السكان والمجتمع في النظام القديم ١٦٤٠–١٧٧٠م١
تغيَّر المناخ الخُلقي والاجتماعي لأوروبا تغيُّرًا حاسمًا مع انحسار الحروب الدينية والأهلية. وتميَّزت الأعوام الأولى لمنتصف القرن السابع عشر حتى عشية الثورة الفرنسية بأنها فترة استقرارٍ اجتماعي لحكوماتٍ قوية ومطلَقة. وسادت فيها الأخلاقيات المهذبة بين الطبقات الراقية كما كانت فترة تنويرٍ لعقول المثقفين. وأصبح التسامح الديني والسلام والاتجاهات الإنسانية هي القيم المسلَّم بها على نطاقٍ واسعٍ. ويتناول المقال التالي الوقائع الاجتماعية والاقتصادية التي كان يرتكز عليها — إلى حدٍّ كبيرٍ — نظام الدولة القديم وثقافته المستنيرة، ويرجع إلى الوضع الديموجرافي المعاصر.
١
فوجئ الإداريون العسكريون في العَقْد الأخير من حرب الثلاثين بموقفٍ أفسد عليهم كلَّ استعدادتهم للمعركة؛ إذ وجدوا أنفسهم عاجزين إزاء النقص في القوى البشرية. فقد كان من المستطاع، حتى عام ١٦٤٠م تقريبًا استئجار الجنود المرتزقة أو طردهم حسب مقتضيات الأمور، وابتداء من القرن الخامس عشر إلى أوائل القرن السابع عشر كان هناك احتياطي كبير من فائض القوى البشرية في كثير من بلدان أوروبا وبخاصة ألمانيا والمناطق المحيطة ببلدان الأراضي الواطئة وسويسرا وبوهيميا. وكان يوجد دائمًا كثيرٌ من المغامرين ممن كانوا على استعدادٍ للاتفاق عن طِيب خاطر على العمل مع ضباط التعبئة دون اعتبارٍ لولاءٍ ديني أو سياسي. ويُعتبَر كلٌّ من فالنشتين (١٥٨٣–١٦٣٤م) وبرنار أوف ساكس فيمار (١٦٠٤–١٦٣٩م) آخر قائدَين من قواد فِرق المرتزقة.؛ إذ إنه بعد وفاتهما لم يعُد ثمة جدوى من الطريقة القديمة في استئجار جنودٍ لآجال قصيرة، ثم الإلقاء بهم إلى عرْض الطريق عندما لا تكون ثمة حاجة إليهم.
وتتضح لنا خطورة الموقف الجديد للقوى البشرية من خلال استخدام الدول — جميعها دون استثناء — لأساليب جديدة في الحرب، وهي الأساليب التي ظلت سائدة طيلة قرن ونصف من الزمان حتى عشية الثورة الفرنسية وحروب نابليون. إذ تغيرت الاستراتيجية، واستُبدِلَت بمناوراتٍ فابية، فبدأ القادة الآن يحرصون على الاحتفاظ بجنودهم بدلًا من التفريط في القوى البشرية، ومن ثَم فإن الفترة الواقعة ما بين عامَي ١٦٤٠م و١٧٨٩م تُعرَف بسيادة استراتيجية النَّفَس الطويل، بهدف استنفاد قدرة العدو على المقاومة تدريجيًّا، وذلك عن طريق المناوشات البسيطة والكر والفر والتهديد بشنِّ معركة ثم التوقف عن ذلك أو الاحتفاظ بمواقع متميزة مع الاستعانة بتحصينات قوية. واستفاد كل رجال الاستراتيجية ابتداءً من مونتيكوتشيلي إلى مارلبورو وفردريك الثاني في بروسيا من أسلوب الحرب الدفاعية تحت ظروفٍ متباينة.
وثمة عدد قليل من البلدان، خاصة بروسيا والروسيا، اعتادت أن تسحب جزءًا من الفلاحين الأرقَّاء للعمل في الخدمة العسكرية، ولكن حتى في بروسيا نفسها فإن فردريك الثاني كان يأمل أن يشكِّل نصف جيشه الكبير على الأقل من جنود مرتزقة غير بروسيين أو من الفارِّين من الجيوش الأخرى أو الأجانب المخطوفين والمجرمين والحرفيين المتجولين وأسرى الحرب. ولقد كانت كل جيوش أوروبا تضم أعدادًا غفيرة من الجنود الذين كانوا يؤدُّون خدمة عسكرية إجبارية. وكان جانب من قوات الأسطول في إنجلترا تتولَّى تجهيزه عصابات التجنيد المرخَّص لها باختطاف المجندين، أو قُطَّاع الطرق الذين يقومون بهذا العمل دون ترخيص لهم بذلك، فكانوا يحتالون على الناس، أو يهددونهم إلى غير ذلك من أساليب أخرى غير مشروعة لاختطاف الشباب من لندن أو المدن الساحلية. لهذا كان الفِرار من الجيش عادة مألوفة رغم العقوبات القاسية التي كانت تُوقَع على الفارِّين.
ويحسُن بنا أن نفهم هذه الحقائق المعروفة من التاريخ العسكري على ضوء علاقتها بسوق العمل المعاصر. فالنقص في الجنود شاهِد على ارتفاع مستوى الدخل لدرجة كبيرة، كما وأنه دليل على حالة الإشباع بين العمَّال المهرة أو نصف المهرة والشبان من عمَّال الزراعة، وهم الفئة التي يُجَنَّد من بينها غالبية الجنود. وقد قال جوستي وهو اقتصادي بروسي وكاتب له دراساته عن الشئون العامة ورحَّالة كتب عدة تقارير عن بافاريا: «كان في وسع العامل الذي يحصل على أقل نسبة من الأجر اليومي أن يحيا حياة أفضل من حياتهم؛ بل إن أفقر صبي من الفلاحين يرى في استدعائه للجيش النظامي بمقاطعته عقوبة كبيرة.»
