النمو السكاني في العالم معضلة دولية١
ينقسم العالم أيديولوجيًّا انقسامًا عميقًا، كما وأنه يتباين ثقافيًّا تباينًا شديدًا، إلا أنه من الناحية العسكرية والسياسية ليس سوى عالمٍ واحدٍ فقط؛ فلا أوروبا ولا الحضارة الغربية بقادرة على الصمود وحدها. وما سبق أن أشرنا إليه أخيرًا تحت اسم «الانفجار السكاني» أمرٌ يشغل بال الجميع. وفي المقال التالي يقدم لنا العالِم الراحل الدكتور هارولد ف. دوري عرْضًا رائعًا للحقائق البيولوجية ومدلولاتها السياسية. ومن دواعي الاطمئنان والحذر أن نكون على علمٍ بجُلِّ ما لا يمكن التنبؤ به عن مستقبل الجنس البشري.
اضطر الإنسان طوال القرون الماضية، فيما عدا الحقبة الأخيرة من تاريخ وجوده، إلى أن يحيا ويتكاثر ويموت مثله في ذلك مثل سائر الحيوانات الأخرى. وكان تكاثره يخضع لنفس العوامل الثلاثة الكبرى التي تنظم تكاثر كل أنواع النباتات والحيوانات — وهي الافتراس والمرض والموت جوعًا — أو حسب مسمياتٍ أخرى أكثر تطابقًا مع الجنس البشري، الحرب والأوبئة والمجاعة. ومن أهم التطورات التي حدثت إبان النصف الأول من القرن العشرين، وكان لها أثرها على مستقبل الجنس البشري زيادة قدرة الإنسان على التحكم في الأوبئة والمجاعات. وعلى الرغم من أن الإنسان لم يتحرر تمامًا من بطش هذَين العاملَين اللذين يتحكمان في الزيادة السكانية إلا أنه اكتسب قدرة كافية تمكِّنه من قمعهما؛ بحيث لم يصبحا القوة الفعَّالة التي تحدد تكاثره.
بيد أنه خلال هذه الفترة ذاتها طوَّر الإنسان الوسائل التي تزيد من فعالية الحرب كعاملٍ مؤثرٍ على زيادة السكان؛ بحيث أصبح في استطاعته الآن أن يمحو من الوجود — وبسرعة — جانبًا كبيرًا من الجنس البشري إن لم يكن كله. وعرف في نفس الوقت كذلك كيف يفصل بين الإشباع الجنسي والتناسل باستخدام وسائل منع الحمل (أي أن يكون التناسل عن طريق التلقيح الصناعي، ويحدث ذلك بوجه خاص باستخدام الحيوانات المنوية التي تُحفَظ لفترة طويلة نسبيًّا). ويستطيع الإنسان — بذلك — أن ينظم التكاثر السكاني عن طريق التنظيم الإرادي للإخصاب. ونستطيع الآن أن نقول — بصدقٍ — إن الإنسان يملك العلم والقدرة اللذين يمكِّنانه من تحديد مسار تطوره جزئيًّا على الأقل.
إلا أن هذا العلم، وتلك القدرة اللذين اكتسبهما الإنسان حديثًا لم يحرِّراه من التأثير الراسخ للقوانين البيولوجية التي تحكم كل الكائنات العضوية الحية؛ إذ إن عملية التطور قد منحت أغلب الأنواع قوة إنسانية كامنة تستطيع بها، لو لم يعُقها عائق، أن تزحم الكرة الأرضية خلال بضعة أجيال. فمن المقدَّر مثلًا أن الدودة الشريطية تستطيع أن تضع ١٢٠٠٠٠ بيضة كل يوم. وتستطيع سمكة البكلاة أن تضع حوالي ٤ ملايين بيضة كل عام. وتستطيع الضفدعة أن تحمل ١٠٠٠٠ بيضة في الذرية الواحدة. ومن المعتقَد أن المبيض عند الإنسان يحتوي على ما يقرب من ٢٠٠٠٠٠ بويضة في سن البلوغ، بينما تحتوي القذفة الواحدة من المني البشري على ما يقرب من ٢٠٠ مليون حيوان منوي.
