الرجُل والآخَر
من دكان الفاكهة خرج الرجل حاملًا قرطاسًا مثل قمع السكر. ابتلعه تيَّار بطيء مُتلاطم في سوق الخضار. ولقامته الطويلة برز وجهه الباسم المُتورِّد فلمحه الآخر من موقفه عند كشك السجائر وقال لنفسه: «أخيرًا .. لن يفلت مني.» وجعل يُتابعه بانتباه حتى تملَّص من الزحام فمرق إلى الميدان. من المهم جدًّا ألا يُثير ريبته حتى تحين الفرصة المُواتية. الرجل يُجيل بصره في الميدان حتى يستقرَّ على محل الحلوى في الجهة المقابلة ويمضي إليه فوق نصف دائرة الميدان الأيمن، فيمضي الآخر نحو الهدف فوق نصف دائرة الميدان الأيسر. دخل الرجل المحل فوقف الآخر تحت عمود النور العالي. جو الخريف عذب. ضوء الأصيل هادئ يهبط من السماء بعد أن توارى قرص الشمس وراء العمارة العالية. الرجل ينتظر أن يفرغ البائع له. عيناه تثبان بنهمٍ بين صفوف الحلوى الشرقية والغربية، والآخر يُراقبه بصبر. ثَمة امرأةٌ تنتظر أيضًا، مليحة ومُتبرجة ومُرحبة بالمجهول. الرجل يرمقها بنظرة مُستطلعة. تُعرِض عنه ولكن شِبه باسمة. يتزحزح خطوة فيقتحم مجالها الحيوي. ها هو يهمس بجرأة. ها هما يتهامسان. قال الآخر إن ذلك يُنذِر بتعقيد الأمور. إضافة جديدة لمتاعبه وتحدٍّ غير مُتوقَّع لخطته. ويجيء دورها لابتياع ما تريد ثم يجيء دوره. يخرجان ووجهه يتهلل ويطفح بالرغبة والظَّفر، يتبادلان كلمات ضاحكة مثل فقَّاعات الشهد، ثم تمضي هي إلى شارع الملاهي، يُتابعها بعينَيه لحظةً ثم يسير على مهَل حاملًا القرطاس واللفة. لا شك أنهما تواعدا على لقاء، والآخر يأمل ألا يؤجل ذلك تنفيذ خطته، يرجو ألا يُهدَر تعبه الطويل وتدبيره الحاذق. قد يكون اللقاء قريبًا فتتعقَّد الأمور، وقد يكون لغد لن يجيء أبدًا. الرجل يسير، لا يُرهقه المشي، ولا يدري أحد متى يفتر نهمه وأشواقه. تجذبه معارض المحال التِّجارية كأنه ربة بيت. الساعات والنظارات والأدوات المنزلية والملابس وآلات الغيار والأجهزة الإلكترونية، حتى اللوازم الطبية وواجهات الصيدليات تجذبه. يتشمَّم رائحة الكباب والطعمية، يقرأ عناوين الكتب والمكتبات. وكلما جمعه موقفٌ مع امرأة أو فتاة دخل مجالها الحيوي، ولكن لم يحصل تلاحمٌ جديد. ولون المغيب يتشرَّب بالسُّمرة وتنفث النسائم برودة مُنعِشة. دخل محل أقمشة، وخرج بكيس نايلون مشحون ودسَّ لفة الحلوى في الكيس مع القماش المشترى. ابتاع أيضًا كتابًا .. تُرى أي كتاب؟ متى يعتقد أنه سيقرؤه؟ ودَّ لو يعرف اهتماماته الدفينة. إنه لا يكاد يعرف عنه شيئًا ذا بالٍ سوى الاسم والهُويَّة والتاريخ البغيض الغامض. وعطف الرجل إلى دكان مسح أحذية. أخذ مجلسه فوق الكرسي الدوَّار واضعًا حمله فوق كرسي خيزران قديم. ينظر إلى المرأة أمامه مُغازِلًا وجهه بإعجاب وارتياح. يُواجِه الصورة تارةً ويَثني رقبته يمنى ويسرى تارةً أخرى. والآخر يُراقِبه من زاوية فوق الطوار. التقت عيناهما لحظةً فوق سطح المرآة. تضايق وتحرَّك خطوةً نحو الأمام. غاب الرجل عن منظوره. لا يرى الآن إلا الإسكافي العجوز وصاحبة المحل البدينة. خشيَ الآخر أن تلتصق صورته بعين الرجل خاصةً أن وجهه سهل الانطباع؛ وجهه غامق وعيناه حادَّتان وشعره أسوَد كثيف، ولكن الرجل مُستغرِق في ذاته ولم يرَه من قبل. أضاءت مصابيح الشارع وتخايل ظل المساء. ها هو يُغادر الدكان وقد ازداد — بتلميع الحذاء — رضاءً عن نفسه، وارتطم به مارٌّ مُسرِع فارتدَّ بخطوة ملهوجة وهو يُشدِّد قبضته على حمله ويصيح غاضب: هوه!