وكانت القوات البرية في إنجلترا، قبل الحرب الأهلية وبعدها قليلة العدد، وكانت كلما احتاجت البلاد إلى أعدادٍ إضافية من الجنود تبرز أمامها أزمة القوى البشرية مثلما حدث في عامَي ١٧٠٣-١٧٠٤م، عندما بدأت السلطات تستحث المتطوعين أو الكونستبلات بمغرياتٍ خاصة للقبض على «أبناء السبيل» وإرسالهم إلى الجيش. ويشير ديمو إلى هذا بملاحظته التالية:
٢
وكان الكُتَّاب من أصحاب المذاهب التجارية، وكذلك رجال الدولة يعرفون — بكل تأكيد — الظروف العامة لعصرهم بأقل مما هو معروف لدينا الآن. ولكن ربما كانوا على صوابٍ في زعمهم أن العالم الغربي كان يعاني من النقص النسبي في عدد السكان، بمعنى أن عددًا أكبر من القادرين على العمل كان بإمكانه أن يزيد من الرفاهية العامة. والحقيقة أن تعداد السكان، كما هو معروف، قد نقص فقط بشكلٍ مؤقتٍ في مناطق معينة، بينما كانت الكثافة السكانية في أوروبا ككل في زيادة مستمرة؛ ومع ذلك فقد نقص معدل الزيادة لدرجة كبيرة، قياسًا بالفترة السابقة.
وحدث في وسط غرب أوروبا وضعٌ ديموجرافي مخالف لذلك تمامًا، وهي المنطقة التي تضم كلًّا من ألمانيا ومناطق الحدود الشرقية من فرنسا، خاصة مناطق شامبين واللورين وفرانس كومتيه وبرجوندي. فقد كانت هذه المنطقة تتميز بكثافة سكانية عالية جدًّا منذ الفترة السابقة على عهد الإصلاح. بيد أن كارثة سكانية لحقت بها في الربع الثاني من القرن السابع عشر. وقد حسم جونتر فرانز الجدل القديم الذي دار حول مدى ما ألحقته حرب الثلاثين من دمارٍ، وذلك في بحثه الذي ذكر فيه أنه على الرغم من ضآلة عدد قتلى الحرب — نسبيًّا — إلا أن حالات الفرار وضياع الملكية والجوع أنهكت الناس؛ بحيث تمكَّنت الأوبئة من أن تفتك بهم. وكان سكان الأقاليم يفرُّون إلى المدن هربًا من الجندية، وتفشَّت الأوبئة في الأماكن المزدحمة، وتسبَّبت في ارتفاع نسبة وفيات الأطفال ارتفاعًا كبيرًا. ولكن وطأة الحرب على الأقاليم المختلفة لم تكن بنسبة واحدة؛ فثمة مدن — مثل هامبورج ولوبيك — لم تتأثر بالحرب على الإطلاق، وسجلت زيادة في تعداد السكان. ومناطق أخرى مثل سويسرا وغيرها من مناطق جبال الألب تكاد الحرب لم تمسها تقريبًا، وكانت ملاذًا لعديدٍ من اللاجئين. بينما بعض المناطق مثل ميكلينبورج وبوميرانيا وهيس والإمارة الجرمانية وفورتيمبرج كانت الخسائر فيها تتراوح ما بين ٥٠ و٧٠٪، بل كانت أعلى من ذلك في مناطق أخرى. وقدَّر فرانز الخسارة الإجمالية للسكان في ألمانيا نتيجة الحرب والآثار التي ترتبت عليها بما يساوي ٤٠٪. ويبدو أن فورتيمبرج هي المنطقة الكبيرة الوحيدة التي يوجد لها سجلات إحصائية تقريبية عن خسائرها من السكان بسبب وفيات الحرب والهجرة ثم ما تلا ذلك من تعويضٍ لهذه الخسارة؛ إذ كان هناك:
-
في ١٦٢٠م: ٤٥٠٠٠٠ نسمة.
-
في ١٦٣٩م: ١٠٠٠٠٠ نسمة.
-
في ١٦٤٥م: ١٢١٠٠٠ نسمة.
-
في ١٦٥٢م: ١٦٦٠٠٠ نسمة.
-
في ١٦٧٩م: ٢٦٤٠٠٠ نسمة.
-
في ١٧٣٣م: ٤٢٨٠٠٠ نسمة.
-
في ١٧٥٠م: ٤٦٧٠٠٠ نسمة.
وإذا عرفنا أن حجم الأسرة كان صغيرًا فإننا ندرك مدى خطورة هذه الخسائر في الأرواح؛ إذ إن الضغط السكاني خَلَق عُرفًا اجتماعيًّا مسلَّمًا به على نطاقٍ واسعٍ بين الفقراء من الناس، فكان كل خدم المنازل والصبية وعمَّال اليومية وأطفال الفلاحين الحرفيين ممن يُولَدون بعد الابن البكر كانوا جميعًا إما يعزفون عن الزواج أو يتزوجون في سنٍّ متأخرة، والزواج المتأخر يعني تكوين أسر صغيرة الحجم. وارتفاع نسبة وفيات الأطفال في القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر كان عاملًا هامًّا في تخلُّف النمو السكاني. وعلاوة على صِغر حجم الأسرة والظروف المناخية غير الملائمة وكوارث الحروب، كانت الهجرة عاملًا آخر أثَّر — إلى حدٍّ كبير — في التخلخل النسبي للسكان خلال القرنَين السابع عشر والثامن عشر. بل يمكن اعتبار الهجرة — وحدها — عاملًا كافيًا بالنسبة لبعض البلدان، خاصة البرتغال وإسبانيا وروسيا وبولندا، ومع ذلك فقد تأثرت كل بلدان أوروبا بالهجرة إلى حدٍّ ما.
