السكان والاتجاهات السكانية في فرنسا الحديثة١
كثيرًا ما ننظر إلى فرنسا باعتبارها دولة عريقة في التخلخل السكاني، ولقد كانت مخاطر التخلخل السكاني هي موضوع الدراسة المفضَّل طوال مائتَي عامٍ لدى أولئك الذين يعنيهم مستقبل فرنسا.
١
كانت فرنسا في عصر نابليون لا يفوقها، من حيث التعداد السكاني، سوى روسيا القيصرية التي تجاوزت تعداد فرنسا — على ما يبدو — في فترة من الفترات إبان القرن الثامن عشر. ولم تكن فرنسا — آنذاك — أكثر بلدان غرب أوروبا سكانًا، بل أكثرهم تمتعًا بمزايا الاتحاد السياسي قياسًا بوضع ألمانيا وإيطاليا، وكانت كذلك أكثرهم تمتعًا بالتجانس الثقافي قياسًا ببلدان النمسا والمجر التي تعددت فيها اللغات. وكانت فرنسا تضم داخل حدودها ما يقرب من ١٥٪ من مجموع سكان القارة الأوروبية.
وفي عام ١٨٧٠م تجاوزت الولايات المتحدة والإمبراطورية الألمانية فرنسا من حيث التعداد السكاني، وتجاوزتها المملكة المتحدة عام ١٩٠٠م، وتجاوزتها إيطاليا حوالي عام ١٩٣٠م. وفي عام ١٩٣٩م احتلت فرنسا في عهد دلاديير المرتبة الخامسة، بعد أن كانت الدولة الثانية في أوروبا؛ إذ أصبح تعداد سكان فرنسا عام ١٩٣٩م لا يتجاوز ٧٫٣٪ من مجموع سكان أوروبا والاتحاد السوفييتي.
وكان يُنظَر إلى هذا التدهور الديموجرافي في فرنسا باعتباره مسألة نسبية وليست مطلقة. فعلى العكس من أيرلندا التي كانت بلدًا يعاني من تخلخلٍ سكاني حقيقي، فإن فرنسا لم تكن تعاني خسارة سكانية غير محتمَلة. وكل ما حدث هو أنها فشلت في النمو بنفس معدل سرعة النمو السكاني في بقية البلدان الأوروبية. فقد حققت أوروبا، منذ عام ١٨٠٠م، أعظم توسُّع سكاني عرفه التاريخ، ولم تشارك فرنسا في هذا التوسع إلا بنصيبٍ متواضعٍ.
ففي خلال القرن التاسع عشر زادت فرنسا ١٢٠٠٠٠٠٠ نسمة، أو ما يعادل ٤٤٪. وزادت بريطانيا العظمى خلال هذه الفترة ذاتها ٢٦ مليونًا (أكثر من ثلاثة أمثال عددها)، وألمانيا ٣٢ مليونًا، وبلدان النمسا والمجر ٢٣ مليونًا، وروسيا الأوروبية حوالي ٧٠ مليونًا. وزاد سكان أوروبا — ككل — أكثر من الضعف، رغم الهجرة الواسعة، ورغم تعثُّر النمو السكاني في أيرلندا وفرنسا وجنوب أوروبا.
ولم يكن النمو السكاني البطيء في فرنسا — يقينًا — نتيجة فقرٍ أو كوارث؛ إذ كانت فرنسا أكثر تقدُّمًا من جيرانها في المجالَين الاقتصادي والثقافي. ولم تتعرض فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر إلى المجاعات التي اجتاحت أيرلندا وإمارات الجرمان، والتي قضت على عددٍ كبيرٍ من سكانهما، ودفعت بكثيرين إلى هجرة هذه الأراضي إلى ما وراء البحار.
