المشكلة السكانية في ألمانيا في عصر التصنيع١
بقلم: فولف جانج كولمان
على عكس فرنسا ونموها المبكر على أساس نظام الأسرة
الصغيرة وتخلُّفها الصناعي بعد عام ١٨٧٠م، وعلى عكس إنجلترا
بأسطولها البحري الذي يمتد على النطاق العالمي وارتباطاتها
الاستعمارية، على عكس هاتين الدولتين سارت ألمانيا في نموها
الديموجرافي، والذي كانت قسماته الرئيسية مطابقة لعديدٍ من
قسمات النمو الديموجرافي لبلدان أوروبية أخرى كثيرة، حتى وإن
وُجِدَ فارق زمني في مراحل التصنيع.
ويقدم لنا المقال التالي أيضًا بعض المعلومات التي تصلح
لمقارنة الهجرة الداخلية في أوروبا والهجرة إلى ما وراء
المحيط الأطلسي اللتين تتماثلان في نواحٍ عديدة أكثر مما هو
شائع عنهما.
في عام ١٨١٨م أرسل أحد موظفي مقاطعة أرنسبرج تقريرًا إلى
رئيسه حاكم مقاطعة وستفاليا البروسية، يقول في جانبٍ من
تقريره ما يلي: «أصبح جنون الهجرة إلى أمريكا وباءً متفشيًا
في مقاطعتي فتجنشتين، وهو أمر يسترعي اهتمامنا بوجه خاص.
فهناك أربعة عشر من أرباب الأسر و٧١ ممن يعولونهم و٢٤ أعزب،
ويُقَدَّر مجموعهم ﺑ ١٠٩ من الأنفس، قدموا طلبات رسمية يطلبون
فيها السماح لهم بالهجرة. وتُقَدَّر قيمة الممتلكات المسجَّلة
لهؤلاء، والتي سيرحلون بها، بحوالي ٧٥٦١ تالرًا من عملة
برلين، ولا يزال هناك الكثيرون ممن ينتوون السعي إلى نفس
المصير. ويُقال إن نفس هذه الأفكار التي تدعو إلى الشرود قد
تفجرت أيضًا في مقاطعة هيس-دار مشتات المجاورة. حقًّا لقد
أرسل المهاجرون الأوائل دعوات إلى هذه المقاطعات تحمل وعودًا
براقة تبشِّر بظروفٍ أفضل في أمريكا، إلا أن السلطات المحلية
ترى أن السبب الرئيسي للهجرة لا يكمن في عمليات الاستهواء
هذه، وإنما يكمن في الفقر والمشاق القاسية التي يعاني منها
الناس الآن في سعيهم من أجل الرزق. ولو صح هذا فإن جنون
الهجرة، وهو أمر قائم على الدوام بدرجة أو بأخرى، قد يكون
سببًا في المخاوف الكثيرة التي تنتابنا فيما يتعلق بالكساد
الذي تعاني منه الآن كثير من الصناعات، خاصة إذا ما لقيت
رذيلة الجشع قبولًا في نفوس الناس جميعًا. ومن ثَم ففي رأينا
أنه يجب العمل على اجتثاث هذا الشر من جذوره. ويحسُن بنا أن
نحُول دون الفقراء العاطلين وتحقيق نياتهم، وسبيلنا إلى ذلك
أن نقدم لهم بعض المساعدة، ونهيئ لهم فرص الارتزاق، هذا إذا
كان لزامًا علينا أن نتحاشى كل ما من شأنه أن يُكره الناس على ذلك.»
٢ ويُعَدُّ هذا التقرير الوارد من إحدى المناطق
الفقيرة في مقاطعة وستفاليا من أوائل التقارير التي تشير إلى
تزايد الفقر في مناطق الريف، وربما يعبِّر بصدقٍ عما كان
واقعًا في مناطق واسعة في ألمانيا إبان النصف الأول من القرن
التاسع عشر.