وأدَّى «التوسع الأوروبي» غربًا أو إلى ما وراء البحار إلى سُكنى مواطنين جدد لقارتين شاسعتين. فكان هناك تيار مستمر من السكان يتدفق من البرتغال وإسبانيا ثم أخيرًا من إنجلترا، وبنسبة أقل من فرنسا وهولندا وألمانيا الغربية، ويصب في العالم الجديد وجِهات أخرى فيما وراء البحار مثل سواحل أفريقيا وجنوب شرق آسيا. وهذه الهجرات معروف أمرها — تمامًا — بحيث إنها لا تحتاج منا إلى أي تفصيل، وفي نفس الوقت شرع السلاف في شرق أوروبا في دخول مناطق الإستبس وسيبيريا، وقد كانت من الناحية العملية مناطق خالية من السكان.
وبدأ هذان التياران المتباينان للهجرة في الأراضي المتاخمة «للعالم المسيحي» القديم يفيضان إلى الخارج، أحدهما عبر البحار من شبه جزيرة أيبريا، والثاني يبدأ من شرق أوروبا ويتحرك شرقًا وجنوبًا. وكانت الشخصيات المحورية في المرحلة الأولية هي هنري الملاح (ت. ١٤٦٠م)، وإيفان الثالث (١٤٦٢–١٥٠٥م)، وهو الدُّوق الأعظم الذي حرَّر موسكو من سيطرة التتار. وفي القرن السادس عشر — والنصف الثاني منه بوجه خاص — أصبحت الهجرة إلى خارج البلاد بمثابة حركاتٍ جماهيرية في شبه جزيرة أيبريا وشرق أوروبا. وكان تعداد سكان البرتغال في نهاية هذا القرن يُقَدَّر بحوالي مليون نسمة، أو ما يزيد على ذلك قليلًا، أي أن تعداد سكانها — آنذاك — يعادل سكان بناما اليوم أو ليبيا؛ ومن ثَم فإن فقدان بضعة آلاف قليلة فقط من السكان بسبب الهجرة لا بد وأن يؤثر على البلد الأم. وقيل إن البرازيل البرتغالية كان يسكنها حتى عام ١٥٨٥م حوالي ٢٥٠٠٠ مستوطن من البيض، واستمرت الهجرة بعد ذلك طوال القرنَين السابع عشر والثامن عشر. أما بالنسبة لأولئك الذين نزحوا من أجل الحياة في جنوب شرق أفريقيا والهند ومنطقة آزور والمستعمرات الأفريقية الأخرى على الساحل ربما كان عددهم لا يزيد كثيرًا على عشرة آلاف نسمة. ولكنهم نزحوا عادة وهم شبان في مستهل حياتهم الاقتصادية المجدية، وأصبحت الهجرة في إسبانيا في عهد فيليب الثاني بمثابة بالوعة تستنزف السكان. وفضلًا عن الأعباء الإدارية والعسكرية الثقيلة في أوروبا، كان هناك التوسع الشاسع للعالم الجديد، والذي كان يستهوي المستوطنين الإسبان منذ بداية القرن السادس عشر. ومع عام ١٥٧٤م كان عدد أرباب الأسر في أمريكا الإسبانية يُقَدَّر بحوالي ١٦٠٠٠٠ نسمة.
ونتيجة لهذا التوسع الواضح في مساحات جديدة من الأراضي فيما وراء الحدود القديمة «للعالم المسيحي» التقليدي، نشأت كما هو واضح، فراغات ديموجرافية في المناطق المتاخمة، وأصبح لها تأثيرها كمناطق جذب للسكان المجاورين لها، ومن ثَم أدَّت إلى حدوث عددٍ لا حصر له من الهجرات الصغيرة في اتجاه المناطق غير المأهولة، أو التي يسكنها عدد قليل جدًّا من السكان. وفي أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر وعندما أصبح شمال غرب الروسيا منطقة قليلة السكان، بدأت السويد تتوسع عبر البلطيق في إستونيا وليفونيا. وسرعان ما شيدت إمبراطورية تضم منطقة البلطيق، رغم أنها لم تكن آنذاك تتعدى مليونًا من السكان. وفي هذه الفترة تقريبًا هاجر ما يقرب من ٢٥ إلى ٣٠ ألفًا من الكارليين من السويد وفنلندا إلى الأراضي الروسية. وبدأت بولندا تتوسع شرقًا أثناء عصر الاضطرابات. ونزح كثير من الروسيين إلى جهة الشرق تاركين المناطق التي احتلها البولنديون، وقد هاجر القطاع الرئيسي من الفلاحين البولنديين إلى غرب أوكرانيا.