توقَّف المُسرِع مبهوتًا وصمت، فصاح به مرةً أخرى: على الأقل اعتذر.
فسأله بضيق: أليست لديك لهجةٌ أفضل؟
– كلا.
– إذَن فليس لديَّ اعتذار.
– حيوان!
فبصق المُسرِع على الأرض مُحتجًّا. عند ذلك وضع الرجل حمولته فوق الرصيف ثم انقضَّ عليه فتبادلا ضربات شديدة. أدرك المُسرِع أنه ليس ندًّا لخصمه فتراجع قائلًا: غاوي خناق .. اشهدوا على المعتدي.
وتجمَّع خلق، وجاء الشرطي، والآخر يُراقِب بانفعال وضيق. وعندما قال الشرطي القسم موجود والصلح خير .. بدا أن المُتخاصمين تجنَّبا الذَّهاب إلى القسم، فتناول الرجل حمولته وذهب. تنفَّس الآخر بارتياح وتبعه. نسي الرجل انفعالاته تمامًا أمام محل للعب الأطفال. له أبناء في سن الطفولة! ودخل. ما أعظم إلحاحه وصبره! وخرج بلا إضافة. لعله لم يشترِ شيئًا، أو لعله اشترى لعبةً كبيرة سيُرسلها المحل إلى مسكنه. في تلك اللحظة قابَله كهلٌ يتأبَّط حقيبة، تصافَحا بحرارة، تبادلا كلمات سريعة، ثم مضى الكهل وهو يقول: لا تنسَ المحكمة يوم عشرة القادم.
أأنت أيضًا من أرباب المحاكم؟! متى تسمع الحكم؟ تُرى أين تذهب بعد ذلك؟ عصير فواكه .. ليَكن، أتعبتني الله يتعبك. للمرة الثانية تتلاقى عيناهما فوق سطح المرآة. انقبض صدره. هل يتذكره؟ كلا .. إنه مأخوذ بمذاق الشراب وعيناه تدمعان. ينظر ولا يرى، ويتملَّى صورته بإعجاب وبراءة.
ها هو يُغادِر الدكان، يعبر الطريق، يغيب في محل ترزي يعدُّ كسوة الشتاء. غاب ربع ساعة ثم عاد إلى الظهور، عرَّج إلى مقهى الحرية ثم دخل. المقهى على ناصية، وله أكثر من مدخل، فلم يرَ الآخر بدًّا من الدخول. جعل يُراقبه من مجلسٍ غير بعيد والرجل يحتسي فنجانًا من القهوة ويكتب خطابًا. أعطى الخطاب الجرسون وقام إلى التليفون. ها هو يقف قريبًا جدًّا منه: آلو .. حسن؟ .. الدكتور موجود؟
– …
– احجز لي في أقرب موعد.
– …
– عظيم .. الساعة السادسة مساءً .. شكرًا.
وما كاد يرجع إلى مجلسه حتى لحق به صديق، جالَسه وهو يتساءل: حضرت المأتم؟
– نعم .. علمت مصادفة.
– كلنا لها. هل أطلب النرد؟
– لا وقت.
– عشرة واحدة بجنيه، لي أو لك.
نظر في الساعة، قَبِل التحدي، لعبا من فورهما. يُعلق بسخرية على كل رمية زهر، ماهر في الحرب النفسية، واثق من انتصاره، في أقل من عشر دقائق قام وهو يدسُّ الجنيه في جيبه، فمضى ضاحكًا والآخر يقول له: يا لص، ربنا يرزقك بنشَّال!
قال الآخر لنفسه إنها دعوة مُستجابة غالبًا. يمضي الآن نحو عمارته وسط المدينة. هذه هي الفرصة. ليست مضمونة تمامًا، إذا فشلت فعليه أن يرسم خطةً أخرى. كلما فشلت خطة تعرَّضت التالية لمصاعب جديدة. ها هو يغيب في مدخل العمارة. لحق به ثم دخل المِصعد وراءه. إنهما مُنفردان. الرجل يسأل بكرم دون أن يلتفت إليه: الدور؟
– الأخير.