وإذا استثنينا القطاع الشمالي الشرقي من ألمانيا، حيث
كانت الزراعة الواسعة لا تزال قادرة — آنذاك — على امتصاص
الزيادة في تعداد السكان؛ فقد ظهرت بوادر واضحة تنذر بتزايد
السكان بدرجة خطيرة، بحيث لم تكن الهجرة علاجًا ناجعًا لها،
هذا على الرغم من أن ما يزيد على ٨٠٠٠٠٠ نسمة قد غادروا
ألمانيا فيما بين عامَي ١٨١٥م و١٨٤٩م. وتفسر لنا هذه الأوضاع
أسباب الترحيب بكتاب مالتوس «مقال عن مبدأ التكاثر السكاني»
والذي ظهر في ترجمته الألمانية في وقتٍ مبكرٍ عام ١٨٠٧م.
وتفسر لنا كذلك التشريع الخاص بقيود الزواج الذي أجازته كلٌّ
من ولاية بادن وفورتيمبرج وبافاريا وهانوفر. وهذه هي أيضًا
المناطق التي خرج منها العدد الأكبر من المهاجرين في أوائل
القرن التاسع عشر. ومع ذلك فلا قيود الزواج ولا الهجرة
استطاعت أن تخفف من حرج الموقف الذي تجلى واضحًا بوجه خاص في
بؤس الصناعات المحلية القديمة وكساد التجارة بين الحِرف
المختلفة التي فقدت حمايتها النقابية، كما تمثَّل في حوادث
الإضراب التي أثارها عمَّال النسيج في سيليزيا عام ١٨٤٤م،
والتيارات السرية التي تعبِّر عن الاستياء من الأوضاع
الاقتصادية، وتفجرت في ثورات ١٨٤٨-١٨٤٩م.
ومع ذلك فقد أمكن — بفضل التصنيع — تجنب كارثة سكانية،
على عكس ما حدث في أيرلندا. فبعد عام ١٨٥٠م انتهت مسألة الفقر
التي كانت هي الشغل الشاغل، وحلَّت — بدلًا منها — المناقشة
العامة حول وضع الطبقة العاملة الجديدة. ولكن بعض الكُتَّاب،
خاصة ماركس، واصلوا استخدام الكلمة المأثورة «الفقر»، وشرعوا
يطبقونها على مجموعة من الوقائع. وكان لمشاكل الضغط السكاني
دور ثانوي فقط في هذه المناقشة العامة الجديدة، رغم أن ماركس
خرج علينا بعاصفة مضادة للمذهب الطبيعي الذي نادى به مالتوس.
وفي إطار «قانونه العام عن التراكم الرأسمالي»، أرجع إلى
النظام الرأسمالي ظاهرة «التولد المطرد للتضخم النسبي
للسكان»، أي استبدل فكرة مالتوس، عن النزوع العام للمجتمع
البشري نحو التضخم السكاني، بفكرته الجديدة التي تقول إنه في
ظل الظروف التاريخية للنظام الرأسمالي ستبرز الحاجة إلى وجود
«جيش احتياطي صناعي»، أي جيش من العمال الزائدين عن الحاجة
يؤدي تدريجيًّا إلى خفض مستوى الأجور،
٣ ولكن ماركس لم يفكر في المشكلة ليعرف على أي نحوٍ
سيكون رد الفعل المحتمَل أن يتولَّد لدى الناس تحت مثل هذا
الضغط المستمر للإفقار، بل ولم يضع في اعتباره أن التصنيع قد
خلق قاعدة للنمو السكاني بأن قدَّم أنواعًا جديدة من العمالة
في الصناعة لفائضٍ من السكان كان موجودًا مقدمًا .