وبينما كانت عملية الانتشار على نطاقٍ واسع، وبقوتها الجاذبة تتم في الأطراف الشرقية والغربية لأوروبا، كانت المناطق التي تحتل قلب العالم الغربي — إنجلترا وفرنسا وهولندا، وبوجه خاص ألمانيا وسويسرا وإيطاليا — لا تزال تعاني، وبدرجات متفاوتة، من الضغط السكاني. وكانت الصراعات الداخلية المعروفة ﺑ «الحروب الدينية» والاضطهادات الدينية لها تأثيرها الطارد والمدمر على الأوضاع السكانية. ففي حرب الثلاثين فرَّت جماعات كبيرة من اللاجئين، بل ومجتمعات بأكملها أحيانًا، إلى سويسرا وبولندا اللتين كانتا تعيشان في سلامٍ آنذاك. بيد أن بولندا كانت بحاجة ماسَّة إلى سكان بسبب نزوح البولنديين إلى الشرق والشرق الجنوبي، ونتيجة لذلك فبينما نجد أكثر اللاجئين إلى هولندا قد عادوا إلى ألمانيا بعد الحرب، فإن أولئك الذين مكثوا في بولندا وفد إليهم المزيد من المهاجرين الألمان. وفي أوائل القرن السابع عشر كان عامة الناس لا يزالون يتكلمون اللغة البولندية في أكثر مناطق سيليزيا، وهي المنطقة التي استوطنها كثير من الألمان إبان هذا القرن. وكانت مدينة دانزج بالمثل حتى عام ١٦٥٠م نصف بولندية ونصف ألمانية من حيث لغة الكلام، ثم أصبحت تتكلم الألمانية فقط بعد ذلك.
واستمرت الهجرة الألمانية إلى بولندا في عهد أسرة الساكسون بعد عام ١٦٩٧م.
وتضاعفت مرة أخرى مع تقسيم بولندا الأول مرة عام ١٧٧٢م حين نزح إليها مباشرة حوالي (١٢–١٥ ألفًا) من الألمان في جماعاتٍ صغيرة. وفي عام ١٧٨٠م جلبت حكومة النمسا ما يقرب من ١٣٠٠٠ من جنوب ألمانيا إلى جاليسيا. وبعد طرد الأتراك من المجر وترانسلفانيا في نهاية القرن السابع عشر واجهت بلدان هايسبورج مشكلة ضخمة، تمثَّلت في إعادة تأهيل البلاد بالسكان؛ إذ كانت الحاجة ماسَّة إلى زيادة السكان لكي تصبح الحياة في هذه البلاد ممكنة ومقبولة. كذلك فقد عملت الحكومة على رعاية وتشجيع الهجرة من مناطق الرون العليا والوسطى واللورين علاوة على الألمان الذين كانوا يفدون من جنوب ألمانيا والألزاس، وسرعان ما أصبح تعداد المجريين الأصليين لا يتجاوز ٢٠٪ من سكان المجر آنذاك حسب تقدير البعض.
وهكذا نجد قارة أوروبا مقسَّمة إلى نصفَين، أحدهما تتجه هجرته شرقًا والآخر غربًا. وكان الخط الفاصل، وهو خط تقسيم المياه آنذاك، مجموعة من الأراضي في الشمال والجنوب نزحت منها أعداد هائلة من المهاجرين سارت في أحد الاتجاهين، رغم أن أحد هذين الاتجاهين كان يستهوي المهاجرين أكثر من الآخر. مثل ذلك أن الاسكتلنديين في أوائل القرن السابع عشر كانوا ينزحون بالآلاف إلى بولندا وبوميرانيا وشرق بروسيا. وفي أثناء حرب الثلاثين كان كثير منهم يعمل في الخدمة العسكرية في جيش جوستافوس أدولنوس. إلا أنهم توقفوا بعد ذلك عن الاتجاه شرقًا، وبدءوا ينزحون إما إلى إنجلترا أو غربًا إلى أيرلندا وأمريكا. وخرج من هولندا مهاجرون إلى كلتا الوجهتين رغم أن أكثر مَن رحلوا إلى أمريكا كانوا من البلجيكيين لا الهولنديين، وعلى أية حال فإن الهجرة الهولندية إلى أمريكا كانت قد استنفدت أغراضها حتى عام ١٦٤٠م — وذلك على النقيض تمامًا من وضع الهجرة الاسكتلندية — بينما عادت حركة الهجرة في اتجاه الشرق من جديدٍ إلى شمال وشرق ألمانيا، وإلى بولندا بعد نهاية حرب الثلاثين. وكان القطاع الأكبر من فرنسا يدخل بالفعل ضمن منطقة خط تقسيم المياه. ولم تعرف فرنسا الهجرة الواسعة في أوائل العصر الحديث، وكان من المقدَّر أن هناك ١٢٠٠٠٠ فرنسي يعيشون في إسبانيا في منتصف القرن السابع عشر، ويبدو أن أغلبهم عاد إلى بلاده. وكذلك فإن الهجرة الفرنسية إلى ما وراء البحار قد فترت فجأة رغم ما كان للإقامة في شمال وجنوب أمريكا من مغريات متعددة.
وفي أوائل القرن السابع عشر تغيَّرت وجهة الهجرة الفرنسية، مثلما حدث في هولندا إلى الشرق بدلًا من الغرب، وخرجت من فرنسا هجرات واسعة متجهة إلى الشرق في اللورين والمناطق المجاورة لها، وقد كانت مناطق خرِبة قليلة السكان. وبدا أثر الهجرة الفرنسية تجاه الشرق في ضَعف إمبراطوريتها فيما وراء البحار، ثم في خسارتها لهذه الإمبراطورية أخيرًا، كما تمثَّلت في عدوانها السياسي ضد هولندا ومناطق الراين والألزاس. وكانت سويسرا تتبع خط تقسيم المياه مثلما كان الوضع بالنسبة لمنطقة الراين التابعة لألمانيا. وكان هذا هو الوضع — على أقل تقدير — في القرن الثامن عشر عندما نزح ما يقرب من ١٣٠٠٠ نسمة إلى إنجلترا، وما يقرب من ٦٥٠٠٠ إلى بنسلفانيا.