وقد أُعيقت هذه القوة الإنسانية المفرطة لدى الأنواع الحية من غير الإنسان نتيجة التنافس بين الكائنات الحية خلال التناحر من أجل البقاء، وبسبب المرض ونقص الغذاء المُيسر لها. وإذا كان الإنسان قد تعلَّم كيف يتحكم — إلى حدٍّ كبيرٍ — في تأثير هذه الموانع البيولوجية التي تحد من الزيادة الجامحة في عدد البشر، إلا أن ذلك لم يعفه من ضرورة استبدالها بموانع أخرى أقل غلظة ولكنها تعادلها من حيث أثرها. ويصعب على الإنسان أن يرجئ — لفترة طويلة — الاستفادة من قدرته هذه؛ إذ إن الفترة اللازمة لكي يتضاعف فيها عدد سكان العالم قد نقصت — بصورة حادة — خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وتُقَدَّر الآن بحوالي ٣٥ عامًا.
وحتى عام ١٦٢٠م وهو العام الذي وطئت فيه أقدام الحجاج أرض بلايموث روك كان قد تضاعف عدد سكان العالم. وبعد ذلك بمائتي عام، وقبل الحرب الأهلية بفترة وجيزة، أُضيفَ إليهم ٥٠٠ مليون نسمة أخرى. ومنذ ذلك التاريخ بدأت تُضاف إلى السكان أنصاف أخرى من البلايين خلال فترة زمنية تتناقص باطرادٍ. فقد احتاج نصف البليون السادس، وهو آخر ما أُضيفَ إلى تعداد السكان، فترة زمنية تقل — قليلًا — عن أحد عشر عامًا، قياسًا بنصف البليون الثاني الذي احتاج إلى مائتَي عام. ويشير معدل النمو الحالي إلى أننا بحاجة إلى ٦ أو ٧ أعوام فقط لكي يُضاف منها إلى سكان العالم نصف البليون الثامن. وحدث هذا التغيُّر في معدل النمو الذي أسلفنا وصفه توًّا منذ أن وفد إلى نيو إنجلند أول مستوطنيها.
السنة بعد الميلاد | عدد السكان مقدرًا بالمليون | عدد السنوات اللازمة لبلوغ ضعف العدد |
---|---|---|
١ | ٠٫٢٥ (؟) | ١٦٥٠ (؟) |
١٦٥٠م | ٠٫٥٠ | ٢٠٠ |
١٨٥٠م | ١٫١ | ٨٠ |
١٩٣٠م | ٢٫٠ | ٤٥ |
١٩٧٥م | ٤٫٠ | ٣٥ |
٢٠١٠م | ٨٫٠ | ؟ |
احتمالات المستقبل
اطَّردت سرعة معدل الزيادة في النمو السكاني في العالم في غير جلبة تثير الأنظار، حتى إن أكثر الناس غافلون عن النتائج المترتبة عليها مستقبلًا. وثمة فئة قليلة من الناس استثارتهم هذه اللامبالاة، مثل بول ريفير، وتستصرخ الجماهير بصيحاتها عن «القنبلة السكانية» أو «الانفجار السكاني».
ويسمى هؤلاء بمثيري الرعب، وأطلق عليهم هذا الاسم أولئك الذين يناوئون التأكيد بأن هذه التحذيرات مثل «فسحة من المكان فقط» و«البشرية في مفترق الطرق» بدأت تُذاع بشكلٍ دوري بعد أن كتب مالتوس مقاله عن السكان، أي منذ ما يقرب من مائتَي عام خلت. وتزعم هذه الفئة أن مستوى المعيشة والصحة للإنسان العادي قد تحسَّن باطِّراد رغم هذا كله، وليس ثمة ما يبرر الاعتقاد بأن التقدم التكنولوجي سيعجز عن أن يحقق ارتفاعًا تدريجيًّا في مستوى المعيشة لهذا العدد المتزايد من سكان العالم في المستقبل البعيد غير المحدَّد. بل وفضلًا عن ذلك فإنهم يكادون يؤكدون أن نسبة الزيادة في السكان ستنخفض تدريجيًّا مع ارتفاع مستوى التعليم والمعيشة ومع ازدياد التحضر.