وبعد عام ١٨٥٠م حدَّد التصنيع — بشكلٍ أساسي — تاريخ
السكان في ألمانيا، كما وأن التوزيع الجغرافي للصناعات
الجديدة حفَّز العمليتَين المترابطتَين، وهما الهجرة الداخلية
والتحضر؛ فقد كانت الهجرة الداخلية هي أضخم حركة جماعية في
تاريخ ألمانيا. وسواء نزح الناس من بيئتهم إلى المدينة، أو
قطعوا مسافات قصيرة للانتقال داخل حدود مقاطعتهم أو ولايتهم،
أو عزموا على الهجرة إلى مسافاتٍ بعيدة، وسواء أكانت هذه
التحركات منظمة في شكل تحركات جماعية أو قام بها أفراد، فقد
كانت كلها تحركات صوب أماكن جديدة للعمل. ونحن لا نعرف عددَ
من هاجروا حتى على وجه التقريب، ولكننا نستطيع أن نصل إلى
انطباعٍ عام عن حجم هذه الحركة إذا عرفنا أنه من بين ٦٠٫٤
مليون ألماني في عام ١٩٠٧م، كان نصفهم فقط على وجه التقريب،
أو ٣١٫٤ مليونًا، يعيشون في موطنهم الأصلي، ومن بين ٢٩ مليون
نسمة، وهم عدد من نزحوا عن موطنهم الأصلي، انتقل أكثر من
ثلثهم، أي حوالي ٨٫٩ ملايين، إلى مسافاتٍ بعيدة فيما وراء
حدود المقاطعات أو الولايات التي نشئُوا فيها.
وكان التحضر هو أهم النتائج المترتبة على هذه الحركة
المكانية الهائلة. ويُقَدَّر عدد السكان الألمان الذين يقطنون
مناطق يقل عدد سكانها عن ٥٠٠٠ نسمة بما يعادل ٧٦٫٣٪ عام
١٨٧١م، و٥١٫٢٪ عام ١٩١٠م، و٤١٫٧٪ عام ١٩٣٩م، وذلك في مقابل
المدن التي يزيد تعداد سكانها على ١٠٠٠٠٠ نسمة؛ إذ كانت
تمثِّل ٤٫٨٪ عام ١٨٧١م، و٢١٫٢٪ عام ١٩١٠م، و٣٢٪ عام ١٩٣٩م.
والسبب الأول لعملية التحضر هذه هو نمو الاقتصاد الصناعي، حتى
وإن بدت لنا بعض المدن وكأنها تتميز بوظائف أخرى مختلفة، كما
هو الحال بالنسبة لبعض المراكز الإدارية أو المدن
البحرية.
ويرجع التباين
الشديد في البنية الاجتماعية للمجتمع الصناعي — إلى حدٍّ ما —
إلى تأثير العوامل السكانية؛ إذ يتميز المجتمع الصناعي
بالقدرة على الحركة الاجتماعية أكثر مما هو الحال بالنسبة
للمجتمعات التقليدية، كما وأنه يمكن التغلب فيه بسهولة أكبر
على الحواجز الاجتماعية. ومع ذلك فليس ثمة علاقة بين الهجرة
والبنية الاجتماعية. ونخطئ إذا ما افترضنا أن الأهمية
الاجتماعية للهجرة الداخلية تتمثَّل فقط في انتقال الزائد عن
الحاجة من سكان الريف في الأقاليم إلى الشريحة الدنيا للمجتمع
الصناعي. حقًّا إن هذا الكلام يُصَدَّق بالنسبة لقطاعٍ هامٍّ
من المهاجرين الداخليين، ويُصَدَّق كذلك — بشكلٍ قاطع —
تقريبًا بالنسبة للتحركات بعيدة المدى من الشمال الشرقي
لألمانيا إلى برلين ومنطقة الرور. ففي عام ١٩١٠م كان يوجد في
منطقة برلين-براندنبرج، طبقًا لتقديراتٍ موثوق بها، ١٩٨٣٠٠٠
نسمة، موطنهم الأصلي شرق ألمانيا، كما كان يوجد في منطقة
الراين-وستفاليا (وتشمل منطقة الرور) ٨١٠٠٠٠ نسمة نزحوا إليها
من نفس ذلك الموطن. إلا أن الإحصاء المهني والتجاري في
ألمانيا لعام ١٩٠٧م، وهو المصدر الوحيد لدينا عن مُعامل
الارتباط الإحصائي بين الهجرة الداخلية والبنية الاجتماعية،
يعطينا نتيجة مثيرة؛ إذ إن العمال وأصحاب الياقات البيضاء
والموظفين الحكوميين وأصحاب المهن الحرة يمثِّلون نسبة عالية
بين المهاجرين الداخليين في المدن الكبرى، وهي أعلى من نسبة
أهل المدن الأصليين. ويشير هذا إلى وجود رابطة وثيقة بين
الهجرة الداخلية وارتفاع القدرة على الحركة الاجتماعية خاصة
بالنسبة للأفراد المدرَّبين تدريبًا عاليًا.