– وأنا كذلك.
ولكن امرأة أدركت المِصعد قبل أن يتحرَّك. جُن جنون الآخر، غير أن المرأة غادرت المصعد في الدور الثاني، فاستعاد الآخر حيويته ونشاطه. هذه هي الفرصة. الاحتمالات كثيرة، ولكن العواقب لا تهمُّه البتة. ليس في خطته للسلامة إلا واحد في المائة. وبحذر شديد قبض على المطواة المستكنَّة في جيبه.
غادَر المِصعد. لم يُصادف أحدًا. الظروف تخدمه فوق ما قدَّر. ترك باب المِصعد مفتوحًا عن زيق، ثم هبط مُسرعًا. مضى إلى حانة إيديال. شرب كثيرًا ولم يتناول من الطعام إلا الخس. ونعس وحلم حلمًا طويلًا في وقت قصير جدًّا. وغادَر الحانة فعبر أمام العمارة فوق الطوار الآخر، فرأى الشرطة وجمعًا لا حصر له. واصَل سيره إلى فندقه بالعتبة، دخل حجرته وهو يتنهَّد وقد نسي الحُلم تمامًا .. أغلق الباب، أضاء المِصباح. التفت إلى الوراء، رأى الرجل جالسًا فوق الفوتيل يرمقه بهدوء ثقيل كالموت .. ندَّت عنه آهةٌ دامية، تراجع حتى التصق ظهره بالحائط، تعلَّق بالفرار ولكنه لم يتحرك، وتسمَّر في مكانه وبال على نفسه. إنه حقيقة ما يرى، هو هو الرجل. القرطاس بيد والكيس بالأخرى .. الموت يُطلُّ من صورة حية .. يُحدق فيه بعينَين جامدتين عالمتين بكل شيء. شعر بغثيان ويأس، وقال إنه الشِّعر أو الجنون، وأمره بالاستسلام دون أن يتفوَّه بكلمة، يُخاطبه بلغةٍ جديدة وواضحة ونافذة وغير مسموعة. كيف ومتى جاء بهذه السرعة؟ وما معنى تجمهُر الشرطة والناس أمام مدخل العمارة؟ كم عامًا مضت منذ ارتكاب جريمته؟ كم عامًا لبث بالحانة؟ وكلما مرَّ وقت تأكَّد له وجود الرجل بثقله وسطوته غير المحدودة. وشيء حثَّه على أن يدسَّ يده في جيبه، فعثر على المِطواة التي تركها مُنغرِزة في قلب الرجل، فأدرك أن هذا العالم يخضع لقوانين كثيرة لا لقانون واحد.
دقَّت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. تلقَّى أوامر سِرية فتهيَّأ في خنوع لتنفيذها بدقة وطاعة عمياء. قام الرجل ببطء. سار بجلالٍ نحو الباب. فتح هو الباب ومشى بين يدَيه صامتًا مُذعنًا. أراد أن يصرخ، ولكن الصوت تلاشى في حنجرته. هبط السلَّم والرجل يتبعه. التَقى في طريقه بفرَّاش، بمدير الفندق، بموظف الاستقبال، ولكن أحدًا لم يُعِره التفاتًا، لم تسترعِ المعجزة انتباه أحد، لم تُثِر دهشة ولا اهتمامًا.
أمام الفندق وقف حنطور بلا حِصان. اتجه الرجل نحو المقعد وجلس عليه بهدوء. أما هو فاحتلَّ مكان الحصان وتأبَّط العريشين. لم ينظر أحد من المارَّة لما يحدث، لم يتجمهر أحد، كل فرد مُنشغلٌ بشيء محسوس أو بشيء لا يُرى. أكثر من ذلك ترنَّم أحد السابلة شاديًا: أهل الهوى يا ليل.
وفرقع السوط فراح يجرُّ الحنطور. مضى في رشاقة وهدوء واستسلام. رأى جانبَي الطريق، ولكنه لم يرَ ما يمتدُّ أمامه، فغاص في مجهول. في خطٍّ مستقيم يتقدم أو ينعطف مُتلقيًا توجيهاته من جذبات اللجام. إلى أين يسوقه؟ ماذا يُضمِره له؟ لا يدري، ولا يُبالي. يمضي بلا توقف. يبول ويتغوَّط بلا توقُّف. يصهل أحيانًا ويرفع رأسه، يلمس لجامه بلسانه الجاف، تتابع إيقاعات حافره فوق الأسفلت. إيقاع رتيب يُنذر بمسيرة لا نهاية لها.