا للعَجب! ما الشاب المطروح إلَّاه، رءوف عبد ربه نفسه. إنه أنا دون غيري. وهو مُنفصل عنه تمامًا، يراه من بعدٍ قريب. ليس شبيهًا به ولا توءمًا له، إنه جسمه، وهذه بدلته، وهذا حذاؤه. عانوس يحثُّهم على العمل، لا يراه البتة فيما يبدو، يظن أن الجسم المطروح يحوي بالكامل صديقه رءوف، لا يفطن إلى الكائن الذي يُراقبه بلا انفعال. أدرك أنه غير مرئي مثل جسده المطروح. هل انقسم إلى اثنين؟ هل غادَر الحياة؟ هل قُتِل وعانى الموت؟ قتلتني يا عانوس؟ ألم نقضِ معًا سهرةً مُمتعة؟ متى شرعت في قتلي؟ كيف نفَّذته؟ وأين كان رجال أبيك الذين يحفرون قبري؟ هانت صداقتي عليك لتستأثر برشيدة؟ ألم تقُل لي بأنك ستعتبرها شقيقة لك من الآن فصاعدًا؟! ها هم الرجال يحملون جثَّتي ويرمون بها في الحفرة. ها هم يُهيلون عليها التراب ويُسوُّون سطح الأرض. عاد وجه الأرض إلى صورته المألوفة، وغاب رءوف عبد ربه كأن لم يكن، ولكنني موجود يا عانوس. أحسنت صنعًا بدفن أداة الجريمة الصلبة. زال كل أثر. لماذا أنت مُتجهِّم هكذا؟ أين نظرة عينَيك الساخرة؟ أعترف لك — ولو أنك لا تسمعني — أنني طالما أحببتها. أتظنُّ أن علاقتنا انقطعت وانتهت؟ الصداقة أقوى مما تظن، حتى الموت يعجز عن محقها. كذلك الحب؛ رشيدة لي أنا وليست لك، ولكنك مُتهوِّر وسيئ التربية. نشأت في محيط أبيك المعلم قدري الجزَّار، مُحتكِر اللحوم، ناهب الفقراء والمساكين، راشي الرجال وشاري الذمم، فلقَّنك أن تطمع فيما ليس لك وأن تناله بقوة الجريمة. ماذا أنت فاعلٌ الآن؟ لم يكن يطيب لك الجلوس في المقهى بدوني، ولا المذاكرة، ولا الذَّهاب والإياب من الجامعة، أكبر صديقَين في الحارة رغم الفارق اللانهائي في المال والجاه والسطوة؛ فإن نسيتَني أنت فما أنا بناسيك. واعلم بأنني لا أحمل نحوك رغبة في الانتقام أو حتى الإيذاء، لقد دُفنت جميع هذه العواطف والانفعالات في الحفرة مع جثَّتي، حتى العذاب الذي تُعانيه حارتنا من ظلم أبيك وأمثاله لا ينعكس الآن في صدري غضبًا وحنقًا وحقدًا وثورة، ولكنه صورةٌ شائهة مرفوضة بقوة الحب، ويُشكِّل رغبةً سامية مُبرَّأة من الأوشاب لتغييرها تغييرًا كليًّا. إني أرثي لك يا عانوس. لم أرَك في هذه الصورة القبيحة من قبل. إنك هيكلٌ عظمي تسكنه الخفافيش. الدم المسفوك يلطخ وجهك وجبينك. عيناك تقدحان شررًا وتتدلَّى من أُذنَيك حيَّتان. رجال أبيك يسيرون خلفك على حوافر حمير وبرءوس غربان يرسفون في أغلال مغروسة بالشوك. إنه ليحزنني أن أكون السبب المباشر لتشويه صفحتكم لذاك يغشاني الأسى وتفتر فيَّ أشواق البهجة.
٢
من خلال تنهُّدة وجد نفسه في مدينة جديدة، تُضيء بلا شمسٍ مُشرِقة، مسقوفة بالسُّحب البيضاء، أرضها تنضح بالخضرة على هيئة أزهار وفواكه، تتخلَّلها على مدًى لا نهائي أكواخٌ بيضاء كالورود، وثَمة جموعٌ تتلاقى وتفترق في خفة الطير. وجد نفسه في بقعةٍ خالية. عانى غربة الوافد الجديد. وعلى حين فجأة تجلَّى أمامه رجلٌ يتدثَّر بسحابةٍ بيضاء. ابتسم إليه وقال: أهلًا بك يا رءوف في السماء الأولى.
فهتف رءوف بفرحةٍ مُتألِّقة: هي الفردوس؟
– قلت السماء الأولى لا الفردوس.
– إذَن فأين الفردوس؟
– بينك وبينها طريقٌ طويل يقطعه سعيد الحظ في مئات الألوف من السنين الضوئية.
فندَّ عن رءوف صوت كالأنين، فقال الرجل: دعني أُقدِّم لك نفسي أولًا، مُحدِّثك آبو الذي كان يومًا كاهن طيبة ذات المائة باب.
– تشرَّفنا يا سيدي، من حسن الحظ أني مصريٌّ مثلك.
– لا أهمية لذلك، لقد فُقدت هذه الجنسية منذ آلاف السنين، وإني الآن مُوفَد كمُحامٍ للدفاع عن القادمين الجُدد.
– ليس ورائي تهمة ولكنني شهيد.
– صبرًا، دعني أُحدِّثك عن موطنك الجديد، هذه السماء تستقبل الوافدين الجُدد، فيها يُحاكَمون وأتولَّى أنا الدفاع عنهم. الأحكام تتراوح بين البراءة والإعدام؛ في حال البراءة يقضي البريء عامًا واحدًا هنا يتأهَّل فيه روحيًّا للصعود إلى السماء الثانية …
فقاطَعه رءوف مُتسائلًا: لكن ما معنى الإعدام؟
– معناه أن يُقضى عليه بأن يولد من جديد في الأرض ليُمارس الحياة مرةً أخرى لعله يلقى قدرًا أكثر من النجاح، أما ما بين البراءة والإعدام فيُقضى على المتهَم عادةً بأن يعمل مُرشدًا روحيًّا لشخص أو أكثر في الأرض، ويكون صعوده إلى السماء الثانية رهنًا بتوفيقه أو تُمَد مدة تَجرِبته وهكذا.
فقال رءوف باطمئنان: على أي حال فإني واثق من البراءة؛ فقد عشت طيبًا ومت شهيدًا.
فابتسم آبو وقال: لا تتعجل، ولنبدأ الحديث في قضيتك .. أخبِرني بهُويَّتك.
– رءوف عبد ربه، السن ثمانية عشر عامًا، طالب تاريخ بالجامعة، يتيم الأب، أمي أرملة تعيش على منحةٍ خيرية من الأوقاف.
– لماذا أنت راضٍ عن نفسك هكذا يا رءوف؟
– رغم فقري الشديد فإني طالبٌ مجتهد يحب العلم ولا يكفُّ عن النهل منه.
– جميلٌ هذا من ناحية المبدأ، ولكنك كنت تتلقى كثيرًا وتفكر قليلًا.
– التفكير يُكتسَب بالعمر والمران، وعلى أي حال لا يُعَد ذلك تهمة؟
– هنا يُحاسَب الإنسان على كل شيء، أُلاحظ مثلًا أنك كنت تُبهر بالأفكار الجديدة.
– للجديد سِحره يا سيد آبو.
– أولًا لا تقُل سيدي. ثانيًا نحن لا نُحاسب على التفكير ولو كان خاطئًا، ولكننا ندين التسليم بأي فكرة ولو كانت صحيحة.
– إنها محاكمةٌ قاسية، العدل في الأرض أرحم.
– ننتقل إلى العدل، كيف وجدت حارتك؟
– بشعة .. أكثرها فقراء مُتسوِّلون .. يُسيطر عليها فتوة يحتكر الغذاء .. اشترى شيخ الحارة .. يسرق ويقتل ويعيش مُطمئنًّا فوق القانون.
– إنه وصفٌ دقيق، ماذا كان موقفك؟
– الرفض والتمرد والرغبة الصادقة في تغيير كل شيء.
– تُشكَر. ماذا فعلت لتحقيق ذلك؟
– لم يكن بوسعي أن أفعل شيئًا.
– وتريد أن تصعد إلى السماء الثانية؟
– لمَ لا؟ كان عقلي وقلبي رافضَين لما يجري.
– ولسانك؟
– لو نطق بحرفٍ مُتمرِّد لكان جزاؤه القطع.
– ولكن حتى الكلام وحده لا يُرضي محكمتنا المقدسة.
– يا لها من محكمة! وهل كنت إلا فردًا وحيدًا؟!
– حارتك مكتظَّة بالتُّعساء.
– واجبي الأول كان تحصيل العلم.
– الأمانة لا تتجزأ، ولا عذر عن التخلي عنها.
– لم يكن من المحتمل أن يؤدِّي ذلك إلى العنف؟
– لا تهمُّنا الصفات، ما يهمُّنا هو الحق.
– ألا يشفع لي أني قُتلت في سبيل الحب؟
– حتى هذا لا يخلو من عنصر في غير صالحك.