وحاولت مجموعة ثالثة أن تقدِّر الحد الأقصى من السكان ممن يمكنهم أن يعيشوا على الموارد الطبيعية للعالم مع افتراض الاستفادة الكاملة بالعلوم التكنولوجية القائمة.
حساب النمو السكاني
المنطقة | تعداد السكان بالمليون | التقدير التصوري للسكان (بالمليون) | ||||
---|---|---|---|---|---|---|
الحد الأدنى | الحد الأعلى | |||||
١٩٠٠ | ١٩٥٠ | ١٩٧٥ | ٢٠٠٠ | ١٩٧٥ | ٢٠٠٠ | |
العالم | ١٥٥٠ | ٢٥٠٠ | ٣٩٥٠ | ٤٨٨٠ | ٣٨٦٠ | ٦٩٠٠ |
إفريقيا | ١٢٠ | ١٩٩ | ٢٩٥ | ٤٢٠ | ٣٣١ | ٦٦٣ |
أمريكا الشمالية | ٨١ | ١٦٨ | ٢٣٢ | ٢٧٤ | ٢٤٠ | ٣٢٦ |
أمريكا اللاتينية | ٦٣ | ١٦٣ | ٢٨٢ | ٤٤٥ | ٣٠٤ | ٦٥١ |
آسيا | ٨٥٧ | ١٣٨٠ | ٢٠٤٠ | ٢٨٩٠ | ٢٢١٠ | ٤٢٥٠ |
أوروبا (بما في ذلك الاتحاد السوفييتي) | ٤٢٣ | ٥٧٤ | ٧٢٤ | ٨٢٤ | ٧٥١ | ٩٨٧ |
جزر المحيط الهادي | ٦ | ١٣ | ٢٠ | ٢٧ | ٢١ | ٣٠ |
على الرغم من أن التقديرات التصورية للأمم المتحدة تبدو لنا تقديراتٍ متحفظة للغاية بحيث إن أعلى تقدير لها سيكون أقل من تعداد السكان لمدة أربعين عامًا فقط من الآن، فإن الزيادة العددية للسكان، والتي تشير إليها هذه التقديرات، ستخلق مشاكل قد تفوق طاقة الأمم المعنية على حلها. مثال ذلك الزيادة المحتمَلة في تعداد سكان آسيا ابتداءً من عام ١٩٥٠م إلى ٢٠٠٠م فإنها ستعادل تقريبًا جملة سكان العالم كله في عام ١٩٥٨م. ومن المحتمَل أن يصبح عدد سكان أمريكا اللاتينية، خلال أربعين عامًا من الآن، أربعة أمثال عددها ١٩٥٠م. وربما تعادل الزيادة المطلَقة للسكان في أمريكا اللاتينية إبان النصف الأخير من القرن الحالي عدد الزيادة الكلية في السكان للإنسان العاقل طوال العصر الألفي منذ بدايته حتى ١٦٥٠م وقتما استوطن الاستعماريون الأوائل نيو إنجلند.
إن تزايد السكان بهذه الضخامة العددية شيء يدير الرءوس، وتشير الاتجاهات الحالية بأن هذه الزيادة قد تتلوها زيادة أضخم خلال فترات مماثلة. فلا تزال الزيادة مستمرة باطرادٍ في نسبة النمو للسكان في العالم، وهي الزيادة الموضَّحة في جدول (١). وتُقَدَّر هذه الزيادة الآن بحوالي ٢٪ كل عام، وهي نسبة كافية لمضاعفة سكان العالم كل ٣٥ عامًا. ويتضح لنا بعملية حسابية غاية في البساطة أن استمرار هذه النسبة في النمو لمدة مائة عام أو مائة وخمسين عامًا أخرى ستؤدي إلى زيادة في السكان تصبح معها الكرة الأرضية أشبه بقرية النمل.