وتفسير النمو البطيء لسكان فرنسا يكمن في الانخفاض التدريجي لنسبة المواليد خلال الفترة التي كانت تحتفظ فيها بقية الدول الأوروبية بالمستويات البدائية للخصوبة، وهي المستويات التي تميزت بها مجتمعات ما قبل التصنيع. فثمة أسباب عديدة ومتباينة ترجع إليها الرغبة في تحديد حجم الأسرة. وربما كانت نظرية لوبلاي هي أكثر النظريات رواجًا. فقد أرجع أسباب نقص الخصوبة إلى تشريعات الإرث التي سنَّتها فرنسا أثناء الثورة ضمن القانون المدني الفرنسي. وتُلزم هذه التشريعات الآباء بأن يوصوا لكل ابنٍ بنصيبٍ معين من ممتلكاتهم (أي أن يقسِّموا أراضيهم الزراعية بين أبنائهم جميعًا). والمعتقَد أن الخوف من تبديد ممتلكات العائلة بتفتيتها يفسِّر لنا نقص نسبة المواليد في القرن التاسع عشر، والتي ظهرت بالفعل في وقتٍ مبكرٍ في الريف.
وأيًّا كانت الأسباب فالشيء المؤكَّد أنه كان ثمة نقص بطيء وثابت في نسبة المواليد ومعدل النمو السكاني خلال القرن التاسع عشر. ومع عام ١٨٦٠م كانت نسبة التكاثر الخالصة في ٣٧ مقاطعة في فرنسا دون المستوى الذي يعوض الفاقد من السكان. ومع عام ١٨٩٠م كانت أكثر من نصف مقاطعات فرنسا (٤٩ مقاطعة من بين ٨٧) لا تعوض مواليدها عدد الفاقد منها، وأصبحت القرى المهجورة ظاهرة شائعة في فرنسا.
وتجلَّى الضعف الحقيقي للوضع الديموجرافي في فرنسا عندما واجهت فرنسا متطلبات الحرب العالمية الأولى. فقد خسرت فرنسا في هذا الصراع ١٣٢٠٠٠٠ قتيل من العسكريين، فضلًا عن ٢٤٠٠٠٠ قتيل من المدنيين. وكانت خسارتها من المواليد تعادل هذه الخسارة العددية الجسيمة — وهم المواليد الذين كان مقدَّرًا لهم الوجود لو لم تنشب الحرب — ومن ثَم فإن العجز الكلي لسكان فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى يُقَدَّر بما يزيد على ٣ ملايين نسمة، وتعادل هذه الخسارة ٨٫٧٪ من مجموع سكانها عام ١٩١٤م.
٢
واصلت فرنسا خلال أعوام ما بين الحربَين تخلُّفها عن جيرانها في النمو السكاني. ففيما بين عامَي ١٩٢٠م و١٩٣٩م زاد سكان فرنسا ٢٫٧ مليون نسمة أو ٧٪. وتمثِّل نسبة النمو هذه نصف نسبة النمو في ألمانيا (حسب مساحتها عام ١٩٣٧م)، وأقل من النصف بالنسبة لإيطاليا، وأقل من الربع بالنسبة لأوروبا الشرقية.
وترجع هذه الزيادة الطفيفة في النمو السكاني في فرنسا لسببٍ واحدٍ فقط وهو الهجرة إليها، والتي تمت على نطاقٍ واسعٍ للغاية. فأربعة أخماس الزيادة السكانية في فرنسا — على الأقل — مردُّها إلى حركة الهجرة السكانية الضخمة إلى داخل فرنسا خلال العقد الثاني من القرن العشرين، عندما حلَّت فرنسا محل الولايات المتحدة باعتبارها الدولة الأولى التي يقصدها الأوروبيون المهاجرون. وكانت هذه الهجرة ذات قيمة كبيرة بالنسبة لفرنسا، ذلك لأنها كانت تضم أساسًا شبانًا في ربيع عمرهم عوَّضوها عن خسائرها العسكرية في الأرواح خلال الحرب العالمية الأولى.
وتسبَّب الكساد الاقتصادي عام ١٩٣٠م في نقص نسبة المواليد وتوقُّف الهجرات الجماعية. ومن ثَم جَمَد تعداد السكان في فرنسا خلال هذا العقد، وزادت الوفيات على المواليد زيادة طفيفة منذ عام ١٩٣٥م. ومن ثَم فقد تهيأت — أخيرًا — كل الأسباب التي تدعو إلى وجود خلخلة سكانية حقيقية. ونتيجة العوائق التي حالت دون المزيد من الهجرة إلى فرنسا فقد ظلت اتجاهات ما بين الحربين قائمة مما أدى إلى احتمال نقص السكان فيها من ٤١٫٢ مليون نسمة عام ١٩٤٠م إلى ٤٠٫٣ مليونًا عام ١٩٥٠م، و٣٩ مليونًا عام ١٩٦٠م، و٣٦٫٩ مليونًا عام ١٩٧٠م.