٤
وينبغي علينا ألا نغض من قيمة العبء العاطفي الذي يُثقل
نفس المهاجر حين ينتقل إلى مكانٍ غريبٍ يختلف اختلافًا كليًّا
عن بيئته الأصلية ولا يجد فيه الوافد الجديد غير القليل من
المساعدة. وكانت عملية التمثُّل تقتضي — عادة — فترة طويلة
تمتد إلى أكثر من جيل، وتكون حصيلتها في النهاية نمطًا
بشريًّا جديدًا يتسم بالطابع الحضري الصناعي. وتقدم لنا منطقة
الرور، وهي أكبر منطقة للتجمُّع الصناعي في ألمانيا، أصدق
مَثَل لهذا التطور؛ إذ نجد هناك طرازًا إقليميًّا جديدًا من
الألمان، وهو رورفولك (شعب الرور) الذي نشأ من جماع الخصائص
السلالية لشرق وغرب ألمانيا
٥ وعلى الرغم من أن بعض مناطق الهجرة تعرَّضت
لتطوراتٍ مماثلة إلا أن العناصر الفطرية الخاصة بالوطن الأصلي
ظلَّت، كقاعدة عامة، محتفظة بتمايزها الخاص. وغالبًا ما كان
الوافدون يعملون من ناحيتهم على الاحتفاظ ببعض الروابط التي
تربطهم بموطنهم الأصلي. وجماع القول أن هذه الهجرات الداخلية
ساعدت على تكامل المناطق المختلفة في ألمانيا، والتي توحَّدت
سياسيًّا عام ١٨٧١م في رايخ بسمارك. ويمكن اعتبار هذه
التحركات واحدة من أهم القوى المؤثرة في تطور الوعي القومي
الألماني المتميز فيما قبل الحرب العالمية الأولى.
ويمكن تقسيم الهجرات الألمانية الداخلية إلى مرحلتَين
متمايزتَين، استمرت المرحلة الأولى حتى عام ١٨٨٠م، وتميَّزت
بالتحركات القصيرة المدى التي كانت سائدة آنذاك، كما تميزت
بجاذبية المدن المجاورة. وخلال هذه المرحلة لم يكن للهجرة
الطويلة المدى شأن خطير فيما عدا الهجرة إلى برلين. وبعد عام
١٨٩٠م اكتسبت الهجرة الطويلة أهمية كبيرة على نطاق ألمانيا
كلها. وكان أوضح مظاهرها الحركة الكبرى من الشرق إلى الغرب.
وارتبطت هذه الحركة الطويلة داخل ألمانيا بالهجرة الألمانية
إلى أمريكا، فمن بين ٣٫٥ ملايين نسمة هاجروا من ألمانيا فيما
بين عامَي ١٨٦١م و١٩١٤م غادر البلاد ٣ ملايين قبل عام ١٨٩٥م،
أي قبل أن تتجمَّع القوة الدافعة للحركة الداخلية في ألمانيا.