فتساءل رءوف بدهشة: أي عنصر هذا؟
– إنك منحت عانوس ثقتك وهو صورة من أبيه الطاغية.
– لم أتصوَّر أنني مُذنِب لهذا الحد؟
– ثَمة ظروفٌ مُخفَّفة، ولكن مَهمَّتي في الدفاع عنك ليست يسيرة.
– هيهات أن يظفر أحد بالبراءة في ساحة هذه المحكمة.
– صدقت، قلةٌ نادرة أدَّت واجبها الكامل نحو الأرض.
– أعطِني مثالًا أو مثالَين.
– خالد بن الوليد وغاندي.
– إنهما نقيضان!
– للمحكمة تصورٌ آخر، والعِبرة بالواجب نفسه.
– الآن لم يعد لي أمل.
– لا تيئس، ولا تستهِن بخبرتي الطويلة، سأفعل المستحيل لإنقاذك من الإعدام.
– ماذا يمكن أن يُقال؟
– أقول إنك بدأت بداية لا بأس بها في ظروفٍ بالغة المشقة، وإنه كان يُرجى منك خير لو امتدَّ بك العمر، وإنك كنت محبًّا صادقًا وبارًّا بوالدتك.
– إذَن فغاية ما أطمع إليه أن يُقضى عليَّ بأن أكون مُرشدًا روحيًّا؟
– وهي فرصة لاستدراك ما فاتك، في عالمنا هذا لا يصعد الإنسان إلا بفضل توفيقه في الأرض.
– أيها المحامي الجليل، لمَ لا تُرسلون مُرشدًا للمعلم قدري الجزَّار؟
– ما من أحد إلا وله مُرشده.
فهتف رءوف بذهول: وكيف يستمرُّ الشر إذَن؟
– لا تنسَ أن الإنسان حر، كل شيء يتوقف في النهاية على قوة تأثير المرشد وحرية الفرد.
– لم يكن من الخير أن تُلغى هذه الحرية؟
– قضت المشيئة بألا يُقبَل في السموات إلا الأحرار.
– كيف لا يُقبَل في السماء وليُّ حارتنا الطاهر الشيخ عاشور؟ إنه لا يُمارِس الحرية؛ فكل ما يقول أو يفعل من إملاء إلهامه الصادق؟
فابتسم آبو وقال: ما هو إلا صنيعة لقدري الجزَّار؛ يُؤوِّل الأحلام لمصلحته، وينقل إليه همسات الضمائر من البيوت التي تُرحِّب ببركته.
فصمت رءوف مغلوبًا على أمره. غاب قليلًا في الخضرة اليانعة المُزركَشة بأكواخ الورود، استسلم للملاحة وعذوبة الجو، ثم تنهَّد قائلًا: ما أتعس أن يُجبَر الإنسان على هجر هذه الجنة!
فهتف به آبو: حذار من الرغبة الآثمة في الهروب من الواجب.
فتساءل رءوف: متى أمثُل في ساحة المحاكمة؟
فأجاب آبو: لقد تمَّت المحاكمة.
فرَنا إليه رءوف بدهشة، فقال: تم الاستجواب ومرافعة الدفاع فيما جرى بيني وبينك، وصدر الحكم، وهو يقضي بندبك مُرشدًا روحيًّا، تهانيَّ.
٣
تقرَّر استبقاء رءوف عبد ربه في السماء الأولى فترةً قصيرة ليتطهَّر من أي شائبة وليُؤهَّل لمَهمَّته. وبُغيةَ تدريبه وتثقيفه أبقاه آبو إلى جانبه في الوقت الذي يستقبل فيه المرشدين عادة. وقال له رءوف: أودُّ أن أرى أدولف هتلر، هل يجيء الآن؟
– لقد قُضي عليه بالإعدام فوُلِد في حارتكم من جديد، وطالما رأيتَه.
– هتلر؟
– هو المعلم قدري الجزار.
فصمت رءوف مليًّا من الدهشة ثم تساءل: إذَن فمن يكون شيخ الحارة شاكر الدرزي؟
– لورد بلفور.
– والشيخ عاشور الولي الكذَّاب؟
– إنه خنفس خائن الثورة العرابية.
– أراهم لا يتغيرون، ولم يستفيدوا من إعادة التجربة.
– ليس الحال كذلك دائمًا، أتدري من تكون أمك؟
– إنها ملاك يا آبو.
– ما هي إلا ريَّا السفَّاحة المشهورة، فانظر كم تقدَّمَت.
فذُهِل رءوف وصمت على حين استقبل آبو أول الوافدين. قال الوافد: إني أبذل أقصى ما أستطيع.
فقال آبو: أعلم ذلك، ولكن يلزمك مضاعفة الجهد؛ فقد آن لك أن تصعد.
ولما اختفى الوافد قال رءوف: إني أعرفه جيدًا. أليس هو إخناتون؟
– هو عينه، إنه سيئ الحظ، فطال مُقامه هنا آلاف السنين.
– ولكنه أول من بشَّر بالله الأحد.
– هذا حق، ولكنه فرض إلهه على الناس بالقوة لا بالهداية والإقناع، فتيسَّر لأعدائه من بعده أن ينتزعوه من القلوب بالقوة، ولولا صفاء سريرته لقُضي عليه بالإعدام.
– ولمَ طال به المُقام هذا الدهر؟
– لم يُوفَّق مع أحد ممن نُدِب لإرشادهم مثل فرعون موسى والحاكم بأمر الله وعباس الأول.
– ومن رجُله اليوم؟
– كميل شمعون.
وجاء الوافد الثاني، قدَّم تقريره، تلقَّى كلماتٍ مُشجِّعة ثم اختفى. عند ذاك قال رءوف: إنه الرئيس ويلسون.
– أجل.
– حسبته من القلة السعيدة التي صعدت إلى السماء الثانية.
– أنت تُشير بلا شك إلى مبادئه السامية، ولكنك نسيت أنه لم يستغلَّ قوة أمريكا في تنفيذها، بل إنه اعترف بالحماية على مصر.
– ومن رجُله؟
– الأستاذ توفيق الحكيم.
ولما اختفى الوافد الثالث قال رءوف: إنه لينين بلا شك.
– نعم.
– حسبت أن الإعدام كان نصيبه لإلحاده. ماذا قلت دفاعًا عنه؟
– قلت إنه من خلال ثرثرة فكرية غيَّر الأسماء ولم يُغيِّر الجوهر، سمَّى إلهه المادة الأزلية وأضفى عليها من صفات الله القِدم والخلق والسيطرة على مصير الكون، وسمَّى الرسل بالعلماء، والملائكة بالعمال، والشياطين بالبرجوازيين، ووعد أيضًا بالجنة في تحديدٍ أكثر لزمانها ومكانها، ونوَّهت بقوة إيمانه وبلائه في خدمة الكادحين وروح تضحيته وتقشُّفه، وقلت أيضًا إن ما يهمُّ الله سبحانه هو ما يُصيب الناس من خير أو شر. أما هو — جل جلاله — فمُستغنٍ عن البشر، لن يزيده إيمانهم ولن ينقص من شأنه كفرهم به .. هكذا خُفِّف الحكم وعُيِّن مُرشدًا روحيًّا.
فتساءل رءوف مبهورًا: ومن رجُله؟
– الأستاذ مصطفى محمود.
– وهل نُدِب ستالين مُرشدًا أيضًا؟
– كلا، ستالين أُعدم لقتله الملايين من الكادحين بدلًا من أن يُعلمهم ويُدربهم.
– لعله يعيش اليوم في حارتنا؟
– كلا، إنه يعمل في أحد مناجم الهند.
بانتهاء استقبال لينين فرغ آبو من مقابلات الساعة، استصحب رءوف لنزهة في السماء الأولى. لدى تفكيرهما في النزهة انطلقا مباشرةً استجابة للرغبة الداخلية، بلا حاجة إلى استعمال القدمَين، كطائرَين ثملَين بنشوةٍ باطنية انعكاسًا لمفاتن الحركة المُنسابة في يسر وعذوبة. غاصا في جوٍّ فِضِّي ذي أرضية خضراء مُزركَشة وسماء مُضيئة بألق السحائب البيضاء. مرَّا بوجوهٍ كثيرة تُمثِّل شتى الأجناس والألوان، مُنهمِكين في الظهور والاختفاء ما بين السماء الأولى والأرض، كلٌّ مُستغرق في مَهمَّته الرفيعة. يستهدفون للأرض وأهلها رقيًّا ونصرًا، يأملون من ورائها تكفيرًا وتطهيرًا لأنفسهم ليُواصلوا صعودهم في مراقي الروح والإبداع والقرب من الحقيقة العظمى. يعملون بإصرار، تدفعهم الأشواق الحارَّة اللانهائية إلى الكمال والحق والخلود. قال رءوف: يُخيَّل إليَّ أن العناء هنا لا يقل عن نظيره فوق الأرض؟
فأجاب آبو باسمًا: هما عناءٌ واحد مُتصل، غير أن الإنسان يُمارسه ها هنا بقلبٍ أنقى وعقلٍ أذكى وهدفٍ أوضح.
– زِدني وضوحًا يا آبو.