ولقد كانت هذه النظرة نظرية سوداوية لمستقبل فرنسا. وإذا تحدثنا بلغة القوة البشرية العسكرية التي تمثِّل عنفوان الشباب فإن المسار التاريخي لعدد الذكور، ممن تتراوح أعمارهم بين ٢٠ و٣٤ عامًا، يصور لنا التدهور المطرد لوضع فرنسا (جدول رقم ١). فعند اندلاع الحرب الفرنسية البروسية كانت لدى فرنسا وألمانيا قوة بشرية متعادلة تقريبًا من الشباب الذي بلغ سن الجُندية. وعند نشوب الحرب العالمية الثانية كان لدى فرنسا أقل من نصف ما لدى ألمانيا من الرجال الذين يدخلون ضمن هذه المجموعة من الأعمار.
وكان هناك بعض العزاء لفرنسا من حيث إنها لم تعد هي الدولة الوحيدة بين القوى الأوروبية التي تواجه خطر التخلخل السكاني. فقد شهدت الدول الغربية الأخرى كذلك في فترة ما بعد الحرب تدهورًا سريعًا للغاية في نسبة المواليد، بل لقد كان معدل التكاثر السنوي الخالص في عديدٍ من هذه البلدان في عام ١٩٣٠م أقل مما كان عليه في فرنسا. إلا أن سكان هذه البلدان المجاورة كانوا في نموٍ مطرد، وذلك لأن توزيع الأعمار بين سكانها كان توزيعًا مواتيًا. فقد كان هناك تركُّز بين السكان للشباب ممن هم في مقتبل العمر، وهو العمر الذي يحقق أعلى نسبة من المواليد، ويتعرض لأقل نسبة من الوفيات. وكانت دول غرب أوروبا تشعر بجزعٍ حقيقي خوفًا مما ينتظرها من نقصٍ في تعداد سكانها. فهناك — على سبيل المثال — دراسات عن اتجاه حركات النمو السكاني فيما بين الحربين، دلَّت على أن النمو السكاني بدأ يتناقص في إنجلترا وويلز، وأنه سيسير في خطٍّ موازٍ تمامًا لحركة النمو السكاني في فرنسا.
ولكن شعوب البلدان الأخرى كانت تناقش — منذ زمن — خطرَ التخلخل السكاني الذي يتهددهم، أما فرنسا فقد كان الحديث عن هذا الخطر قد بدأ وشيكًا، وأكثر من ذلك فإن التدابير التي اتخذتها ألمانيا بعد عام ١٩٣٩م لإعادة تشغيل العاطلين وتشجيع النسل أدت إلى ارتفاع نسبة المواليد ثانية لدرجة كبيرة.
وثارت ثائرة الجماهير تطالب باتخاذ إجراءات تكفل إعفاءهم من الأعباء الاقتصادية الخاصة بالحمل ورعاية الأطفال، وبلغت ذروتها في قانون الأسرة. ووضع هذا القانون لأول مرة نظامًا شاملًا للعلاوات الأسرية تشمل غالبية السكان في فرنسا. ولكن لم يعد هذا القانون يولي ثماره كاملة حتى اندلعت الحرب؛ ومن ثَم لم يكن له تأثيرٌ واضح — بطبيعة الحال — على الوضع الديموجرافي في فرنسا قبل الحرب العالمية الثانية.
٣
ليس ثمة ما يثير الدهشة إذا عرفنا أن غالبية الزعماء الفرنسيين كانوا يخشون — تمامًا — إراقة الدماء في حرب عالمية ثانية. وعندما نشهد هزيمة فرنسا عام ١٩٤٠م، ونقل قرابة مليون ونصف مليون من الأسرى الفرنسيين إلى الرايخ، واحتلال الأعداء لفرنسا خمسة أعوام، وزج الكثيرين من الفرنسيين إلى معسكرات العمل الإجباري؛ فإننا ينتابنا إحساس بالخوف من أن يكون في كل هذا ضربة قاضية لفرنسا كدولة كبرى.