وأكثر من ذلك، فقبل عام ١٨٩٠م كان ما يقرب من ٤٠٪ من مجموع
المهاجرين الألمان هم من سكان شمال شرق ألمانيا حيث توقف
التوسع الزراعي هناك. وكان هذا الاتجاه الجديد للهجرة
الألمانية الوافدة من الشمال الشرقي مشروطًا — بشكلٍ مباشر —
بعبور الحدود في الولايات المتحدة. ولمَّا توقفت أمريكا عن
إتاحة الفرصة للوافدين الجدد ممن لا يملكون رأس مالٍ لمواصلة
العمل حسب نمط الحياة الريفية، لم يبق أمام أولئك الذين
ينتظرون الهجرة سوى إحدى اثنتين؛ إما الصناعة الأمريكية أو
الصناعة الألمانية. ويبدو أن هذا الموقف هو المسئول عن تحوُّل
تيار الهجرة الذي كان يزمع الاتجاه إلى الخارج من قبل،
وأُضيفَ إلى التحركات التي نمت داخل ألمانيا، وأدى — بوجه خاص
— إلى تضخم تيار الهجرة الواسعة من شرق ألمانيا إلى غربها.
وجدير بالذكر أن نسبة كبيرة من المهاجرين من الشرق إلى الغرب
كانوا ممن يحملون الجنسية البولندية. ويُقَدَّر عدد السكان
البولنديين الذين كانوا يعيشون في منطقة الرور عشية الحرب
العالمية الأولى بما يتراوح بين ٢٥٠٠٠٠ و٤٥٠٠٠٠.
٦ إلا أن غالبية هؤلاء البولنديين إما أنهم عادوا
ثانيةً إلى بولندا بعد الحرب، أو نزحوا إلى مناطق مناجم الفحم
في الشمال الشرقي لفرنسا، وبذلك حُلَّت مشكلة التمثيل
الإقليمي في منطقة الرور على نحوٍ أيسر بكثيرٍ مما كان
متوقَّعًا.
وحتى عام ١٩٠٠م تضاعف السكان في ألمانيا إلى ثلاثة أمثال
ما كانوا عليه عام ١٨٠٠م، وتبرز أهمية التصنيع إذا عرفنا أن
بوادر التضخم السكاني التي كانت مثار قلقٍ شديدٍ في أوائل
القرن التاسع عشر قد اختفت تمامًا، وأصبح في ألمانيا فيما بين
عامَي ١٨٩٥م و١٩٠٥م — على أقل تقدير — فائض طفيف من المهاجرين
إليها يزيد على عدد المهاجرين منها. وكشف الإحصاء المهني لعام
١٩٠٧م عن أن ٤٢٪ من السكان الذين يعملون أعمالًا مربحة كانوا
يمثِّلون عناصر نشطة في الصناعة والحرف المختلفة، مقابل ٢٨٪
فقط كانوا يعملون بالزراعة وقطع الأخشاب. وهكذا أصبحت ألمانيا
أمة صناعية، بل كانت — حقيقة — أكثر أمم القارة تقدمًا في
ميدان الصناعة.
وطرأ على البيئة
الديموجرافية لألمانيا بعض التغيرات الأساسية أسوة بما حدث في
كل البلدان الصناعية الأخرى. وأول هذه التغيرات أن طالت نسبة
الأعمار، وكان من أهم العوامل الحاسمة انخفاض نسبة الوفيات
بين المواليد والأطفال، وهو السبب الرئيسي في الزيادة الكبيرة
في السكان. وثمة تغير واضح وهو اختفاء الأوبئة الخطيرة، عدا
الكوليرا التي كانت لا تزال تتفشَّى بشكلٍ دوري في القرن
التاسع عشر، إلى أن تفشت بشكلٍ رهيبٍ في هامبورج عام ١٨٩٢م،
وكانت هذه هي آخر مرة لها. أما التغير الديموجرافي الآخر
والخطير فهو انخفاض نسبة المواليد، والذي بدأ فقط في
السبعينيات في القرن التاسع عشر، واستمر بعد ذلك ولكنه كان
يتفاوت تفاوتًا كبيرًا بين الطبقات والأقاليم المختلفة. وحدث
هذا التغير نتيجة تغير موقف الأسرة في مجتمعٍ صناعي بلغ درجة
عالية من التطور. وكانت الزيادة في تعداد السكان في المرحلة
الأولى من التصنيع تمتص جلَّ الزيادة في الإنتاج مثلما كان
الوضع في عصور ما قبل التصنيع. وعندما تحوَّل سكان الريف إلى
الأعمال الصناعية نقلوا معهم إلى المدينة تقاليدهم الأسرية.