ورغم أن عدد الناس الذين شملتهم حركات الهجرة هذه غير معروف لنا ولو على وجه التقريب، إلا أنه — دون شك — بلغ عدة ملايين؛ إذ إن أوكرانيا زادت خلال خمسين عامًا من ٥٠٠٠٠ حوالي عام ١٥٥٠م إلى ٥٠٠٠٠٠ عام ١٦٠٠م. واستمرت عملية التدفق البشري لقرنَين آخرين من الزمان، وكان من المقدَّر أن ما يقرب من ٧٥٠٠٠٠ نسمة قد هاجروا إلى أراضي الولايات المتحدة فيما بين عامَي ١٦٠٠م و١٧٧٥م. ونزح إلى بروسيا ما يقرب من ٣٠٠٠٠٠ أثناء حكم فردريك الثاني، أي فيما بين عامَي ١٧٤٠–١٧٨٦م. هذا بالإضافة إلى «الأجانب» في الجيش البروسي، وكان يُقدَّر عددهم في عام ١٧٥١م بما يقرب من ٨٠٠٠٠. وهاجر من فرنسا ما لا يقل عن ٢٠٠٠٠٠ من الهيجنوت، وقد يصل عددهم إلى ٣٠٠٠٠٠ فيما قبل عام ١٦٨٥م وما بعده.
وكان التركيب المهني لهذه الحركات يتباين تباينًا شاسعًا، فثمة عبارة مثل «حرفيين وفلاحين» تطالعنا بشكلٍ منتظمٍ في التقارير الخاصة بالهجرات الجماعية. ولكن الفلاح قد يكون أي شيء ابتداء من الفلاح الثري إلى العبد الشارد. والحِرفي قد يكون إسكافيًّا في بلدة صغيرة أو عاملًا على مستوى كبيرٍ من المهارة أمكن إغواؤه للسفر إلى بلدٍ جديدٍ عن طريق منحه امتيازاتٍ خاصة، بل إن فئة الجنود المرتزقة كانت تبدأ من الفتية السويسريين المحترمين ممن كان إدراج أسمائهم ضمن سلك الخدمة العسكرية في فرنسا يتم تنظيمه على نحوٍ طيبٍ، وتنتهي بالفارِّين من العدالة الذين كانوا يتطوعون للخدمة تحت راية أي بلدٍ هربًا من المقصلة في بلدٍ آخر. ولقد كانت القدرة على الحركة الحرة من مكانٍ لآخر مرتبطة، كما هو الحال اليوم، بالقدرة الكبيرة على الحركة الاجتماعية أو الاقتصادية.
وكان هذا هو ما ينطبق — إلى حدٍّ كبير — على المهاجرين من ذوي اليسار، كما كان يصدق كذلك على الخدم الذين كانوا يتعاقدون على العمل في جزر الهند الغربية، أو الصبية الذين كانوا يعملون في صناعة الأدوات القاطعة، ويفدون من المناطق الريفية إلى شفيلد وإنجلند. وربما كانت الأنماط القيادية والمثقفين من المهاجرين هم أهم من يعنينا هنا لاعتباراتٍ شخصية، رغم أنهم من الناحية الديموجرافية أقل شأنًا، ومن هؤلاء أصحاب الأعمال من الهيجنوت في براندنبرج وأساتذة الجامعات الألمان في جامعة موسكو التي تأسست حديثًا، والقادة العسكريون الإيطاليون التابعون لقوات هابسبورج، ورجال الدين الإنجليز الذين أصبحوا — فيما بعد — قادة فكريين وروحيين في نيو إنجلند وغير هؤلاء كثيرون.
٣
كان العجز في الأيدي العاملة هو أول مظهر من المظاهر الاقتصادية المعبِّرة عن الموقف الديموجرافي. والجدير بالذكر أن النقص في القوى البشرية كان ملموسًا بالنسبة للجيوش إلى درجة أن الجهات العسكرية وأصحاب الأعمال كانوا، كما سبق أن أشرنا، يتنافسون فيما بينهم للحصول على القوى البشرية. ونظرًا لأن عامة الجنود كانوا عادة رجالًا على حظٍّ قليلٍ من التدريب المهني، أو غير مدرَّبين على الإطلاق، فقد ترتب على ذلك أن امتد النقص في الأيدي العاملة ليشمل العمال غير الفنيين أو نصف الفنيين، أي إلى تلك الفئة التي يتأثر أبناؤها — دائمًا — بالاهتزازات الكبيرة في مجال العمالة والدخل. فلو كانت هناك بطالة على نطاقٍ واسعٍ فإن العمال غير المهرة هم أول من يعانون منها أكثر من غيرهم، وفي الوقت نفسه فإنهم هم الذين يستفيدون مباشرة إذا ما ظهرت — من جديدٍ — حاجة إلى عملٍ غير متخصصٍ.
ولقد كان للحرفيين ممن هم على مستوى رفيع من المهارة أو الإخصائيين وضع مُواتٍ للغاية يعطيهم فرصة للمساومة؛ إذ كان الإقبال شديدًا عليهم في كل أنحاء أوروبا، كما كانت الحكومات وكذلك أصحاب المشروعات يحاولون استمالتهم. واستطاع أصحاب الأعمال إقناع السلطات المسئولة بالعمل على تحديد مدة الخدمة العسكرية. وصدرت في كل البلدان قرارات لا حصر لها تحدِّد الأجور، بهدف وضع حدٍّ أقصى للأجور بينما كانت السلطات الحاكمة تعنى — فيما قبل — بتحديد الحد الأدنى للأجور، بأن تضمن للفقراء من الناس رزقهم. إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل كلما كان الهدف منها هو وضع حدٍّ مصطنَع لمستوى الأجور. واعتاد أصحاب المصانع، الذين خالفوا الأوامر، ولم يستخدموا الماكينات، أن يخرقوا هذه الحدود التي وُضِعَت للأجور، وكذلك فَعل مثلهم المزارعون أثناء موسم الحصاد.