ولقد دفعت فرنسا — حقيقة — ضريبة كل هذا؛ إذ سقط ٩٢٠٠٠ من القوات الفرنسية صرعى في الميدان خلال معارك عامَي ١٩٣٠م، ١٩٤٠م، وقُتل أكثر من ٥٨٠٠٠ من قوات جيوش التحرير خلال الفترة من ١٩٤٠م إلى ١٩٤٥م، كانوا يحاربون في شمال أفريقيا وإيطاليا وفرنسا الأم وفي أماكن أخرى. ومُنيت المقاومة الفرنسية بخسائر تُقَدَّر بحوالي ٢٠٠٠٠ قتيل، ومات ستون ألفًا من جراء الغارات الجوية، وفقدت فرنسا أكثر من هذا العدد في العمليات الحربية البرية والمذابح. ويُقَدَّر عدد من نُفِّذَ فيهم حكم الإعدام — لأسبابٍ متفاوتة — بحوالي ٣٠٠٠٠. ويُضاف إلى هذا ٢٨٠٠٠٠ ماتوا خارج فرنسا كأسرى حرب أو مُبعَدين لأسبابٍ سياسية أو عنصرية أو في معسكرات العمل بل وباعتبارهم فرنسيين سيقوا إلى الفيرماخت، وكان أكثر هؤلاء مواطنين فرنسيين من منطقة الألزاس واللورين التي يتحدث سكانها اللغة الألمانية.
ويُضاف إلى هذه الخسائر المباشرة زيادة عدد الوفيات عن عدد المواليد بحوالي ٥٥٠٠٠٠ خلال الفترة الواقعة بين عامَي ١٩٣٦م إلى ١٩٤٦م. ولم تكن هذه الزيادة — بأي حالٍ من الأحوال — مردها إلى الحرب، لقد كان عدد الوفيات قبل الحرب يزيد على عدد المواليد بحوالي ٣٠٠٠٠ في السنة؛ ولذلك فقد كان من المتوقَّع أن ينقص السكان خلال العقد الذي نتحدث عنه بحوالي ٣٠٠٠٠٠ نسمة. أو بعبارة أخرى، يمكن لنا أن نرُد إلى الحرب وفاة ٢٥٠٠٠٠ نسمة زيادة على الوفيات «الطبيعية».
وفي حساب الموازنة الصافية بلغت زيادة الوفيات على المواليد فيما بين عامَي ١٩٣٦م و١٩٤٦م بما يساوي ١١٥٠٠٠٠ تقريبًا، وكان ذلك نتيجة للحرب بشكلٍ أساسي. وأمكن موازنة هذه الخسارة — جزئيًّا — عن طريق هجرة ٣٢٠٠٠٠ واستيطانهم في فرنسا. وكان من بين هؤلاء — حسب ما هو مقدَّر — ٢٥٠٠٠٠ فرنسي عادوا إلى فرنسا الأم من المستعمرات والبلدان الأجنبية. يُضاف إلى هؤلاء هجرة ٧٠٠٠٠ من الأجانب هجرة كاملة إلى فرنسا نتيجة للظروف الاقتصادية المواتية في الفترة الواقعة بين عامَي ١٩٣٦م و١٩٣٩م، وكذلك نتيجة لهذا الفيض المتدفق من اللاجئين الإسبان الذين وفدوا إلى فرنسا ابتداء من عام ١٩٣٩م. ومن المعتقَد أن ما يقرب من ٢٥٠٠٠٠ من الأجانب، من بينهم ١٥٠٠٠٠ إيطالي تركوا أرض فرنسا بسبب الحرب.