وظلت نسبة المواليد لعشراتٍ من السنين أعلى بكثيرٍ من المتوسط
العام في الدولة في مراكز التصنيع الأولى مثل مدينتَي بارمن
والبرفيلد. وكانت غالبية الوافدين من الأقاليم هم من الشباب
ممن وجدوا الفرصة أمامهم متاحة للزواج وتكوين أسرة، ولم
يتيسَّر لهم ذلك إلا بعد الاشتغال في وظائف صناعية.
وتنخفض نسبة المواليد — عادةً — نتيجة لعمليات اجتماعية
معقدة، فإذا كانت الأسرة هي الوحدة الإنتاجية في الاقتصاد
الزراعي والحِرفي فإنها تفقد وظيفتها هذه في الاقتصاد الصناعي
الذي يقوم على أساس مشاريع صناعية ضخمة. فلم يعد الأطفال هنا
«بركة» تعم خيراتها بل سببًا يحد من الاستهلاك والفراغ، بل
وأكثر من ذلك. فكلما زاد عدد الأطفال في الأسرة قلَّل ذلك من
الفرص المتاحة أمام الآباء لتحقيق تقدُّم مهني أو اجتماعي، بل
ومن التقدم الاقتصادي الاجتماعي للأطفال أنفسهم، ولعل هذا هو
الأهم. وبدأت الطبقات الاجتماعية المختلفة تستجيب لهذا الموقف
على فتراتٍ مختلفة. فأول مَن عمل على تحديد الأسرة كانت
الطبقات الراقية، وبخاصة الشرائح المتوسطة التي تكوَّنت
حديثًا في المجتمع الصناعي. وكانت الشرائح المتوسطة إحدى
اثنتين؛ إما عناصر أُضيرَت بوجه خاص نظرًا لأنها امتدادٌ
للطبقة المتوسطة القديمة من الحرفيين والتجار الذين كانوا
يعملون لحسابهم الخاص، وحاولوا أن يحتفظوا بوضعهم التقليدي،
ولكن كانت لهم خسائرهم في مقابل ذلك، وإما عناصر تنتمي إلى
الطبقة الجديدة من العمَّال المدرَّبين أو المهنيين من ذوي
الياقات البيضاء، وكان عليهم أن يكابدوا لينتزعوا لأنفسهم
مكانة اجتماعية وسط مجتمعٍ صناعي.
٧
وبدأت الطبقة العاملة تتجه إلى تحديد الأسرة في وقتٍ
متأخرٍ عن الشرائح المتوسطة، ولكن كان يوجد داخل الطبقة
العاملة فوارق اجتماعية أدت إلى التعجيل أو تأجيل قبول القيم
الأسرية الجديدة. وكانت الدعاية الاشتراكية واحدة من أهم
العوامل المؤثرة في هذا الصدد. فثمة دراسة عن انخفاض نسبة
المواليد صدرت في أوائل عام ١٩١٢م اتضح منها أن هناك علاقة
سلبية في الدوائر الانتخابية، بين نسبة الأصوات الاشتراكية
ونسبة المواليد.
٨ ومن ثَم فقد بدأت نسبة المواليد تنخفض بسرعة
كبيرة في المدن الكبرى بعد فترة تاريخية معينة؛ إذ كانت نسبة
المواليد في برلين — على سبيل المثال — في أعوام ١٨٧٥–١٨٨٠م
تعادل ٤١٫٦ لكل ألف من السكان، وهي أعلى من المتوسط العام في
ألمانيا الذي كان آنذاك ٣٩٫٣. ولكن انخفضت نسبة المواليد في
برلين إلى ٢٣ فيما بين عامَي ١٩٠٦–١٩١٠م، بينما كان المتوسط
العام في ألمانيا ٣١٫٧.