ويمكن أن يُقال — بكل تأكيد — عن بلدان أوروبا الغربية وشمال الألب والبرانس ما قاله توكر عن إنجلترا عام ١٧٥٥م:
بيد أن هذا التعميم لا ينطبق على الأطراف البعيدة لمنطقة الحضارة الغربية — الأمريكتين في الغرب والمنطقة الأوروبية الواقعة شرق نهر الألب — فإذا كان النقص في الأيدي العاملة قد خلق ظروفًا مواتية لغالبية العامة من الناس في أوروبا الغربية فإن هذه الحالة ذاتها والتي كانت تعاني منها المناطق الشاسعة هي التي نشأ عنها عبء العبودية الثقيل المتزايد الذي كانت تعاني منه أعدادٌ كبيرة، ففي أمريكا كان ضحايا هذه الأوضاع الهنود الأمريكيين أولًا ثم الملونين الأفريقيين الذين تم نقلهم إلى هناك. وفي أوروبا الشرقية كان ما يقرب من نصف الفلاحين أو يزيد من سكان هذه البلاد هم أول من حُرِموا من أرضهم، ثم أصبحوا تابعين لها، وأخيرًا خضعوا لإرادة مُلاك الأراضي التي يعملون فيها إلى درجة أنه لم يعد هناك أي فارق بين رقيق شرق أوروبا والعبيد من الزنوج الأمريكيين بعد أن بلغ هذا التطور ذروته في القرن الثامن عشر. وكانت الشروط الأساسية التي هيَّأت الظروف لظهور هذه العبودية الحديثة هي المساحات الشاسعة من الأراضي التي تتميز بقلة سكانها، ثم الطلب العالمي المتزايد على السلع التجارية التي لم يكن من المستطاع إنتاجها على نطاقٍ واسعٍ إلا في هذه المناطق.
وترجع مقدمات الرق الشرقي إلى القرنَين الخامس عشر والسادس عشر وقتما كان السكان يتزايدون بسرعة في أوروبا الغربية؛ ومن ثَم نشأ عن ذلك زيادة في الطلب على الإنتاج من الحبوب فكانت إسبانيا والبرتغال، ابتداءً من النصف الثاني للقرن الخامس عشر، تعتمدان — إلى حدٍّ كبير — على وارداتهما من حبوب منطقة البلطيق، بل إن إيطاليا كانت تستهلك بعض إنتاج منطقة بحر البلطيق. وبدأت إنجلترا في أواخر القرن السادس عشر، أي من عهد إليزابيث الأولى، تستورد الحبوب من منطقة بحر البلطيق بكمياتٍ لم يسبق لها مثيل، وكذلك فعلت هولندا. وكانت ألمانيا الغريبة والوسطى تحصلان على السلع الشرقية عن طريق النقل البري. وسرعان ما أصبحت بولندا وشرق ألمانيا وكذلك ليفونيا والدانيمرك مناطق التموين للمنتجات الزراعية ومنتجات الغابات. وعَمَل أمراء الشرق على توسيع ضِياعهم وذلك أولًا: عن طريق الاستيلاء على الأراضي البور، أو افتداء الفلاحين، وأخيرًا عن طريق الاستيلاء عنوة على أراضي الفلاحين. وفي القرن السادس عشر ربح كثير من الفلاحين الشرقيين من فرص التسويق الجديدة، ولم يقاوموا التطورات التي أثقلت — آنذاك — كاهل بعضهم فقط بتحمُّل زيادة طفيفة في خدمات العمل. وسرعان ما أصبح الأمراء هم أصحاب السطوة الاقتصادية والسياسية، وخُنِقَت التجارة والصناعة في المدن. وبذلك أصبحت أوروبا الشرقية بمثابة مؤخرة ريفية للغرب الذي تحضَّر وتم تصنيعه. وتكررت عملية مماثلة لهذه — على نحوٍ مستقلٍّ — في المناطق الوسطى من الروسيا. ففي الوقت الذي تزايد فيه السكان في القرنَين الخامس عشر اتسعت المدن القديمة، وظهرت مدن جديدة، ونشأت فرص جديدة للإنتاج الزراعي المربح. وبدأ صغار النبلاء — ممن منحهم أمراء موسكو أراضي وفلاحين مقابل تعضيدهم لهم، وما يقدمونه لهم من خدمات — يطالبون الفلاحين بالمزيد من الضرائب المالية والخدمات في مجال العمل، وبخاصة في القرن السابع عشر عندما بدأت الروسيا تزوِّد السوق الغربي بما يحتاج إليه.