وكانت خسائر الحرب العالمية الثانية من السكان خسائر جسيمة، ولكنها لم تصل إلى حد الكارثة مثلما حدث في الحرب العالمية الأولى. ومما يثير الدهشة تلك السمة التي تميزت بها الحرب الحديثة في فرنسا، وكذلك في بلدان أوروبا الغربية، وهي احتفاظ نسبة المواليد بارتفاعها رغم مشاق الحرب واغتراب أعداد غفيرة من الرجال خارج بلادهم، سواء في الجيش أو كأسرى حرب. بل وفي أثناء الحرب ذاتها وخلال أيام الاحتلال السوداء زادت نسبة المواليد في فرنسا عما كان مقدَّرًا لها من قبل — نظريًّا — على أساس استمرار نسبة الخصوبة قبل الحرب على ما هي عليه. وإذا استشهدنا بأعوام ما بين ١٩٣٩م و١٩٤٥م سنجد أن المواليد في فرنسا قد زادوا ٢٥٠٠٠٠ عما كان متوقَّعًا على أساس خصوبة ما قبل الحرب. وبالمثل فإن نسبة الوفيات المدنية أمكن التحكم فيها — على نحوٍ أفضل — خلال الحرب العالمية الثانية.
وإذا تحدثنا على أساسٍ بيولوجي فإن فرنسا خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي في وضعٍ أقل سوءًا بكثيرٍ مما كانت عليه بعد انتصارها الفرغوسي في الحرب العالمية الأولى، وهي من هذه الناحية لم تختلف في كثيرٍ عن غيرها من الدول العظمى في غرب أوروبا … وقد كانت خسائر بريطانيا قليلة نسبيًّا، كما كانت خسائر إيطاليا أقل بكثيرٍ من خسائرها في الحرب العالمية الأولى. أما الدول الصغيرة التي كانت تقف على الحياد في الحرب العالمية الأولى فهي وحدها التي كانت خسائرها أفدح من غيرها في الصراع الحديث، بعد أن دهمتها قوات النازي عام ١٩٤٠م. ومن ناحية أخرى فإذا ما قارنَّا ما مُنِيت به فرنسا بما حدث في ألمانيا سنجد أن وضع فرنسا كان أفضل؛ إذ إن عدد فرنسا التليد خسر ما لا يقل عن ثلاثة ملايين ونصف من القتلى العسكريين، وما لا يقل عن ٧٠٠٠٠٠ من المدنيين لقوا حتفهم نتيجة للحرب بشكلٍ مباشر، وما زال هناك عدد غير محدَّد من أسرى الحرب لم يعودوا إلى وطنهم.
ومقاومة الشعب الفرنسي لصدمة الحرب تدعونا إلى التفاؤل بقدرة هذا الشعب البيولوجية على البقاء مستقبَلًا، ولقد تحققت هذه البشرى بالفعل خلال الأعوام الأولى التي تلت الحرب؛ إذ كشف الشعب الفرنسي عن قدرة حيوية تثير الدهشة لتعويض خسارته.
ولقد حدث ما كان متوقَّعًا؛ إذ زاد عدد الزيجات زيادة ملحوظة بعد عودة أسرى الحرب واستقرار الأوضاع على نحوٍ أفضل في زمن السِّلم؛ إذ كان هناك نقصٌ واضحٌ في عدد الزيجات خلال الحرب، كما أُرجِئَت — دون شك — زيجات كثيرة نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية عام ١٩٣٠م. وبدأت الزيجات الجديدة تتناقص منذ عام ١٩٤٦م لسببٍ مفهوم، إلا أن معدل الزواج ظل أعلى بكثيرٍ مما كان عليه قبل الحرب بما في ذلك عام ١٩٤٩م.
وليس من غير الطبيعي أن تعقب هذه الزيادة الهائلة في عدد الزيجات طفرة سريعة في نسبة المواليد بعد الحرب. وواضح أن ارتفاع نسبة المواليد في فرنسا ثانية بعد الحرب إنما يرجع — جزئيًّا — إلى عودة أسرى الحرب من ألمانيا وعودة من سِيقوا قسرًا إلى معسكرات العمل واستعادة الحياة الأسرية السوية. ومع ذلك فلنا الحق في أن نفترض وجود أسبابٍ أخرى أكثر أهمية، خاصة بالنظر إلى القوة التي كان لها تأثيرها الفعال على فرنسا لتستعيد نسبة المواليد العالية بعد الحرب العالمية الثانية بالقياس إلى وضعها بعد الحرب العالمية الأولى. فمن الواضح — مثلًا — أن المستوى العالي لعدد الزيجات والمواليد ارتبط من ناحية بظروف العمالة الكاملة التي سادت فرنسا منذ الحرب. وثمة فارقٌ واضحٌ بالنسبة للوضع الذي كانت عليه فرنسا عام ١٩٣٠م. فقد عانت فرنسا بعد الحرب من عجْزٍ حاد في القوى العاملة، وتوفرت كل أسباب الضمان الاقتصادي لكل راغبٍ وقادرٍ على القيام بعملٍ مفيد.