– أنتم تحلمون في الأرض باليوم الذي تتحقق فيه المدينة الفاضلة المؤسَّسة على حرية الفرد وعدالة المجتمع والتقدم العلمي والسيطرة الظافرة على قُوى الطبيعة، وفي سبيل ذلك تُحارِبون وتُسالمون وتتحدُّون القُوى المضادَّة المسمَّاة في اصطلاحاتكم بالرجعية. هذا جميل وطيب، ولكنها ليست الهدف كما تتصوَّرون، إن هو إلا الخطوة الأولى السديدة في طريقٍ طويل من الرُّقي الروحي يبدو حتى للذين يُقيمون في سمائنا الأولى بلا نهاية.
فاستغرق رءوف في التأمل حتى سأله آبو: فيمَ تفكر يا رءوف؟
فقال بأسًى: أفكر في مدى بشاعة الجريمة اليومية التي تُواصل اقترافَها القوةُ المضادَّة.
– وهي جريمة يُشارك فيها الطيِّبون بالسلبية والقعود عن الجهاد خوفًا من الموت، وما الموت إلا ما ترى.
– أي حياة؟!
– إنها معركة بلا زيادة ولا نقصان.
وتفكَّر رءوف طويلًا حتى أرهقه التفكير، فعاد إلى تشوُّفه السابق لمعرفة مصائر الشخوص الذين يهتمُّ بهم، فسأل آبو: أودُّ أن أعرف مصائر زعماء وطني؟
– انتظرْ حتى تراهم أو سَلْ ما بدا لك.
– ماذا عن السيد عمر مكرم؟
– إنه اليوم مرشد أنيس منصور.
– وأحمد عرابي؟
– إنه مرشد لويس عوض.
– ومصطفى كامل؟
– مرشد فتحي رضوان.
– ومحمد فريد؟
– مرشد عثمان أحمد عثمان.
– وسعد زغلول؟
– هو وحده الذي صعد إلى السماء الثانية.
– بسبب تضحياته؟
فابتسم آبو قائلًا: بسبب انتصاره على ضعفه البشري.
– زِدني إيضاحًا يا آبو.
– لعلك تعلم بأنه عانى هفوات الطموح قبل الثورة، ثم سما عقب الثورة إلى رؤيةٍ رفيعة من الشجاعة والفداء فاستحقَّ البراءة.
– ومصطفى النحاس؟
– كان مرشد أنور السادات، وعقب ٦ أكتوبر وعودة الحرية صعد إلى السماء الثانية.
– وجمال عبد الناصر؟
– إنه اليوم مرشد القذافي.
•••
في نهاية التدريب القصيرة قال آبو لرءوف: كن مرشدًا روحيًّا لقاتلك عانوس قدري الجزار.
فامتثل رءوف الأمر بحماس وعزيمة، فقال آبو: اعتمدْ في الإيحاء على فِكرك، وإنه لقوةٌ عظيمة إذا أحسنت استخدامها، واستعِن عند الضرورة بالأحلام، والله معك.
٤
هبط رءوف عبد ربه إلى الحارة. يرى ويسمع على السرائر على حين لا يُرى له طيف ولا يُسمَع له صوت. ينتقل من مكان إلى مكان كالنسمة المُنسابة، في حارته المحبوبة بصورتها المتكاملة الثابتة، وأناسها المُنهمِكين في شئون الحياة. إنه يملك كافة ذكرياته، وضمنها آماله وآلامه السابقة، ويتمتع بصفاء ذهن مثل الضياء الساطع. عشرات وعشرات من الكادحين والكادحات يعملون بأعيُن خابية وسواعد مفتولة. الضحكات تطفو فوق الشتائم كالزبد المُتألق الممزوج بالحموضة. ها هو المعلم قدري الجزار في وكالته، لا شبه بينه وبين هتلر في ملامحه، لكن جسمه ترهَّل من مص دماء البشر. ها هو لورد بلفور، أو شاكر الدرزي شيخ الحارة، الذي أهدر القانون تحت قدمَي الجزار، وها هو الولي الماكر عاشور الذي يستلهم الغيب لتأييد سيده ومولاه. لكِ الله يا حارتنا. كيف ومتى تمرقين من هذه الأغلال المُحكَمة؟ ويبدو أن اختفاءه — رءوف — قد حرَّك ألسنة الحارة وقلوبها. النسوة يُحطن بأمه الباكية: هذا ثالث يوم يمرُّ على اختفائه.
– بلِّغي القسم يا أم رءوف.
– بلَّغت عم شاكر الدرزي شيخ الحارة.
ويجيء صوت شيخ الحارة مُتهكمًا: ألاعيب شباب هذه الأيام.
فهتفت الأم الباكية: ابني لم يغِب ليلةً واحدة بعيدًا عن بيته.
وها هي رشيدة راجعة من معهدها. جمال وجهها الأسمر مُكتسٍ بالكآبة. أمها تقول لها: اعتني بنفسك؛ فالصحة لا تُعوَّض.
فتقول وهي تختنق بالبكاء: إني أعرف، قلبي لا يكذبني.
رنا إليها رءوف بإشفاق. صدقت يا رشيدة. قلب المحب جهاز استقبال دقيق، ولكننا سنلتقي ذات يوم. الحب خالد يا رشيدة وليس كما يتوهم البعض. وها هو القاتل يخطر راجعًا من الجامعة، تُمسِك بيد كتابًا وتقتل بالأخرى. إني لا أغيب عن ذهنك، ولكنك لا تدري بأنني انتُدبت مرشدًا لك. هل تُطيعني اليوم أو تمضي في غيِّك؟ كل شيء يدعو للطمأنينة يا عانوس؛ أبوك يُلقي ظله على الجميع، الحكومة والولاية ملك يمينه، تحت أمرك أي شهادة زور تحتاج إليها، ولكن صورتي لا تبرح مخيلتك. لمَ لا؟ ألسنا صديقَين ضُرِب بمودتهما المثل؟! ثم إنك ما زلت شاديًا في الإجرام، لم تتمرَّس به كوالدك، ومن خلال ثقافتك تعلَّمت أو على الأقل سمعت عن أشياء جميلة. أتحلُم بأنك ستظفر بقلب رشيدة نتيجةً لتلك الجريمة؟ ما هذا الذي قتلته ودفنته في الخلاء؟ لا يعنيني أمره بأكثر مما يعنيك. إني رفيقك الأبدي كما سترى. اعترفْ يا عانوس، اعترفْ بجريمتك، اعترف والحقْ بي؛ فسيكون لك دورٌ أفضل. ها هي أمي التعيسة تعترض سبيلك: يا سي عانوس .. أليس عندك خبر عن صديقك؟
– أبدًا والله.
– قال وهو يُودِّعني إنه ذاهب إليك.
– تقابلنا دقائق ثم أخبرني أنه ذاهب إلى مشوارٍ هام، وأننا سنلتقي مساء اليوم في القهوة.
– ولكنه لم يرجع.
– ألم أزُرك سائلًا عنه؟
– حصل يا ابني، ولكنني أكاد أُجَن.
– وإني مثلك في القلق.
صدقت يا عانوس. إني أرى القلق في روحك مثل النمش في الوجه، ولكنك قاسٍ وخبيث. إنك من القُوى المضادَّة يا عانوس، ألا تدرك خطورة ذلك؟ إننا نشكو طول الطريق الأبيض، فما بالك وأنت تنحدر في الطريق الأسود؟! إني مُلازمك. إذا لم تتذوَّق هذه الدجاجة المُحمَّرة فالذنب ذنبك، إذا لم تستطِع أن تُركِّز ذهنك في كتابك فالذنب أيضًا ذنبك. لن أتخلَّى عنك فلا تُبدِّد تعبي هباءً، واسهد طويلًا فلن يُدرِكك النوم قبل الفجر.
ولما صعد رءوف إلى السماء الأولى وجد آبو مُنهمكًا في حديث مع إخناتون، وكان إخناتون يقول: كلما قلت له يمينك أخذ يساره.
فقال له آبو: استعملْ قُواك كما يجب.
– ينقصنا استغلال القوة المادية.
فهتف آبو: ألا ترغب في الصعود؟ المسألة أنك لم تعتَد المناقشة والإقناع، ولكنك ألِفت إصدار الأوامر.
والتفت آبو إلى رءوف وتساءل: كيف الحال عندك؟
– بدايةٌ حسنة.
– عظيم.
– ولكني أتساءل: أليس لكل فرد من العامة مُرشده؟
– طبعًا.
– إذَن لماذا هم مُستسلمون؟!
– يا لك من مُخطئ، إنك أحد أبناء عصر الثورات.
في تلك اللحظة هبط عصفورٌ أخضر في حجم تفاحة حتى حطَّ على منكب آبو. قرَّب مِنقاره الورديَّ من أُذنِ آبو فبدا هذا مُنصتًا، ثم طار مُدوِّمًا في الفضاء حتى توارى خلف السحائب البيض. ورأى آبو نظرة التشوف في عينَي رءوف فقال: إنه رسول السماء الثانية، جاءني ببراءة الصعود للمدعو شعبان المنوفي.