ولكن العالم، كما أشرنا سابقًا، ليس وحدة اقتصادية أو سياسية أو ديموجرافية واحدة. فقبل أن يبلغ سكان العالم هذا الحجم الذي لا يمكن معه إعالة الناس بنفس مستوى المعيشة الحالي ستؤدي الزيادة السكانية في بلدان ومناطق معينة إلى ظهور مشاكل ستؤثر على صحة الأجزاء الأخرى من العالم ورفاهيتها. ولقد أوضحت أحداث الأعوام القليلة الماضية — بجلاءٍ — أن المشاكل السياسية والاقتصادية في بعض البلدان، مهما كانت صغيرة وضعيفة، إلا أنها تؤثر بسرعة وبشكلٍ مباشرٍ على رفاهية أكبر الدول وأقواها. وأولى بنا، بدلًا من أن نفكر في الحد الأقصى للسكان ممن يمكن أن يعولهم العالم، والفترة اللازمة قبل أن نصل إلى هذا العدد، أن نعنى بما هو أجدى، وندرس التغيرات الديموجرافية التي تحدث في المناطق المختلفة من العالم، ونوجز في تعليقنا على احتمالات المستقبل لها.
انخفاض نسبة الوفيات
إن أهم أسباب الطفرة الأخيرة في الزيادة السكانية هو انخفاض نسبة الوفيات على نطاق العالم. فعلى الرغم من ارتفاع نسبة المواليد في بعض البلدان — مثل الولايات المتحدة — أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها، إلا أن هذه الزيادة لم تحدث على نطاقٍ واسعٍ بحيث لا يمكننا أن نُرجع إليها سبب الزيادة التي طرأت على المجموع الكلي لسكان العالم إلا في جزءٍ ضئيلٍ فقط. وفضلًا عن ذلك فقد كانت هناك زيادة في السكان قبل الحرب العالمية الثانية، رغم انخفاض نسبة المواليد على نطاقٍ واسعٍ بين السكان ممن هم من أصل أوروبي.
ولا توجد لدينا إحصائيات دقيقة، إلا أن أفضل التقديرات التي بين أيدينا تشير إلى أن الأمل في الحياة بعد الميلاد في اليونان وروما ومصر ومنطقة شرق البحر المتوسط لم يكن يتعدَّى ثلاثين عامًا في بدء العصر المسيحي. وزاد هذا الأمل عام ١٩٠٠م إلى ما يقرب من ٤٠ و٥٠ عامًا في شمال أمريكا وغالبية بلدان أوروبا الغربية، وبلغ الآن من ٦٨ إلى ٧٠ عامًا في كثير من هذه البلدان.
وقلة ضئيلة من سكان العالم حتى عام ١٩٤٠م هي التي تَحقق لها أمل في الحياة عند الميلاد مُناظر لذلك الأمل الذي تَحقق لسكان أمريكا الشمالية وشمال غرب أوروبا. ولم يأمل أغلب سكان العالم في حياة أطول من تلك الحياة التي كانت سائدة في غرب أوروبا إبان العصور الوسطى. وخلال العشرين عامًا الأخيرة تهيَّأت لجموع سكان العالم إمكانية بلوغ نسبة وفيات القرن العشرين.
وكانت نسبة الوفيات في المكسيك عام ١٩٤٠م مماثلة لنسبة الوفيات في إنجلترا وويلز منذ مائة عام مضت على وجه التقريب. وانخفضت كثيرًا خلال الأعوام العشرة التالية، مثلما انخفضت نسبة الوفيات في إنجلترا وويلز خلال الخمسين عامًا التي تخلَّلت ١٨٥٠م و١٩٠٠م.
والانخفاض السريع في نسبة الوفيات في المكسيك وشعب الجزائر يصور لنا بوضوحٍ ما حدث خلال الخمسة عشر عامًا في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، حيث يعيش الآن ثلاثة أشخاص تقريبًا من بين كل أربعة أشخاص من سكان العالم. وطرأ تغيُّر طفيف جدًّا على نسبة المواليد في هذه المنطقة — بطولها — وظل مقاربًا لمستوى واحد وهو ٤٠ في الألف كل عام.