بل إننا قد نصل بهذه الحُجة إلى مدى أبعد على مستوى وجهة النظر الأيديولوجية الأساسية التي تؤمن بها الغالبية العظمى من السكان. فقد رأى الفرنسيون — بأنفسهم على ضوء خبرتهم الخاصة، خلال أعوام الحرب وما بعدها — أفول المذهب الفردي الكلاسيكي، وهو مذهب القيم الذي أعطى كل القيمة لنمو الفرد في تعارضه مع التأثير الغلَّاب للجماعة. وترتَّب على أسلوب الحكومة، في التخطيط والتموين والإجراءات الاجتماعية، وضع نظام اجتماعي يؤكد قيمًا فردية وجماعية تختلف اختلافًا بيِّنًا عما يقرره المذهب الفردي الكلاسيكي.
وعلى نحوٍ أكثر تحديدًا فقد انعكس هذا التقويم الجديد للاتجاهات الأساسية في شكل إجراءاتٍ تهدف إلى زيادة الضمان الاجتماعي في فرنسا مما أدى إلى تحقيق تقدُّمٍ ملموس بغية إقامة دولة تنعم بالرفاهية. واتخذ هذا التقويم بالنسبة للمشكلة السكانية شكل إجراءات تنظيمية وإجراءات تشريعية. ويوجد في فرنسا الآن إدارة على مستوى الوزارة تختص بالشئون السكانية وهي وزارة الصحة العمومية والسكان.
واتخذت الإجراءات التشريعية كأساسٍ لها قانون الأسرة السالف الذكر، والذي صدر عام ١٩٣٩م. ويمثِّل نظام العلاوات الاجتماعية للأسرة أساس السياسة الفرنسية بالنسبة للسكان. ويُمنَح العاملون — بناءً على هذا النظام — علاوات إضافية زيادة على أجورهم أو دخولهم نظير رعاية مَن يعولونهم من الأطفال. وليس من اليسير أن نعرض أسلوب تطبيق هذا النظام في عبارة بسيطة. ذلك لأنه نظامٌ معقدٌ، ويتفاوت تطبيقه بتفاوت المجموعات المهنية. كما وأنه يعطي أهمية كبرى لعدد العاملين في الأسرة ممن يحصلون على أجرٍ مقابل عملهم. وتُدفَع علاوات كبيرة للطفلين الثاني والثالث. وعلى ذلك فإن نظام العلاوات الأسرية يفضِّل الأسرة ذات الحجم المتوسط، ويحبذ — بدرجة أقل — الأسرة التي يزيد حجمها على ذلك. وهنا نستطيع أن نقارن هذا النظام بنظام العلاوات الأسرية المطبَّق في المملكة المتحدة الذي يمنح علاوة ثابتة لكل الأطفال بعد الطفل الأول.
ويميل الفرنسيون إلى رد ارتفاع نسبة المواليد بعد الحرب إلى نظام العلاوات الأسرية، ولكن من الصعب علينا أن نحصل على الدليل المباشر الذي يؤكد هذا الاعتقاد. ويبدو أن الزيادة في إنجاب الأطفال «التي سادت بعد الحرب» إنما ترجع أساسًا إلى زيادة عدد الولادات الأولى والثانية والثالثة، كما هو الحال في الولايات المتحدة التي لا تطبق نظام العلاوات الاجتماعية للأسرة، وأنها كانت، بدرجة أقل، نتيجة لوجود أسر أكبر حجمًا. وقد يكون من الصواب القول بأن العلاوات الاجتماعية للأسرة قد أسهمت في تمكين فرنسا من استعادة نسبة المواليد المرتفعة؛ إلا أنه من المؤكَّد أن العمالة الكاملة والتغيرات الأساسية التي طرأت على اتجاهات الأسرة كان لها — بالمثل — دورها في هذا الصدد.