– ومن شعبان المنوفي؟
– جندي مصري استُشهد في المورة على عهد محمد علي، وهو مُرشد لمُهرِّب نقود يُدعى مروان الأحمدي، فنجح أخيرًا في حمله على الانتحار.
وجاء شعبان المنوفي مشمولًا بثوبه السحابي، فقال له آبو: ستصعد مُجلَّلًا بالبركات إلى السماء الثانية.
وهُرِع إلينا جميع المرشدين كالحمام الأبيض حتى ازدحم بهم المكان الأخضر، وقف شعبان مُتهلِّل الوجه، وعُزفت موسيقى بلحنٍ سماوي، وقال آبو: اصعد يا وردة المدينة الخضراء وواصل جهادك القدسي.
فقال شعبان المنوفي بصوتٍ عذب: طوبى لمن يُقدِّم خدمة لأرض العناء.
ومضى يصعد بخفة الشذا الرشيق والموسيقى تعزف لحن الوداع البهيج.
٥
ها هو عانوس قدري الجزار يقف أمام ضابط المباحث. الضابط يسأله: متى رأيت رءوف عبد ربه آخر مرة؟
– عصر اليوم الذي اختفى فيه، زارني في البيت، سرعان ما غادرني لمشوارٍ هام واعدًا بمقابلتي مساءً في القهوة.
– هل أخبر شيئًا عن مشواره؟
– كلا.
– ألم تسأله عنه؟
– كلا .. حسبته أمرًا يتعلق بالأسرة.
– رآكما البعض وأنتما تسيران معًا في الحارة عقب الزيارة؟
•••
لا تضطرب. الأفضل أن تعترف. فرصتك الذهبية لو تعلم.
•••
– أوصلته حتى خارج البوَّابة.
– إذَن ذهب إلى الخلاء؟
•••
هذه فلتة لسان يا عانوس. ما أكثر الفلتات! لن يُنجيك إلا الصدق.
•••
– نعم.
– ماذا فعلت بعد ذلك؟
– قصدت القهوة لأنتظره.
– حتى متى بقيت فيها؟
– حتى قُبَيل منتصف الليل ثم رجعت إلى بيتي.
– تستطيع أن تُثبت ذلك؟
– كان يجلس بالقرب مني طوال الوقت عم شاكر الدرزي شيخ الحارة .. وفي الصباح الباكر ذهبت إلى مسكنه وسألت والدته عنه فأخبرتني بأنه لم يعد.
– ماذا فعلت؟
– سألت عنه جميع الأصدقاء والمعارف في الحارة.
– ألك تصورٌ خاص عن اختفائه الطويل؟
– كلا، إنه شيءٌ مُحيِّر حقًّا.
•••
ها أنت تنصرف من القسم يا عانوس. إنك تستعيد كل كلمة قيلت. تندم على ذكر البوَّابة. تتساءل عمن شهد مَسيركما معًا، كأنك تُفكر في مزيد من الشر. وتُعيد على مسامع أبيك ما جرى من حوار. إنه مطمئنٌّ جدًّا، في جيبه تستقرُّ النقود والقانون والشهود، جرمٌ محترف. أنصحك للمرة الثانية أن تُواجه جريمتك بشجاعة وتُصفي حسابك. ثم ما هذا؟ ألا تزال صورة رشيدة ترتسم في مُخيِّلتك؟ هذا هو الجنون عينه، ثم إنك تدرك أن التحريات ستجري عنك مثل الطوفان. شيخ الحارة يُقرِّر ذلك أيضًا. الغيب يُنذر بمفاجآتٍ مجهولة. إنك تفكر في ذلك كله وتُفكر أيضًا في رشيدة يا أحمق؛ لذلك قال رءوف لآبو: الخوف من الموت أكبر لعنة سُلِّطت على البشر.
فتساءل آبو باسمًا: ألم يكن ذلك خليقًا بأن يمنعه من ارتكاب جريمته؟
ولزم رءوف الصمت، فقال آبو: لقد انتُدبت مُرشدًا لا فيلسوفًا فتذكَّر ذلك.
٦
إنك تتساءل يا عانوس لمَ يستدعيك الضابط ثانية. حسن، الأمور لا تنتهي بالبساطة التي يتصورها أبوك. ها هو الضابط يسأل: ماذا تعرف عن حياة رءوف الشخصية؟
– لا شيء فيها يستحقُّ الذكر.
– حقًّا؟ .. وماذا عن حبه لرشيدة الطالبة بمعهد الفنون الطرزية؟
– كلُّ شابٍّ لا يخلو من علاقة كهذه.
– ألك أنت مثلًا علاقةٌ مثلها؟
– هذه شئونٌ خاصة ولا شأن لها بالتحقيق.
– أتظنُّ ذلك؟ .. حتى إذا كنت تحب الفتاة نفسها؟
– المسألة تحتاج لإيضاح.
– طيب .. ما هو؟
– كاشفته مرةً بأني أرغب في خطبة رشيدة فصارَحني بأنهما مُتحابَّان، وفي الحال اعتذرت واعتبرت الأمر مُنتهيًا.
– ولكن الحب لا ينتهي بكلمة.
– كانت مجرد عاطفة عابرة .. لا أدري ماذا تقصد.
– إني أجمع معلومات، وأتساءل: تُرى ألم تتغير عواطفك نحو صديقك ولو قليلًا؟
– كلا .. عاطفتي لرشيدة كانت عابرة، أما صداقتنا فكانت صداقة العمر.
– تقول كانت؟ .. هل انتهت؟
فقال عانوس بضيق: أقصد أنها صداقة العمر.
•••
تتساءل: تُرى هل جرى تحقيق مع رشيدة؟ .. وبمَ اعترفت؟ حسن، إني أقول لك إن التحقيق جرى، وإنها اعترفت بمحاولاتك في انتزاعها من قلب صديقك، كما اعترفت بسطوة أبيك وخوفها على نفسها وعلى أمها. أؤكِّد لك أن الأمور تمضي في غير صالحك.
•••
فضحك الضابط وقال: تتكلم كما لو كنت يئست من رجوع صديقك.
– إني واثق من رجوعه، بهذا يُحدِّثني قلبي.
– قلب المؤمن دليله، وإني لأرجو ذلك أيضًا.
•••
تخرج هذه المرة من القسم وأنت أشد اضطرابًا من المرة الأولى. أظنُّك شعرت تمامًا بأن الضابط الماكر يشكُّ فيك يا عانوس. لا تتصور أن أباك قادر على كل شيء. هتلر نفسه ألم ينهزم وينتحر؟!
۷
الضابط يستدعيك للمرة الثالثة يا عانوس. أعصابك بدأت تتمزَّق. أبوك يرمق شاكر الدرزي بغضب، ولكن ماذا بوسعه أن يفعل؟! قف أمام مُعذِّبك الضابط واسمع: يا عانوس، تلقَّينا رسالة من مجهول يتَّهمك بقتل صديقك رءوف.
وهتف بغضبٍ مُفتعَل: تهمةٌ حقيرة .. ليكشفْ عن وجهه.
– صبرك، نحن نُقدِّر الأمور بميزان دقيق، أنت وصاحبك ألم تكونا تذهبان كثيرًا خارج البوابة للسهر؟
– بلى.
– أين كنتما تقضيان الوقت في ذلك الخلاء؟
– في مقهى الشرفا فوق الهضبة.
– هذا ما قدَّرته، وقد قرَّرت أن أُجري مواجهة بينك وبين رجال المقهى.
•••
انتظرْ ولا تضطرب. إنك عنيد، هذه هي الحقيقة. لا تريد أن تستجيب لمُناجاتي. ثِق في أنني أعمل لصالحك يا تعيس.
•••
وتمَّت المواجهة، فشهد صاحب المقهى وصبيُّه أنهما لم يريا عانوس منذ أكثر من شهر. لم يتجلَّ الاقتناع الكامل على وجه الضابط، ورمق عانوس بنظرةٍ صارمة وتمتم: تفضلْ بالانصراف.
•••
تُغادِر القسم وعلى شفتك ابتسامة النصر. لك الحق في ذلك. أبوك أحكم خطوط الدفاع من حولك، ولكن هل ينتهي الأمر عند هذا الحد؟ قلبك ينقبض وأنت تمرُّ أمام مسكن ضحيَّتك. تُساوِرك الهواجس مرةً أخرى. من المجهول الذي أرسل الخطاب؟ وهل يكون آخر خطاب من نوعه؟ إنك قاتل يا عانوس وضميرك لا يريد أن يستيقظ. لأزورنَّك الليلة في المنام. ما دمت لا تستجيب إلى ندائي الخفي فستجد جثَّتي مطروحة إلى جانبك فوق الفِراش. ها هو شخيرك يعلو تحت وطأة الكابوس، وتستيقظ فزعًا بقلبٍ ثقيل، وتنزلق من الفِراش لتبلَّ ريقك بجرعة ماء، ولكنك ستجد الجثة حال استغراقك في النوم، ويتكرَّر الحُلم ليلةً بعد أخرى. تدعو أمك الشيخ عاشور لفحص حالك فيَهبك حجابًا لتضعه فوق قلبك، ولكن الجثَّة لا تبرح منامك، وتسوء حالك فتذهب سرًّا إلى الطبيب النفسي، تتردد عليه أسبوعًا بعد أسبوع. يقول لك قولًا عجبًا؛ إنك تتصور أن صديقك قد قُتِل، وأن جثَّته هي جثَّتك أنت للارتباط العاطفي بينكما، عاطفة واحدة ربطت بينكما؛ فجثَّتُه هي البديل عن جثتك، ولكن لماذا تتصور أنك أنت القتيل؟ جثتك بدورها بديل عن جثةٍ أخرى أو بديل عن شخصٍ آخر تودُّ أن تقتله في أعماقك وهو أبوك؛ وعليه فالحلم كله انعكاس لعقدة أوديب. ما معنى هذا؟ أنا ما زرتك في الحُلم إلا تذكرة لجريمتك بُغيةَ إيقاظ ضميرك ليُكفِّر عن فعلك، فما دخل عقدة أوديب؟ إنك لا تعشق أمك ولا تودُّ قتل أبيك، ولكنك تعشق رشيدة وقتلتني أنا لتُزيحني من طريقك.