بل وفي بعض البلدان مثل بورتوريكو واليابان حيث انخفضت نسبة المواليد انخفاضًا ملموسًا؛ لم تتغير نسبة الزيادة الطبيعية إلا تغيرًا طفيفًا جدًّا بسبب النقص الحاد في نسبة الوفيات. وثمة موقف مماثل — إلى حدٍّ كبير — في سنغافورة وسيلان وجواتيمالا وشيلي، حيث ارتفعت النسبة الإجمالية للزيادة الطبيعية. فقد كان هناك اتجاه عام نحو انخفاض نسبة الوفيات بصورة شاملة، وبقاء نسبة المواليد المرتفعة على ارتفاعها. وترتب على ذلك أن هذه البلدان التي تتميز بأعلى مستوى في الزيادة تعاني من اطِّراد سرعة معدلات النمو فيها.
المستويات الإقليمية
وثمة أثر خطير ينتج عن انخفاض نسبة الوفيات، وكثيرًا ما نغفله، وأعني به زيادة الخصوبة الفعلية؛ إذ إن حوالي ٩٧ من بين كل ١٠٠ من الإناث البيض ممن تنطبق عليهن نسبة الوفيات التي كانت سائدة في الولايات المتحدة عام ١٩٥٠م يبقين على قيد الحياة حتى العشرين من عمرهن أي بعد بداية سن الحمل بقليلٍ، ويبقى ٩١ منهن حتى نهاية فترة الحمل. وهذه التقديرات أعلى من مثيلاتها الخاصة بنسب الإناث البيض اللائي كن يبقين على قيد الحياة حتى هذه الأعمار منذ أربعة قرون مضت تقريبًا، وهي أعلى منها ثلاث مرات وإحدى عشرة مرة على الترتيب.
وفي مقابل ذلك إذا ما طُبِّقَت نسبة الوفيات التي كانت سائدة في جواتيمالا عام ١٩٥٠م فإن ٧٠٪ تقريبًا من الإناث الأطفال يبقين على قيد الحياة حتى سن العشرين، ويبقى النصف فقط حتى نهاية فترة الحمل. وإذا حدث أن نقصت نسبة المواليد في جواتيمالا إلى نفس المستوى الذي كان سائدًا في الولايات المتحدة عام ١٩٥٠م — وهو احتمال معقول — فإن عدد الإناث الأطفال اللائي يبقين على قيد الحياة حتى بداية فترة الحمل سيزداد بنسبة ٣٦٪، وسيرتفع عدد من يبقى منهن حتى نهاية فترة الحمل بنسبة ٨٥٪. ويلزم هنا أن يحدث مقابل ذلك نقصٌ في نسبة المواليد ليحُول ذلك دون أن تؤدي هذه الزيادة في نسبة من يبقين على قيد الحياة إلى زيادة سريعة في نسبة النمو السكاني الحالية، والتي هي زيادة مفرطة أصلًا. وبعبارة أخرى فإن هذا النقص — في نسبة الوفيات — سيتطلَّب نقصًا مقابلًا له في نسبة المواليد يزيد على ٤٠٪ حتى يبقى الوضع على ما هو عليه.
الطراز التاريخي في أوروبا الغربية
يُسَلِّم معنا البعض بأن نسبة الزيادة الحالية لغالبية سكان العالم لا يمكن لها أن تستمر بغير حدودٍ دون أن يثير ذلك مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية خطيرة. إلا أنهم رغم ذلك يشيرون إلى أن موقفًا مماثلًا سبق له أن كان موجودًا في وسط أوروبا وشمال غربها إبان القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر. ويرَون أن زيادة حركة التصنيع والتحضُّر مقترنة بارتفاعٍ في مستوى المعيشة أدت إلى خفض في نسبة المواليد، وترتب عليها كذلك انخفاضٌ في معدل الزيادة السكانية. إذن لماذا لا نتوقع أن تقتفي بقية دول العالم أثر هذا الطراز نفسه؟
ثمة احتمال ضئيل في أن نجد ثلثَي سكان العالم ممن لم يمرُّوا — بعدُ — بالثورة السكانية، وينتقلوا من النسبة العالية في الخصوبة والوفيات إلى النسبة المنخفضة في الخصوبة والوفيات، يمكنهم أن يعيدوا تاريخ الشعوب الأوروبية السابق على ظهور المشاكل السياسية والاقتصادية الخطيرة. ونظرة سريعة على الظروف التي أدت إلى السيطرة المزعومة على العالم، والتي تحققت في نهاية القرن التاسع عشر على يد أناسٍ من أصلٍ أوروبي؛ ستكشف لنا عن بعض الأسباب التي حدَت بنا إلى هذا الرأي.