وظلَّت هذه الاتجاهات سائدة إلى ما بعد الحرب العالمية
الأولى، رغم بعض المؤثرات الطارئة التي نجمت عن خسائر الحرب —
وأثرت تأثيرًا مباشرًا في التطور الديموجرافي — وكانت خسائر
الحرب حوالي ٢٫٤ مليون في الحرب العالمية الأولى، وحوالي ٧٫٢
ملايين في الحرب العالمية الثانية. ونظرًا لأن هذه الخسائر من
السكان كانت في الأساس من الشبان الذكور فقد نقص عدد العناصر
النشطة اقتصاديًّا بدرجة خطيرة، بينما زاد لدرجة كبيرة عدد
كبار السن. هذا فضلًا عما لحق بالقدرة التناسلية من أضرار
بسبب ذلك. وفي عام ١٩٣٣م بلغت نسبة المواليد الحد الأدنى لها،
وهو ١٤٫٧ في الألف، وبدأت نسبة المواليد في الارتفاع منذ ذلك
الوقت فصاعدًا في عهد هتلر، وبلغت ٢٠٫٤ في الألف في عامَي
١٩٣٩م و١٩٤٠م. ولكن يبقى سؤال بعد ذلك؛ هل كان هذا الارتفاع
نتيجة للسياسة المحمومة التي اتبعتها الحكومة لتشجيع إنجاب
الأطفال، أم كان نتيجة لتَوفر ظروف أفضل للعمالة بعد زوال
فترة الكساد الخطير، والتي أرجأ فيها الكثيرون زواجهم، أو
أنهم على الأقل أرجَئوا إنجاب الأطفال؟ إلا أن أيًّا من
التفسيرَين يوحي بأن الناس عالجوا مشكلة التناسل بطريقة
واعية. وجاء ذلك أيضًا نتيجة لما حدث من تقدم بعد الحرب
العالمية الثانية. وظلت نسبة المواليد ثابتة كما هي لعشر
سنوات تدور حول ١٦٫٠، وبعد عام ١٩٥٥م بدأت ترتفع تدريجيًّا
ببطء وثبات حتى بلغت ١٨٫٢ عام ١٩٦١م. وهنا — وللمرة الثانية —
يبرز أمامنا تفسيران بديلان: ترى هل كان ارتفاع نسبة المواليد
نتيجة تعويضية لعمليات الإرجاء السابقة؟ أم أن السكان في
مجتمعٍ صناعي ناضج يمتصون جانبًا من الزيادات الضخمة في
الإنتاج عن طريق تكوين أسر كبيرة؟
ونعود أخيرًا إلى حركات الهجرة التي تأثرت تأثرًا عميقًا
بالتغيرات الاجتماعية الواسعة التي حدثت خلال الخمسين عامًا
الماضية؛ ونستطيع هنا أن نمايز بين فترات أربعة:
أولًا: عادت من جديدٍ، بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب
العالمية الأولى، حركة الهجرة الداخلية المتجهة من الشرق إلى
الغرب، واستمرت حتى منتصف العشرينيات. وفي نفس الوقت هاجر
كثير من الألمان إلى داخل ألمانيا، وكانت أيضًا هجرة من الشرق
إلى الغرب، وكان أكثرهم يفدون من الأراضي التي تنازلت عنها
ألمانيا لبولندا. ونضيف إلى ذلك أن جانبًا من المتحدثين
باللغة الألمانية ممن استوطن أجدادهم شرق أوروبا وجنوبها،
بدءُوا يعودون ثانيةً إلى ألمانيا مثل مَن عادوا من بلدان بحر
البلطيق ورومانيا. وبلغ عدد الألمان الذين انتقلوا من شرق
أوروبا إلى ألمانيا حتى عام ١٩٢٥م بما يساوي ١٫١ مليون
نسمة.