وشكا رءوف أمره إلى آبو، فقال آبو: الشكوى من التشخيص العلمي الناقص كثيرة، حساسية من الإحباط تُشخَّص كمرضٍ ناشئ عن تناول الشوكولاتة، كآبة من فقدان الإيمان يُعالَج بسببها العصب السمبتاوي، إمساكٌ شديد بسبب الوضع السياسي توصف له المُليِّنات وهلمَّ جرًّا.
– والعمل يا آبو؟
– هل أدركك اليأس؟
فبادَره رءوف: كلا.
– استثمرْ ما لديك من قوة.
٨
حُفظت قضية رءوف عبد ربه لعدم الاهتداء إلى أسباب اختفائه. تلاشى الحادث رُوَيدًا رُوَيدًا من الأذهان، لم تعد تذكُره إلا أمه ورشيدة، ومضى عانوس يُمارِس حياته اليومية مُستغرِقًا العمل واللهو. كان الماضي يُطارِده من حين إلى حينٍ سواء في اليقظة أو في المنام، ولكنه ألِف مناوشاته وغالَبها بالإرادة والمُخدِّر والمُنوِّم. وأمن جانب القانون تمامًا فراح يفكر من جديد في رشيدة، وإلا فما معنى إقدامه على أفظع فعل في حياته؟! كان يتعمَّد رؤيتها وأن يُريَها نفسه كل صباح وهما ذاهبان إلى معهدَيهما. ما زال وجهها مُكتسيًا بكآبة الذكرى، فهل لم تفقد الأمل بعد؟ وألا تُفكر يومًا في مستقبلها كفتاةٍ تنشُد الحياة والسعادة والإنجاب؟! وهل تطمح إلى من هو أصلح لها منه في الحارة كلها؟! لقد ضاعفت مغامرته الجنونية من تعلُّقه بها ورغبته الثابتة في الاستحواذ عليها. ومرةً تصادف مجلسه لصقها في الترام فحيَّاها، ولكنها تجاهلته فقال: كان يجب أن نتبادل المساعدة.
فقطَّبت نافرةً، ولكنه واصل حديثه: فكلانا يُعاني فقدَ عزيزٍ مشترك.
عند ذاك خرجت عن صمتها قائلةً: لم يُفقَد، ولكنه قُتِل.
– ماذا؟!
– كثيرون يؤمنون بذلك.
– ولكنه لم يكن له عدوٌّ واحد.
فرمته بنظرة ازدراء ولاذت بالصمت.
•••
إنها تتَّهمك يا عانوس بقتله. أكنت في شك من ذلك؟ تستطيع أن تمحو الجريمة من صفحتك ببعث نفسك والوقوف في وجه أبيك. لقد فات أوان الحب.
•••
غادرت الترام قبله، فأتبعها نظرةً مليئة بالحقد والرغبة. ودهمت مُخيِّلتَه أحلامٌ طائشة مُفعَمة بالعنف والشهوة.
٩
وقالت أم رشيدة لأم رءوف: الجميع يتكلمون عن ذلك الرجل العجيب الذي يُحضِّر الأرواح، فلِمَ لا تُجرِّبينه علمًا بأنه لن يُكلِّفك مليمًا واحدًا؟
فرنت إليها الثكلى حائرةً ثم تمتمت: وتذهبين معي؟
– لمَ لا؟ .. سأتصل بالمرحوم أبي رشيدة.
وقالت رشيدة وهي تُتابِع الحديث باهتمام: أناسٌ محترمون كثيرون يؤمنون بتحضير الأرواح.
وتواعدن على يوم في تكتمٍ شديد، وقال رءوف لآبو مُتهللًا: هي فرصتي لكشف الستار عن المجرم.
فقال آبو: أنت مُنتدَب مرشدًا له لا عليه.
– أنترك هذه الفرصة تفلت من أيدينا؟
– لستَ مرشد شرطة يا رءوف، إنك مرشد روحي، وهدفك أن تُنقِذ عانوس لا أن تُسلمه للجلَّاد.
– ولكنه مثل الصخر لا تؤثر فيه نسائم الحكمة.
– إنه اعتراف بالعجز.
فهتف رءوف: كلا .. لم أقنط بعد .. ولكن ماذا عليَّ أن أفعل إذا استُدعيت روحي؟
– أنت حر فلا تُقيِّد حريتك بالإلحاح في الاسترشاد.
وانعقدت جلسة التحضير، وشهدتها أم رءوف وأم رشيدة ورشيدة. واستدعت روح رءوف فحلَّ في ظلمة الحجرة، وقال لأمه بصوتٍ سمعه جميع الحاضرين: رءوف يُحيِّيك يا أمي.
فشهقت المرأة لتوكُّدها من موت ابنها وتساءلت: ماذا حدث لك يا رءوف؟
فقال رءوف بلا تردد: لا تخزني. أنا سعيد، لا يُزعجني إلا حزنك. تحيَّاتي إلى رشيدة.
وسرعان ما غادَر الحجرة.
١٠
ورجعت أم رءوف وأم رشيدة ورشيدة وهن يتساءلن: لمَ لم يَبُح بسِر مُقتله؟
فقالت أم رءوف وهي تُجفِّف دمعها: ولكنه انعدم في عز شبابه.
فقالت رشيدة: لا تُزعجيه بالحزن.
وقالت أم رشيدة: من يدري؟ لعله مات في حادث.
– ولمَ لم يُخبرنا بحقيقة موته؟
– إنه سرُّه على أي حال.
وأصبح شهود الجلسات هواية أم رءوف وسَلواها الوحيدة في الدنيا، وكانت تصحب أم رشيدة ورشيدة معها، وعندما جاءت الأيام الأخيرة السابقة لامتحان رشيدة تخلَّفت عن الذَّهاب معهما.
وفي ليلة من تلك الليالي، وكانت بمُفردها بالشقة وهي تُذاكر إذ اقتحم الحجرةَ عليها عانوس قدري الجزار. تسلَّل من المنور ثم اقتحم الحجرة. وهتف به رءوف أن ارجع ولا تتقدم خطوةً واحدة، ولكنه هجم على رشيدة وكتم الصوت في فيها براحته وهو يقول: ستجرين بعد ذلك ورائي يا عنيدة.
وشرع بوحشية في اغتصابها وهي تُقاوم بعنفٍ يائس. وصرخ: سأغتصبك حية أو ميتة.
وتسلَّلت يدها إلى المِقص فوق الخوان وبقوةٍ جنونية وهي مُهتصَرةٌ تحت ثقله رشقَته في جانب رقبته. شد عليها بقسوة ووحشية، ثم تراخت قوته فانطرح فوقها جسده بلا حراك، وتدفَّق الدم الحارُّ على وجهها وصدرها المُمزَّق.
دفعته عنها فاستلقى فوق الكليم المُتهرئ، وجرَت مُترنحةً نحو النافذة وهي تصرخ بأعلى صوت.
١١
هُرِع الناس إلى الشقة فوجدوها كالمجنونة مُخضَّبةً بالدماء. رأوا جثة عانوس فارتفع الصراخ. صاحت وهي تتكوَّر على نفسها: أراد أن يغتصبني.
ولولا وُصول الضابط وشيخ الحارة قبل أن يتناهى الخبر إلى المعلم قدري الجزار لفتك بها. وكان يزأر: ابني … وحيدي … سأحرق الدنيا.
وأحاطت القوة برشيدة، وصاح الضابط: الجميع يخرجون في الحال.
وصاح قدري مُوجهًا عاصفته إلى رشيدة: سأشرب من دمك.
وانتشرت نيران الخبر الدامي في الحارة.
١٢
وقف عانوس يرنو إلى جثته وهو في حيرةٍ غاشية. تقدَّم رءوف منه باسمًا فنظر إليه الآخر وتمتم: رءوف! .. ماذا جاء بك؟
فأجابه برقة: جاء بي الذي جاء بك، هلمَّ معي بعيدًا عن هذه الحجرة.
فأشار إلى جثته وقال: وأترك هذه؟
– هي ثوبك القديم، ولم يعد يصلح للاستعمال.