٤
أثرت قلة السكان النسبية التي تميز بها العالم الغربي — من حدود أمريكا إلى سيبيريا — على حياته الاجتماعية والثقافية أكثر مما أثرت على المجال الاقتصادي. ويتفق الموقف في سوق العمل الذي عرضناه في الفصل السابق مع المحاولات التي قامت بها السلطات للحد من الهجرة إلى الخارج، بل ولتشجيع الهجرة إلى داخل البلاد. ويسَّر هذا — إلى حدٍّ كبير — عملية النزوح والاستيطان في أي بلدٍ آخر. ونتيجة لذلك انتهى عصر الطرد بالجملة، والتحول الديني عنوة. وعنيت الحكومات بحماية الأقليات والمهاجرين من الأعمال العدائية التي يواجههم بها رعاياها المتعصبون. وكانت لا تزال هناك حالات فردية لضحايا التعصب الديني، ولكن عمليات الطرد الجماعية أصبحت نادرة. وكان الاستثناء الوحيد لذلك عمليات الإزعاج التي كانت تلحق بالهيجنوت، ولكن من الأمور التي لها دلالتها بالنسبة لهذا الموقف المتغير أن أولئك الهيجنوتيين الذين هاجروا من بلادهم ليتجنَّبوا إجبارهم على التحوُّل عن عقيدتهم قسرًا كانت أمامهم فرصة النزوح إلى عديدٍ من البلدان حيثما شاءوا أن يتجهوا، وكان أهل هذه البلاد يستقبلونهم استقبالًا طيبًا للغاية. ومن ناحية أخرى فإن الرأي العام، عدا استثناءات قليلة، لم يكن ينظر إلى سياسة لويس الرابع عشر المعادية للكالفنية على أنها فقط سياسة قاسية لا داعي لها، بل أيضًا على أنها سياسة قصيرة النظر. أما بالنسبة للاجئين عام ١٧٣١م الذين لجئوا من سالزبورج فلم تكن ظروف رحيلهم سهلة إلى حدٍّ كبيرٍ، إلا أن أغلبهم واصل إقامته في بروسيا. وإذا قارنَّا هذا بالمحاولات الكثيرة والأسلوب القاسي في دفع الأفراد والجماعات — قسرًا — لترك أوطانهم في الفترة السابقة يمكن القول بأن عصرًا جديدًا للتسامح قد أشرق فجره على البلاد. ويبدو أن الاهتمام الكبير بالوافدين الجدد، ممن يعودون على البلاد بالنفع، أسهم في الكشف عن فضائل التسامح والعون بصورة أوضح.
والفكرة الإصلاحية الثانية في مجال العقوبات الجنائية، كانت النفي إلى المناطق التي في مسيس الحاجة للناس، حتى أصبح الناس غير المرغوب فيهم هم المرغوبون. ففي القرن الثامن عشر نفت حكومة هابسبورج إلى ترانسلفانيا كلَّ المجرمين والمشتغلين بالدعارة والخصوم البروتستانتيين وأسرى الحرب البروسية. وأرسلت البرتغال كلَّ السكان غير المرغوب فيهم إلى البرازيل، كما أرسلتهم الروسيا إلى سيبيريا وأرسلتهم إنجلترا إلى مريلاند. ومن المعروف أن بعض هؤلاء — على الأقل ممن كان مقدَّرًا لهم الموت في ظل أوضاع القرنَين الخامس عشر والسادس عشر — قد رُدَّ إليهم اعتبارهم.
ويبدو أن اهتمام الرأي العام بالأشخاص الذين يعودون على المجتمع بالنفع الاقتصادي كعمَّال أغرى الناس بأن يتبعوا نصيحة أصحاب الاتجاه الإنساني الحقيقيين. وظهر اتجاه جديد نحو التعليم العام، وتركَّز أساسًا في «المدارس التي كان يتعلم فيها أبناء الطبقة العاملة أوَّليات مبادئ التعليم الثلاثة». وكان هؤلاء يحصلون في نفس الوقت على أجرٍ يعادل كل أو بعض تكاليف الإدارة المدرسية. وكانت لهذه المدارس فائدة إضافية، وهي غرس عادات صحية عن العمل في نفوس الأطفال. وفي عام ١٦٨١م كتب توماس فيرمين تقريرًا عن مدرسته تكاد حروفه تتقد نارًا، يقول فيه:
ولم تتجه حركة المدارس الصناعية ضد التقليد الإنساني المتزمت في التعليم فقط، بل اتجهت — بالمثل — ضد ما يُسمَّى «بمدارس الصدقة» بكل اتجاهها الديني المتطرف. وأوضح أحد الإخصائيين في مدارس الأيتام الصناعية الفارق بين النوعَين ببساطة، عندما طالب بأن تنقص عدد التراتيل التي يتغنَّى بها الأيتام، حتى لا يكون في ذلك مضيعة للوقت.
ولو نظرنا إلى الموضوع على مستوى تأمُّلي — نظرًا لأنه ليس من اليسير تدعيمه بأية أسانيد سوى التطابق الزمني — فإننا نرى أن ثمة تغيُّرًا في عقلية الجماهير يتطابق زمنيًّا مع التغيُّر في الموقف السكاني. فمنذ نهاية القرن الخامس عشر حتى مطلع القرن السابع عشر صدرت عن أوروبا حركات دينية عميقة الانفعال تكشف عن حالة من الاستياء. وقد صاغ هذه الحركات عددٌ من قادة الفكر يختلف بعضهم عن البعض اختلافًا بيِّنًا ابتداءً من سافونا رولا إلى ليلبورن ممن كانوا يمقتون المجتمع الدنيوي الذي يعيشون فيه. وكانت بين هذه الحركات اتجاهات عديدة، وكان من الواضح أنها حركات تعنى بالآخرة وحدها. وتم نضج كل هذه الحركات تحت الشعار الذي ذاع بين الناس، ويدعوهم إلى إنكار التعميد. ويبدو الآن أن المسألة هي أكثر من أن تكون مجرد توافقٍ عرَضي بحيث إن الدعوة الملحَّة إلى الاعتقاد بأن كل شيء في طريقه إلى الزوال قد فترت بعد منتصف القرن السابع عشر. كما اختفى من على المسرح الاجتماعي الاعتقاد بقرب نزول المسيح ليحكم العالم في عهدنا. وفوجئ المثقفون والمستنيرون وغيرهم بموقف اللامبالاة من جانب الرجل العادي الذي لم يكشف عن أي مشاعر قومية أو وعي طبقي أو اهتمامات سياسية من أي نوعٍ. وأشار فردريك الثاني ملك بروسيا إلى أن «أسلوب الثورات قد انتهى في عصرنا، كما لم يعُد هناك حماس شعبي للحروب.» وكان الناس يؤمنون بالخرافات، ولكن لم يكن إيمانًا عميقًا، ولم يعد اليهود موضع اتهام بأنهم دنَّسوا القربان المقدس أو سمَّموا الآبار، وانتهى أسلوب إحراق السحرة.