وامتدت الفترة الثانية من ١٩٣٩م إلى ١٩٤٤م، وتتألف من
حركتَين، نظمتهما ودعت إليهما الحكومة الهتلرية؛ فقد استوطن
حوالي ٩٥٠٠٠٠ من سكان شرق أوروبا الذين هم من أصلٍ ألماني
داخل حدود الرايخ الألماني بعد توسعه خلال عامَي ١٩٣٩–١٩٤٤م.
وفي نفس الوقت فإن حوالي ٥٠٠٠٠٠ من المواطنين الألمان وفدوا
من الأراضي الألمانية التي كانت تابعة لألمانيا قبل الحرب،
واستوطنوا الأراضي التي انتُزِعَت من بولندا.
وتبدأ الفترة الثالثة بعد هزيمة ألمانيا في الحرب
العالمية الثانية. وخلال هذه الفترة فرَّ وأُبعِد الكثيرون من
الأراضي الألمانية الواقعة شرق حوض الأودر-نيس، كما فرَّ
وأُبعِد كل الأوروبيين الشرقيين الذين هم من أصل ألماني الذين
كانوا يقيمون في تشيكوسلوفاكيا وبولندا والمجر ويوغوسلافيا.
وقُدِّرَ عدد المنفيين في ألمانيا الاتحادية وبرلين الغربية
عام ١٩٥٠م بحوالي ٨ ملايين نسمة، كما قُدِّر عددهم في منطقة
الاحتلال السوفييتية وبرلين الشرقية بحوالي ٣٫٩ ملايين. وأدى
هذا إلى تجدُّد حركة الانتقال داخل ألمانيا من الشرق إلى
الغرب. وخلال الفترة الواقعة بين عامَي ١٩٤٥–١٩٤٨م نزح ما
يقرب من ١٫٣ مليون من منطقة الاحتلال الشرقية إلى مناطق
الاحتلال الغربية، واقتفى أثرهم ٢٫١ مليون ابتداء من عام
١٩٤٨م حتى تاريخ إقامة سور برلين. ومع عام ١٩٦٠م أصبح ١٨٪ من
سكان ألمانيا الاتحادية وأطفالهم من المنفيين.
٩
ويمكن اعتبار الفترة الرابعة هي الفترة التي تَكامل فيها
عدد المنفيين رغم تداخلها مع الفترة الثالثة. واستطاعت
ألمانيا الاتحادية أن تمتص بسهولة — نسبيًّا — هذه الملايين
من البشر. ويرجع ذلك أساسًا إلى عمليات التعمير الاقتصادي في
ألمانيا الاتحادية، التي تضم الآن ٥٥ مليونًا من البشر، أي
زيادة عن سكانها عام ١٩٣٩م بحوالي ١٦ مليونًا. ويوفر اقتصادها
فرص العمل الكاملة للقوى العاملة بها. ونظرًا لأنه من
المتوقَّع ألا تكون الزيادة السكانية سوى زيادة بطيئة؛ فإن
التوسع الصناعي في المستقبل يستلزم سياسة إدارية واعية وحريصة
على توفير العدد اللازم من العاملين، على عكس سياسة تبديد
القوى العاملة في المرحلة الأولى من التصنيع.
وجدير بالذكر أن المجتمع الصناعي قد كشف عن قدرة ملحوظة
على تحقيق التكامل بين السكان، والتي ثبت أنها أقوى — بكثيرٍ
— من روابط الحماية ذات الطبيعة الإقليمية والتقليدية.
وتجلَّى ذلك واضحًا في عمليات الاختيار السياسية التي قام بها
المقترعون الألمان في الانتخابات الأخيرة. فقد أمكن التغلب
على قوى الممانعة التي تدعو إلى التمايز الإقليمي، وذلك تحت
ضغط الحركات الديموجرافية الكبيرة، والتي أدت إلى خلق أمة
ألمانية بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة. ومع ذلك بات محتمَلًا
الآن أن الاتجاه القومي المحموم الذي ظهر خلال تلك الفترة
ذاتها قد أصبح في عداد الموتى.