– هل … هل …؟
– أجل .. لقد غادرت الدنيا يا عانوس.
وصمت مليًّا ثم قال مُشيرًا إلى رشيدة: ولكنها بريئة.
– أعرف ذلك، ولكنك لن تستطيع إسعافها .. هلمَّ معي .. فقال عانوس بعد تردُّد: آسف على ما اقترفته فيك.
– لا أهمية للأسف.
– إني سعيد بلقائك.
– وإني سعيد بلقائك.
١٣
وسرعان ما أعطاه فكرةً سريعة عن دنياه الجديدة. ولما جاء آبو قال رءوف: آبو، مُحاميك يا عانوس.
فقال آبو مُخاطبًا عانوس: أهلًا بك يا عانوس في السماء الأولى.
فتساءل عانوس بذهول: كُتبت لي الجنة؟!
فابتسم آبو وقال: صبرك، الطريق أطول مما تتصور.
ومضى آبو يُزوِّده بالمعلومات الضرورية عن عالمه الجديد، والمحاكمة، ونوعية الأحكام المُتوقَّعة. وتمثَّلت لعانوس أفعاله أشباحًا قبيحة مُفزعة، فتجهَّم وجهه وتجرَّع القنوط حتى الثمالة، غير أن آبو قال: على أي حال فإن مَهمَّتي هي الدفاع عنك.
– وهل لديك فرصة لذلك؟ .. هل يُخفِّف من آثامي حرماني من الحياة وأنا في عز الشباب؟
– لقد خسرتها بيد فتاة وهي تدفع عن شرفها اغتصابك، ثم تركتها متهَمة بقتلك.
– هذا صحيح، كم أتمنَّى أن أُندَب مُرشدًا روحيًّا لها!
– كانت ناجحة كما كان مُرشدها ناجحًا؛ فليست هي في حاجة إليك.
– أيعني هذا أنني هلكت؟
– أبوك ولا شك يربض وراء فسادك، هو الذي دلَّلك، هو الذي ملأك بالأنانية، هو الذي جرَّأك على كرامات العباد، هو الذي يسَّر لك ارتكاب الجرائم كأنك تملك الدنيا بلا شريك.
فقال عانوس مُنتعشًا: نطقتَ بالحق.
– ولكنك تُحاكَم باعتبارك ذا عقل وقلب وإرادة حُرة.
– قوة أبي خدَّرت قُواي جميعًا.
– السماء تعدُّك مسئولًا عن نفسك وعن العالم أجمع.
– أليست مسئوليةً فوق طاقة البشر؟
– ولكنك تحمَّلتها مُقابل ظفَرك بالحياة.
– لقد وُلدت بغير إرادة مني.
– بل أُخذ عليك العهد وأنت في الرحم.
– بالصدق والصراحة لا أذكُر ذلك.
– كان عليك أن تتذكره.
– إنها محاكمة لا دفاع.
– علينا أن نكشف عن الحقيقة.
– لم أخلُ من خير؛ فقد طلبت العلم كما أنني أحببت حبًّا صادقًا.
– سعيت إلى العلم كوسيلة إلى مركزٍ مرموق، وكان حبك مجرد رغبة مُتعجرفة في امتلاك فتاة صديقك الفقير.
– لم تكن تُفارق خيالي لحظةً واحدة.
– لم تكن إلا كبرياء وشهوة.
فقال عانوس مُتعلقًا بأي خيط وهو يُشير نحو رءوف: مارست الصداقة الصافية.
– ألم تقتلها بعد ذلك بوحشية؟
– كان حزني قاسيًا.
– لا غبار على ذلك.
– وحبي للقطط وحنوِّي عليها؟
– هذا جميل أيضًا.
وبعد صمتٍ قليل عاد آبو يتساءل: وماذا عن موقفك من جبروت أبيك؟
– كنت ابنًا بارًّا.
– البِر لم يكن مطلوبًا في حالك.
– طالما استفظعت بعض فِعاله.
– وطالما أُعجبت بأفعالٍ أخرى لا تقلُّ عن الأولى في بشاعتها.
– لو مُد في عمري لتغيَّر الأمر.
– إنك تُحاكَم على ما كان.
– أو أن أُعطى فرصةً أخرى.
فقال آبو بغموض: ربما تهيَّأ لك ذلك.
– متى أمثُل أمام المحكمة؟
– لقد تمَّت المحاكمة يا عانوس، ويؤسفني أن أُبلِّغك بأنه قُضي عليك بالإعدام.
في الحال تلاشى عانوس كنفحة الشابورة، تحت ضوء الشمس. ونظر رءوف إلى آبو مُتسائلًا: هل أستمرُّ مُرشدًا له؟
– إنه لن يولد من جديد فوق الأرض قبل عام على الأقل، وقد ينتظر أكثر من ذلك.
– وما عسى أن يكون عملي الجديد؟
فقال آبو بأسًى: ستتقدَّم إلى المحكمة من جديد.
فهتف رءوف: ألم أبذل أقصى ما لديَّ من جهد؟
– بلى، ولكنك فشلت، وقد أُعدمَ رجلك كما رأيت.
– العبرة بالعمل لا بالنتيجة.
– العبرة بالعمل والنتيجة معًا، ثم إنك أخطأت خطأً فاحشًا.
– ما هو يا آبو؟
– لم يكن لك إلا أن تحمله على الاعتراف بجريمة قتلك كأنها الجريمة الوحيدة في الحارة أو كأنها أكبر الجرائم.
– ألم تكن مشكلته الأولى؟
– كلا.
– فماذا كانت مشكلته؟
– أبوه كان المشكلة، لو حرَّضته على أبيه لأصبت أكبر الأهداف.
فلاذَ رءوف بالصمت محزونًا، فواصَل الآخر حديثه: لم تُحسِن اختيار الهدف، غلبتك الأنانية وأنت لا تدري، ولم يكن يسيرًا أن يعترف شابٌّ أحمق مُدلَّل ليُضحِّي بحياته، كان الأيسر أن يتمرَّد على وحشية أبيه. ولو نجح في مَهمَّته لانفضح أمر جرائم أبيه مُتضمنةً جريمة قتلك.
فقال رءوف مُسلِّمًا: أعلنِّي بالحكم.
فقال آبو: يؤسفني يا رءوف أن أبلغك بأنه قُضي عليك بالإعدام.
وسرعان ما تلاشى رءوف عبد ربه.
١٤
جرى تحقيقٌ طويل مع رشيدة سليمان، قُدِّمت للمحاكمة. اقتنعت المحكمة بأنها ارتكبت جريمتها دفاعًا عن النفس فأصدرت حكمها بالبراءة. وجدت أمها أن من الخطر غير المأمون العواقب البقاء في الحارة تحت رحمة المعلم قدري الجزار، فهربت مع ابنتها بليل، ولم يُستدلَّ لهما على مكان.
ولما كان تيَّار الحياة المُتدفق أبدًا يجرف زبد الأحزان فقد تزوَّجت أم رءوف الوحيدة الفقيرة من شاكر الدرزي شيخ الحارة عقب وفاة زوجته بنصف عام، وأنجبت له طفلًا ذكرًا أسمَته رءوف تخليدًا لذكرى فقيدها. ولم يكن رءوف الجديد إلا روح عانوس بن قدري الجزار قد لبست جسمًا جديدًا. كذلك أنجبت إحدى زوجات قدري الجزار طفلًا ذكرًا أسماه الرجل عانوس تحية لذكرى فقيده، ولم يكن سوى روح رءوف تقمَّصت جسدًا جديدًا.
١٥
نشأ رءوف (عانوس) في بيت شاكر الدرزي الحافل بالإخوة والأخوات، في حياةٍ ميسورة بفضل النقود التي يرشوه بها قدري الجزار، ولكن شيخ الحارة لم يكن يُعنى بتربية أولاده، زوَّج البنات، أما الصِّبيان فلم يُجاوِز أحدهم مرحلة الكُتاب في تعليمه، فعملوا في شتى الحِرف سواء في الحارة أو خارجها. ولم يكن حظ رءوف أسعد من إخوته. في البدء أصرَّت أمه على أن ينجح في التعليم، وأن يعيد سيرة أخيه الفقيد، وبسبب من إصرارها تعرَّضت لزجرٍ شديد من زوجها. وسرعان ما ألحق ابنه عاملًا صغيرًا في الطابونة، وفرح رءوف بذلك؛ إذ لم يجد من نفسه الميل الصادق أو العزيمة المُتوثِّبة لطلب العلم. وبتقدُّمه في العمر مضى يُدرك الوضع في حارته، سطوة المعلم قدري الجزار، والدور الخسيس الذي يلعبه أبوه، والحياة الفقيرة التي قُضي عليه بها في خدمة المعلم رشاد الدبش صاحب الطابونة. وقد زامَل عانوس رءوف في الكُتاب، ومال كلٌّ منهما إلى صاحبه، فاشتركا في اللعب دهرًا، وتوطَّدت بينهما ألفةٌ قوية، غير أن الحياة فرَّقت بينهما رغم تجاورهما في حارة واحدة. أُلحق عانوس بالابتدائية، ثم الثانوية، ثم دخل كلية الشرطة. ربما تلاقيا في الطريق، أو تقابلا في بيت قدري الجزار ورءوف يتلقَّى العجين أو يرجع بالأرغفة، عند ذاك يتبادلان ابتسامةً عابرة أو تحيةً — من ناحية عانوس — فاترة. أدرك رءوف أن صداقة الطفولة ذابت وتبخَّرت، وأن عالمَيهما مُتباعدان. وازداد شعوره حدةً بتناقضات الحياة وتعاستها فحنق على عانوس، ولكنه كره قدري الجزار ورشاد الدبش، واحتقر أباه. الحق لفحته نار الحياة، ولكن ضرَّمها ما يترامى إلى أُذنَيه في القهوة من مناقشات الشباب، حتى عانوس يُجالِس أولئك الشُّبان ويُدلي برأيه في حماس. وعند ذلك يبدو شابًّا غريبًا، مُتنافرًا مع جو البيت الذي يعيش فيه، ومُتمردًا على أبيه الجبَّار.