من المحتمَل أن سكان أوروبا حوالي عام ١٥٠٠ ميلادية لم يتجاوزوا مائة مليون نسمة (ربما كان تعدادهم يقرب من ١٥ إلى ٢٠٪ من سكان العالم). وكان هؤلاء السكان يشغلون حوالي ٧٪ من مساحة اليابس، وبعد أربعمائة عام، أي حوالي عام ١٩٠٠م بلغ تعداد نسل هؤلاء السكان قرابة ٥٥٠ مليونًا، وهو ما يمثِّل ثلث سكان العالم آنذاك. وكان هؤلاء يشغلون أو يسوسون خمسة أسداس مساحة اليابس في المعمورة؛ إذ تم لهم الاستيلاء على قارتَين عظيمتَين، هما أمريكا الشمالية والجنوبية وقارة أخرى أصغر حجمًا هي أستراليا والجزر المتاحة لها، واستوطنوا هذه الأماكن كلها. وسيطروا كذلك على قارة ثالثة كبيرة، وهي أفريقيا واستوطنوا جزءًا منها، وأخضعوا جنوب آسيا والجزر المجاورة لها.
وكانت الشعوب المتحدثة باللغة الإنجليزية والفرنسية والإسبانية هي رائدة هذا التوسُّع، ولعب البرتغاليون والهولنديون دورًا أقل شأنًا، ولم يسهم البلجيكيون والألمان في ذلك إلا في نهاية فترة التوسُّع هذه، واحتلت الشعوب المتحدثة باللغة الإنجليزية مكان الصدارة بين هؤلاء جميعًا في نهاية هذه الحقبة، أي حوالي عام ١٩٠٠م.
ونحن لا نعرف عدد المتحدثين باللغة الإنجليزية حتى عام ١٥٠٠م تقريبًا، أي مع بداية فترة التوسُّع، ولكن من المحتمَل أنه لم يتجاوز ٤ أو ٥ ملايين. وبلغ تعداد هؤلاء حتى عام ١٩٠٠م حوالي ١٢٩ مليونًا، وكانوا يحتلون ويسُوسون ثلث المعمورة، وكان تعدادهم هم والسكان من غير المتحدثين بالإنجليزية حوالي ٣٠٪ من سكان العالم.
وتميزت هذه الفترة بزيادة لم يسبق لها مثيل في تعداد السكان، كما تميزت بالتوسُّع في اتجاهاتٍ متعددة بحثًا عن مستقَرٍّ لهؤلاء السكان، ومن ثَم زيادة في رأس المال فاقت كلَّ الأحلام، وكانت على شكل معادن ثمينة وبضائع وسلع. ولكن ما هو أهم من ذلك كله أن الزيادة في رأس المال والأراضي الصالحة كانت أسرع بكثيرٍ من الزيادة في النمو السكاني.
وليس من المحتمَل — على ما يبدو — أن يصادف الشعوب التي تسكن الآن أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا موقفٌ مواتٍ كهذا، حيث يتحسَّن مستوى المعيشة فيها بخطواتٍ سريعة مقرونًا بزيادة حادة في السكان؛ لقد سُدَّت آخر الحدود العظيمة في العالم. وعلى الرغم من أن هناك بعض المناطق في العالم تتميز بقلة سكانها، إلا أن وجودها على هذا النحو لا يزال حتى الآن شاهدًا على أن الناس ينظرون إليها كمناطق غير مرغوب العيش فيها. كما أن التوسع السكاني في المناطق الباقية المفتوحة يتطلَّب نفقاتٍ باهظة لرءوس الأموال للقيام بأعمال الري والصرف وتسهيلات عملية الانتقال، والقضاء على الحشرات والطفيليات، وغير ذلك من أغراض، ورأس مالٍ كهذا لا تملكه الشعوب التي تتزايد الآن بسرعة، وسوف تكون بحاجة إلى هذه الأراضي.