وسرعان ما تغيَّر هذا المناخ الاجتماعي الذي يتسم بالاستقرار والثبات حوالي عام ١٧٧٠م، وانتشرت بين القطاعات الوسطى من المجتمع الأفكار الديموقراطية والكراهية لنظام النبلاء. وازداد الشغب من جانب الطبقات العاملة، وبدءوا بحماسٍ زائدٍ ينظمون أنفسهم في نقابات، وظهر أول القادة من العمال في هذا العصر الذي تميز بالمشاكل الاقتصادية الحادة. وأهم من هذا كله أنه ظهر اتجاه قومي جديد يتسم بالحماس والغيرة مزَّق أوصال الوحدة الثقافية التي كان يحس بها الناس في الحضارة الغربية خلال نظام الحكم القديم وفي عصر التنوير.
٥
إن الهزَّات العقلية التي تعرَّض لها الفكر الاجتماعي — وأصبحت واضحة بجلاء حوالي عام ١٧٧٠م — إنما حدثت استجابة لتغيُّرات أساسية طرأت على البناء الاجتماعي والاقتصادي. ولقد أسهمت التطورات الديموجرافية إسهامًا حاسمًا في هذا التغيُّر.
وارتفعت أسعار المواد الغذائية التجارية ارتفاعًا حادًّا ابتداءً من ١٧٦٥م حتى نهاية القرن. وهكذا بدأت تنتهي الحياة الرغدة وطوال الثلث الأخير من هذا القرن كانت الأجور ترتفع بمعدل أقل من ارتفاع الأسعار، وكانت أعوام الجفاف الكثيرة التي تميزت بقلة محاصيلها فيما بين عامَي ١٧٨٠م و١٧٩٠م فترة معاناة قاسية إلى حدٍّ كبيرٍ بالنسبة للأجراء وأسرهم. ويبدو أن فرنسا كانت أول بلدٍ عانى من أثر هذا الوضع الجديد. ومع ارتفاع أسعار المواد الغذائية دخلت صناعة النبيذ، ابتداء من عام ١٧٧٨م، فترة كساد استهلاكي، وأسهمت بذلك في البطالة الموجودة في الريف. وازداد عدد المتسولين والمتشردين في كل أنحاء البلاد، وتضاعف الاستياء الشعبي، وارتفعت في إنجلترا — تدريجيًّا — نفقات الإعالة التي تُمنَح للفقراء. وازدحمت الورش التي أُنشِئَت للمعدَمين. وتعددت حوادث الشغب فيما بين عامَي ١٧٩٠م و١٨١٢م. وأصبح الفقر مشكلة كذلك في كلٍّ من إسبانيا وإيطاليا وهولندا وألمانيا، وإن لم يكن بعد قد أصبح مشكلة في شرق أوروبا.
ج. أنوين، «التنظيم الصناعي في القرنَين السادس عشر والسابع عشر»، ١٩٠٤م، الباب الثامن.
ج. أ. مينجاي، «الكساد الزراعي»، مجلة التاريخ الاقتصادي، ١٩٥٥-١٩٥٦م.
وبالنسبة لفرنسا:
ب. رافو، «مقال عن الموقف الاقتصادي والحالة الاجتماعية في منطقة بواتو في القرن السادس عشر»، ١٩٣١م، ص١٠١.
م. ج. ألزاس، «فذلكة تاريخية عن الأسعار والأجور في ألمانيا خلال الفترة منذ العصور الوسطى حتى بداية القرن التاسع عشر»، جزآن، ١٩٣٦م، ٤٩؛ الفصل الثامن تأليف ج. ف. شتيفن، «دراسات عن تاريخ أجر العامل الإنجليزي»، جزآن، ١٩٠١م.
ف. آبل، «أزمات الأرض والموقف الاقتصادي في وسط أوروبا منذ القرن الثالث عشر حتى التاسع عشر»، ١٩٣٥م.
ل. شون، «تاريخ السكان في فرنسا»، ١٨٩٣م، ص١٣٥–١٦٩، ٢١٠ والباب العاشر.
جيروم بوم، «نشأة العبودية في شرق أوروبا»، مجلة التاريخ الأمريكي، ١٩٥٦-١٩٥٧م، ص٨٠٧–٨٣٧؛ وكتاب، «السيد والفلاح في روسيا من القرن التاسع حتى القرن التاسع عشر»، ١٩٦١م؛ هانز روزنبرج، «ظهور البانكرز في براندنبرج-بروسيا من ١٤١٠ إلى ١٦٥٣»، (١٩٤٣–١٩٤٤م)، ص١–٢٢، ٢٢٨–٢٤٢.
ت. ج. درتينبيكر، «الأمريكيون الأوائل من ١٦٠٧–١٦٩٠»، (١٩٢٧م) ص٢١٧–٢١٩.