وجعل المعلم قدري الجزار يُراقِب نموَّ ابنه بقلق. إنه نبت جديد شرس، غريب مُثير للمخاوف، أو كما قال عنه مرةً «ابن حرام».
ومرةً سأله: ماذا تقول في القهوة للأوباش وماذا يقولون لك؟
فأجاب عانوس بأدب: نتبادل الهموم يا أبي.
– إنهم أعداؤك.
فقال باسمًا: إنهم أصدقائي.
فهتف الأب بغضب: إذا جاوزتَ حدَّك فستجدني شخصًا آخر لا يعرف الرحمة.
وقال قدري الجزار لنفسه إن ابنه سيصير عما قليل ضابطًا، سيعقل ويعرف موضع قدمه، ثم يتزوَّج وتنتهي مشكلاته.
وتخرَّج عانوس ضابطًا، وعُيِّن في قسم الحي بفضل أبيه وسعيه عند الكبراء.
١٦
إنه الزمن الذي جعل من رءوف وعانوس شخصَين غير مُتوقَّعين. اكتسح الحارةَ تيَّار، بل تيَّارات جديدة، مُتمردة وأحيانًا ثائرة؛ لذلك مرقا من جو البيت الخانق واستعار كلٌّ منهما لنفسه شخصيةً جديدة. ولم يشعر أحد بخطورة عانوس قبل أن يصير ضابطًا. أجل وقعت مشاغباتٌ متباعدة بينه وبين أبيه، ولكن الأب توقَّع أن يتغير كل شيء لصالحه حال اندماج ابنه في حياته الرسمية، أما رءوف فسرعان ما غضب عليه مُعلمه رشاد الدبش، فلطمه على وجهه وصاح به: احرص على رزقك ولا تُحرِّض أقرانك على الفساد.
ولولا منزلة أبيه — شاكر الدرزي — كشيخ حارة لفصله من عمله، ولكنه شكاه إليه فدهش الرجل لهذا العصيان الجديد في نوعه وأدَّبه بعلقة ساخنة. ولما آنس منه عنادًا استعان بحضرة الضابط عليه، قال له: يا فندم هدِّده بالقانون؛ فهذا خير من أن نُضطرَّ إلى القبض عليه غدًا.
هكذا مثل رءوف أمام صديقه القديم عانوس. تبادلا النظر طويلًا. ثَمة ذكرياتٌ مشتركة أفعمت «جوهما» بالدفء. ابتسم عانوس وسأله: كيف حالك يا رءوف؟
فأجاب رءوف: قطران، بعيد عنك.
– كان عليك أن تستمرَّ في تعليمك.
– إنه أبي وما مضى قد مضى.
فشحن صوته بجدية وهو يقول: احرص على رزقك؛ فالقانون لا يرحم.
فقال رءوف بنبرةٍ ذات معنًى: مُعلمي شَرِه ولا رحمة في قلبه.
فقال عانوس بصوتٍ مُنخفض: احرص على رزقك.
وعقب ذلك سعى عانوس لاتخاذ إجراء هزَّ وجدان الحارة وزلزل أباه؛ فقد نُقِل شاكر الدرزي إلى حارةٍ أخرى، وأحلَّ محلَّه شيخ حارة جديدًا أهلًا للثقة يُدعى بدران خليفة. ثار الأب قدري الجزار ثورةً عنيفة؛ فقد خسر اليد التي تحميه من القانون، وسأل ابنه: كيف يحصل هذا وأنت ضابط القسم؟
فقال له عانوس: في ذلك حماية لك وللناس.
– إنك ابني وعدوِّي يا عانوس.
– اعلم يا أبي بأني ابنك البار.
كان لكلٍّ لغته الخاصة به، واستحال التفاهم بينهما، واغبرَّ وجه البيت بالتراب الأسود.
١٧
وجاءت امرأة لمقابلة عانوس في القسم. عندما وقعت عيناه على صورة وجهها جاش صدره بنغمةٍ جديدة وعذبة. بديعة هذه السُّمرة الرائقة وهاتان العينان اللوزيتان السوداوان، كأن الصورة قد رُسمت على هواه من أجل هواه. لعلها في الخامسة والثلاثين أو تزيد؛ فهي أكبر منه بحوالَي عشرين عامًا. في عينَيها رصانة تُقارب الكآبة. قالت: إني أطلب حمايتك.
سألها عن هُويَّتها فقالت: اسمي رشيدة سليمان، مُدرِّسة، نُقلت حديثًا إلى مدرسة العهد الجديد بالحي.
هذا الاسم، هل مرَّ ذات يوم بشبكة ذاكرته؟ سألها وعيناه تُحدقان في وجهها بشغف: ممَّ تخافين؟
– إنه تاريخٌ قديم، قد أتعرَّض بسببه لاعتداء على حياتي.
– حقًّا؟ ما التاريخ؟ ومن المُعتدي؟
فقالت بعد تردُّد: قضيةٌ قديمة بُرِّئت منها، كنت في حال دفاع عن النفس، ولكن والد القتيل رجلٌ مُخيف وله أعوانٌ مُجرمون.
اقتحمَته الذكرى القديمة التي سمعها تتردد في صباه كعاصفة، شدَّ على أعصابه ليملك نفسه المُشتَّتة. إنه أمام قاتلة أخيه عانوس الأول. ها هي تفتنه كما فتنت أخاه من قبل. وواصلت رشيدة حديثها: هربنا إلى إمبابة، عملت مُدرِّسة في الأقاليم، وإذا بي أُنقَل فجأةً إلى الحي القديم.
صمت مطحونًا بدوَّامة انفعالاته، لم يسألها عن اسم الرجل المُخيف، ولكنها قالت: أما الرجل فمعروف عندكم، إنه المعلم قدري الجزار.
استردَّ نفسه بجهدٍ شديد مُتسائلًا: حضرتك مُتزوجة؟
– لم أتزوَّج قط.
– لمَ لم تشرحي ظروفك للمنطقة التعليمية؟
– لم يهتمَّ بي أحد.
– أين تسكنين؟
– ١٥ شارع الدري، إمبابة.
فقال بهدوء: اطمئني، سأخاطب المنطقة بنفسي، وإذا تباطأت فسأعمل على حمايتك.
تمتمت بحرارة: شكرًا .. لا تنسني من فضلك.
كلا. ليس من المُستطاع نسيانها.
١٨
لم يجد عانوس صعوبة في إلغاء النقل. وبنفسه ذهب إلى البيت رقم ١٥ بالدري بإمبابة. الوقت أصيل، والنيل شِبه ساكن، ومن فوق سطحه تتهادى لفحاتٌ باردة. استقبلته رشيدة بدهشةٍ ممزوجة بسرور وأمل، ثم قادته إلى حجرة استقبال صغيرة وبسيطة ومُهندَمة. قال: معذرةً عن الزيارة، ولكني أردت أن أسارع بطمأنينتك بإلغاء النقل.
– ألف شكر يا فندم.
أمرت له بقهوة فتهيَّأ له البقاء فترةً كما أمل.
– تعيشين مع والدتك؟
– أمي ماتت منذ عشرة أعوام، معي شغالة عجوز وطيبة.
يا للخسارة، إنها عانس ولكنها مُحتفظة بروائها.
– هل يُزعجك أن تعرفي أنني عانوس قدري الجزار ابن الرجل المُخيف؟!
ذُهلت. تلوَّن وجهها الأسمر فاكتسى بعمق. لم تنبس بكلمة.
– إني ألمس انزعاجك.
فقالت بنبرةٍ مُتهدجة: مجرد دهشة.
– أرجو ألا تكرهيني.
فقالت بحياء: إنك إنسان.
ومضى يحتسي القهوة وهو يختلس منها النظرات، ثم قال ضاحكًا: لست مُخيفًا كوالدي.
– إني واثقة من ذلك.
– حقًّا؟!
– الأمر واضح جدًّا، والحق أني بريئة.
فقال بهدوء: إني واثق من ذلك.
ومُواصلًا بعد صمت: ولكنه ثَمة شيءٌ يُحيِّرني؟
فرمقته بنظرةٍ مُتسائلة، فقال: لمَ لم تتزوَّجي؟!