وعلاوة على ذلك، فإن استيطان هذه الأراضي ليس أمرًا ميسورًا. فالحدود القومية تُقسِّم الآن كل سطح المعمورة، والاعتبارات السياسية تحكم الآن الهجرة العالمية. وقد فُرضت القيود على الهجرة بالنسبة لغالبية سكان العالم، سواء الهجرة إلى داخل البلاد أو إلى خارجها.
لقد فرغ قرن الوفرة، الذي كانت تثريه قبلًا الموارد الطبيعية الحرة، ولم يعد ممكنًا الآن — بالنسبة لشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية — أن تحقق تراكمًا سريعًا في رأس المال في شكل معادن ثمينة وبضائع وسلع، وهي الخصائص التي تميزت بها فترة الأربعمائة عام العظيمة، والتي تمتعت بها شعوب أوروبا الغربية.
فكما أن توماس مالتوس لم يستطع — في نهاية القرن الثامن عشر — أن يتنبَّأ بأثر اكتشاف الأطراف البعيدة للكرة الأرضية على شعوب أوروبا الغربية، كذلك نحن اليوم، لا نستطيع أن نتنبَّأ بوضوحٍ بالأثر النهائي لهذه الزيادة السكانية السريعة التي لم يسبق لها مثيلٌ داخل الحدود المغلقة. إن ما يبدو لنا الآن أقل الأمور يقينًا بالنسبة لمستقبلٍ يحفُّه الغموض هو أن التاريخ الديموجرافي خلال الأربعمائة عام التالية لن يماثل كثيرًا التاريخ الديموجرافي خلال الأربعمائة عام الماضية.
مشكلة عالمية
لم تعُد نتائج التكاثر البشري تخصُّ فقط الشخصَين اللذين تتكوَّن منهما الأسرة وحدها أو الأسرة الكبيرة، بل ولا حتى الأمة التي تضمُّهما كمواطنين فيها. لقد بلغ التطور الديموجرافي في العالم الآن مرحلة أصبح فيها معدل التكاثر البشري في أي بقعة من بقاع العالم يؤثر بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر على صحة ورفاهية بقية الجنس البشري؛ وبهذا المعنى نقول إن ثمة مشكلة عالمية في السكان.
وثمة مثال أو مثالان قد يُلقيان مزيدًا من الضوء على هذه النقطة. ففي خلال العقد الماضي كان من بين كل عشرة أشخاص من المواليد الجدد من سكان العالم يعيش ستة في آسيا، واثنان آخران من بين كل عشرة يعيشان في أمريكا اللاتينية وأفريقيا. ولا مناص الآن — على ما يبدو — من أن يستمر انهيار سيطرة سكان شمال غرب أوروبا وسلالتهم على العالم الذي أصبح الآن على مستوى طيبٍ من التقدم، ولا بد — بالتالي — أن ينتقل مركز القوى والنفوذ ناحية المركز الديموجرافي للعالم.
إن التوزيع الحالي للزيادة في السكان يضاعف من عدم التوازن القائم الآن بين توزيع السكان في العالم وتوزيع الثروة والموارد المستغَلَّة، وتلك التي يتيسَّر استغلالها، واستخدام الطاقة غير البشرية. ويتطلع العالم الآن، وربما لأول مرة في تاريخ البشرية، نحو تحقيق تحسُّن سريع في مستوى المعيشة، كما أن هناك حالة عامة من الاستياء المتزايد بسبب الظروف التي تبدو أنها تقف حجر عثرة في طريق تحقيق هذا الأمل. إن الملايين من شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية على علمٍ الآن بمستوى المعيشة الذي يتمتع به سكان أوروبا وأمريكا الشمالية. ويطالبون بأن تُتاح لهم فرصة بلوغ نفس هذا المستوى، ويقاومون الفكرة التي تدعوهم إلى أن يقنعوا دائمًا وإلى الأبد بالقليل.