فنظرت بعيدًا مليًّا ثم قالت: رفضته أكثر من مرة.
– ولكن لماذا؟
– لا أدري.
– بسبب حب الآخر؟!
– ولكنه نُسي ككل شيء.
– لا بد من سبب.
– ليس الدم بالتجربة الهيِّنة. لعلي يئست من القدرة على إسعاد أحد.
– أمرٌ مؤسف.
– لعل الخير فيما كان.
فقال مُتعمدًا: ما زلتِ شابَّة وجميلة.
في طريق عودته سبح في أجواءٍ خيالية، كره الضرورة التي تبعده عن البيت ١٥ وعن إمبابة، وقال لنفسه: «إني أحب رشيدة.»
١٩
وقف الجفاء سدًّا منيعًا بينه وبين أبيه. حزنت لذلك أمه حتى الموت. أصبح البيت كئيبًا مثل جحر فئران. هل سعى إلى النقل إلى إقليم؟ وإمبابة؟! ماذا يحدث لو عرف أبوه العاطفة المُتأججة في صدره؟ تراءت له فكرةٌ طارئة، وهي أنه خُلِق عقابًا لأبيه، وإلا فما معنى أن يعلن عليه حربًا سِرية مذ وعى ما حوله؟! يا له من أبٍ خليق بالرفض المُطلَق. إنه لموقفٌ مؤسف ومُحزِن. خاصةً وأن الرجل أحبَّه كل الحب. بقدر ما هو وحشٌ فظ في الخارج فهو أليف مُستأنس بين جدران بيته، وهو لا يتصور شذوذ نفسه. يؤمن بأنه يُمارِس حقوقه الطبيعية، حقوق الذكي القوي. نهمه للمال والسطوة غير محدود. اعتاد الإجرام كأنه تحية الصباح. حدوب على أعوانه وكريم حتى السفه. أما الكادحون ممن يبتزُّ نقودهم ويحتكر أقواتهم فيحتقرهم، وهو لا يرحم من يحتقر، وسيَمقته يومًا فيمحق أبوَّته. الأدهى من ذلك أنه دمغ أمه بطابعه فهي تعبد قوته، وكلما ارتكب إثمًا استغرقتها العبادات ولكنها تعبده. إنه — عانوس — يقيم في عرين، في معبد للقوة والخطايا.
وتعقَّدت الأمور، وقذفت من جوفها مواقف مُتحدية؛ فقد ضُبِط أعوان لأبيه وهم يبتزُّون نقودًا من عمال الطابونة. سرعان ما أُلقيَ القبض عليهم لأول مرة في تاريخ الحارة. انفجر ينبوع فرحة ضاحكة في الحارة، وثار بركان في بيت قدري الجزار. لم يعد البقاء — لعانوس — محتملًا. قرَّر الذهاب. اهتزَّ جذع أمه وهي تبكي وتقول: إنه الشيطان.
فلثم جبينها وذهب، واستأجر شقة صغيرة في إمبابة، وقال لنفسه إن القضاء على أعوان أبيه هو قضاء على طاقته الشريرة. سيعجز عن الإيذاء وتفلت الحارة من قبضته الجهنمية. وكان يدعو الله ألا يضبطه — أباه — مُتلبسًا بجريمةٍ مباشرة. والظاهر أن الرجل صمَّم على مقابلة التحدي بتحدٍّ مثله قبل أن ينهار جداره؛ ففي نفس الليلة نشبت معركة بين الأعوان وبين عمال الطابونة، وأصيب رءوف إصابةً بالغة غير أنه اغتال المعلم قدري الجزار قبل أن يلفظ أنفاسه.
أحداث مُتتابعة مُتفجرة زُلزلت بها الحارة زلزالًا، فانغمست في الدم، ولكن تبدَّدت الظلمات.
٢٠
وجد قدري الجزار نفسه أمام آبو، وسمعه وهو يقول له: أهلًا بك يا قدري في السماء الأولى.
ومضى يُعرِّفه بنفسه وبالمكان. لاحظ أن قدري شارد اللب يثقل النظرة، فقال له: كأنك لم تقطع أسبابك بالأرض بعد؟
– شيء يثقل على صدري.
– انتبِه .. إنك تعرف الآن مصيرك.
– أجل، ولكني ما تصوَّرت أن يقتلني ولدٌ مثل رءوف.
– ذاكرتك الجديدة لم تنبعث فيها اليقظة بعد.
تبدَّت الحيرة في أسارير قدري الجزار، ومضى يُفيق رُوَيدًا رُوَيدًا حتى ندَّت عنه آهةٌ عميقة، وابتسم آبو وتساءل: أعرفت من هو الولد رءوف؟
فقال قدري بأسًى: قتلني ابني عانوس.
– أجل، وماذا كنت قبل ذلك؟
– أدولف هتلر.
– وقبل ذلك؟
– بردوني قطَّاع الطُّرق بأفغانستان.
– سجلٌّ أسود طويل، لماذا تستعصي على الترقي وتُهدر الفرص المُتاحة؟ .. ابنك أفضل منك، كثيرون أفضل منك.
فقال بانكسار: لن يذهب هذا الدرس سدًى.
– ولكنك حتى مثولك بين يديَّ لم تكن قطعت أسبابك بغرائز الأرض.
– لم أكُن قد أفقت بعد.
– عذرٌ أقبح من الذنب. فيمَ تأمل؟
– آمل أن أُندَب مُرشدًا.
– هل لديك دفاع عن سلوكك في الأرض؟
– نعم، لقد بدأت تاجرًا صالحًا، وما أطمعني في الناس إلا ضعفهم وتهاونهم ونفاقهم، فاستعذبت القوة والطغيان ولم أجد رادعًا.
– إنهم سيُعاقَبون على ضعفهم وتهاونهم ونفاقهم كما ستُعاقَب على استغلالك لحالهم.
– وقتلي بيد ابني الحقيقي ألا يُكفِّر عني سيئاتي؟
– لا قيمة لهذه العلاقات هنا، وكم قتلت من أبناء وإخوة وأنت لا تدري!
– على أي حال فأنا لم أخلق طبعي ولا غرائزي.
– إنك مالكها الحر، ولم تحدَّ حُريتَك فيها حدود.
فقال بتوسل: أحسِنْ دفاعك عني ولك ما تشاء.
فضحك آبو وقال: ما زلتَ لاصقًا بالأرض، وهو الإثم الذي لا يُغتفر.
– ماذا تقول عن المحاكمة؟
– لقد انتهت المحاكمة يا قدري، وقُضي عليك بالإعدام.
وسرعان ما تلاشى قدري الجزار.
٢١
وتلقى آبو رءوف وهو مُتلفِّع بسحابته البيضاء، وجرى تعارفٌ قصير، فتجلَّى التساؤل في عينَي رءوف. وقال له آبو: أهلًا بك في السماء الأولى.
ومضى يُزوِّده بالمعلومات الضرورية، ثم سأله: كيف جئت إلى هنا؟
– قُتلت في معركة.
– ولكنك قتلت قاتلك أيضًا.
– هاجمته وأنا مطعون، لا أدري شيئًا بعد ذلك.
– للمرة الثانية تجيء قاتلًا ومقتولًا.
– حقًّا؟
– إني أعلم ما أقول.
– ماذا كان جزائي في المرة السابقة؟
– الإعدام.
– فتساءل رءوف بقلق: هل يتكرر ذلك؟
– ماذا تريد أنت؟
– كنت أخوض معركةً عادلة، وقتلت شيطان حارتنا.
– هذا حق.
فتهلَّل وجه رءوف وتساءل: هل آمل في البراءة؟
– مما يؤخذ عليك كسلك عن طلب العلم.
– ما أقسى الظروف التي عانيتها.
– هذا حق، ولكننا نُقيِّم الفرد من خلال صراعه مع ظروفه.
فتجلَّى الأسى في وجه رءوف، فقال آبو: إنك ولدٌ طيب، ولكن الصعود إلى السماء الثانية مطلبٌ عزيز.
– ألا يشفع لي ما فعلت؟
– لقد سمع كل شيء، وصدر الحكم بندبك مُرشدًا.
فسلَّم رءوف بالحكم راضيًا، فقال آبو: بُشرى أخرى، ستُندَب لإرشاد عانوس.
– ضابط الشرطة؟
– أجل، وسلوكه يُبشِّر بالخير؛ مما يضمن لك عاقبةً سعيدة.
– هي السماء الثانية فيما أعتقد؟
– أجل.
– أهي الجنة الموعودة؟
فابتسم آبو وقال: توجد سبع سماوات منذورة لخدمة أهل الأرض؛ فلم يئن الأوان للتفكير في الجنة.
– وكيف يتمُّ الصعود من سماء إلى سماء؟
– من خلال المحاكمات المتتابعة.
فتساءل رءوف في ذهول: وهل نُعفى من الكفاح بعد السماء السابعة؟
فابتسم آبو وقال: هذا ما يُقال عادةً على سبيل التشجيع والعزاء، ولكن لا يوجد عليه دليلٌ واحد.
ومضى به في انسياب عذب غنائي، يغوصان في أمواج مُقطرة بيضاء، فوق خضرة مُتألقة لا حدود لها.