وإذا استمر نفس المعدل المرتفع للتكاثر السكاني، كما هو موجود الآن، فإنه سيكون بمثابة «فرملة» توقف هذا التحسُّن الذي طرأ تدريجيًّا، وبشق الأنفس، على مستوى المعيشة؛ ومن ثَم يزيد من حالة الاضطراب السياسي، وربما يؤدي — بالتالي — إلى تغيير في النُّظم الحاكمة، وربما تؤثر هذه التغيرات السياسية تأثيرًا عميقًا، كما أوضحتْ — بجلاء — الأحداث السياسية الأخيرة، على رفاهية الأمم الرأسمالية بما فيها أكثرها ثراءً.
إن رءوس الأموال والمهارات التكنولوجية التي تحتاج إليها كثيرٌ من شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية لتنتج من الطعام ما يفي بحاجة هذا العدد من السكان الذي يتزايد بسرعة، وترفع في نفس الوقت دخل الفرد ارتفاعًا ملموسًا، يفوق قدرتها ومواردها القومية الحالية. والدول الغنية هي المورد الوحيد الذي يمكن أن يزوِّد هذه الشعوب مباشرة بما تحتاج إليه من رءوس الأموال. وأصبح مبدأ المساندة الشعبية لإنجاز خطط الرفاهية الاجتماعية من الأمور المُسلَّم بها الآن على نطاقٍ واسعٍ في السياسة القومية. إلا أن أكثر الدول الغنية والمتقدمة لم تسلِّم — حتى الآن — بوجه عام بالرغبة في توسيع نطاق هذا المبدأ على المستوى العالمي، بحيث يكون الهدف الأول منه تدعيم التطور الاقتصادي في البلدان المتخلفة. وحتى لو سَلَّمت الدول الغنية بهذا المبدأ فليس من الواضح — حتى الآن — إلى أي مدى ترغب هذه الدول طواعية في تدعيم اقتصاد الشعوب التي تتلقَّى المعونة وهي لا تنظم النسل لسكانها. ولكن التسليم ببرنامج المعونات الخارجية إلى المدى الذي يفي باحتياجات البلدان التي ينمو فيها السكان بمعدلٍ سريعٍ لن يكون له أثر سوى إرجاء النتيجة الحتمية لبضع عشرات من السنين بسبب عدم التحكم في الزيادة السكانية.
وربما يشهد المستقبل زيادة درامية في قدرة الإنسان على التحكم في بيئته، بشرط أن ينجز — بسرعة — البديل الحضاري لتلك العوامل القاسية والفعالة — المرض والمجاعة — التي تحدُّ من قدرته الإنسانية العالية، والتي عرف أخيرًا كيف يتحكم فيها. لقد أصبح الإنسان قادرًا على أن يعدل وينظم كثيرًا من الظواهر الطبيعية، إلا أنه لم يكتشف بعدُ وسيلة تجنِّبه النتائج المترتبة على القوانين البيولوجية. فلم يسبق أن وجد — على الإطلاق — أي نوعٍ من أنواع الكائنات الحية استطاع أن يتكاثر بغير حدودٍ. فثمة عائقان يعوقان الزيادة العددية السريعة؛ نسبة الوفيات العالية ونسبة الخصوبة المنخفضة. إلا أن الإنسان، على خلاف الكائنات الحية الأخرى، يمكنه أن يختار أيًّا من هذين العائقَين ليطبِّقه، ولكن لا بد وأن يبقى أحدهما. والمستقبل وحده هو الذي سيكشف لنا إذا ما كان الإنسان سيتمكَّن من الاستفادة من معارفه العلمية ليوجِّه تطوره في المستقبل بطريقة أكثر حكمة وتبصُّرًا من قوى الطبيعة العمياء، والإجابة على ذلك لن تُرجأ لوقتٍ طويلٍ.