بعض النتائج الاجتماعية والثقافية للموجة السكانية الطاغية في القرن التاسع عشر١
إذا كان عدد السكان في منطقة ما لا يؤثر فقط على اقتصادها، بل يؤثر كذلك على مجالات أخرى من الحياة الاجتماعية، إذن لنا أن نتوقع إمكانية تفسير التطورات السياسية والثقافية المختلفة على أساس ربطها بالبيانات الديموجرافية. والمقال التالي، الذي كتبه المرحوم الأستاذ راسوف بجامعة بون بألمانيا، يقدم لنا أفكارًا تتسم بمداها الواسع في هذا الاتجاه. ومن الواضح أنه لم يكن من المقصود بها أن تكون الكلمة الأخيرة في دراسة علمية تاريخية، بل بالأحرى أن تكون حافزًا لمزيدٍ من البحث وصياغة فروض أخرى للتاريخ الاجتماعي.
تكاثر سكان أوروبا بصورة لم يسبق لها مثيل فيما بين عامَي ١٨٠٠م و١٩٠٠م، ونتيجة لهذا تغيَّرت ظروف كل بلد على حدة، كما تغيرت العلاقات بين كل دولة وأخرى تغيُّرًا ثوريًّا حقيقيًّا.
فقد تكاثر السكان في الولايات المتحدة الألمانية التي كان يضمُّها رايخ بسمارك، وفي بريطانيا العظمى بأرقامٍ دائرية على النحو التالي:
السنة | ألمانيا | بريطانيا وأيرلندا |
---|---|---|
١٨٠٠م | ٢٤ مليونًا | ٤٤ مليونًا |
١٨٧٠م | ٤٠ مليونًا | ٣١ مليونًا |
١٩٠٦م | ٦٠ مليونًا | ١٦ مليونًا |
إلا أن لكلٍّ من هذَين العمودين من الأرقام معنًى مختلفًا تمامًا عن الآخر بالنسبة لكلٍّ من البلدين. فقد كانت إنجلترا هي أول دولة تحوَّلت إلى دولة صناعية على مستوى عالٍ، فضلًا عن أنها كانت تملك إمبراطورية فيما وراء البحار ومستعمرات للاستيطان، بينما كان المهاجرون الألمان ينزحون جميعًا دون استثناء إلى بلدان غير ألمانية ولا تتكلم لغتهم.
ولكي نعطي مثالًا آخر لتغيُّر ديموجرافي يستوجب عمل مقارنات على النطاق العالمي يمكننا أن نشير إلى عملية التحضر غير المستوية، والتي أدت إلى خلق فوارق هائلة في التراكيب الاجتماعية. ففي ألمانيا كان عدد السكان الذين يعيشون في مدنٍ يربو سكانها على ٢٠٠٠ نسمة يصل إلى ٣٦٪ عام ١٨٧١م، و٥٤٪ عام ١٩٠٠م. وفي فرنسا زاد سكان المدن خلال هذه الفترة ذاتها من ٣١٪ إلى ٣٦٪ فقط. وتزداد هذه المقارنة وضوحًا إذا عرفنا أن المدن الصغيرة في ألمانيا التي يقل سكانها عن ٢٠٠٠٠ نادرًا ما كانت تستفيد من الزيادة في عدد السكان التي أدت إلى تضخم المدن الكبرى. وفي عام ١٨٨٠م كان في ألمانيا أربع عشرة مدينة يزيد سكانها على ١٠٠٠٠٠ نسمة، وفي عام ١٩١٠م أصبحت ٤٩ مدينة.
وسوف نعرض في الصفحات التالية صورة مجمَّعة لبعض النتائج التي ترتَّبت على النمو السريع في السكان، مع الإشارة إلى التطور الاجتماعي الثقافي لألمانيا:
-
(أ)
أن الجيش البروسي الذي وضع تصميمه لحروب التحرير (١٨١٣–١٨١٥م) شارنهوست ثم خطَّط له بوين على دعائم سلمية، إنما بُني على أساس أن يصل عدد القوات المسلحة إلى ١٪ من مجموع السكان. لهذا كان لدى بروسيا في عام ١٨١٦م جيشًا قوامه ١٠٠٠٠٠ رجلٍ يُخْتَارون من بين عددٍ من السكان يُقَدَّر تعدادهم — إجمالًا — بعشرة ملايين نسمة. وقُسِّمَ الجيش إلى خمس فرقٍ، كلٌّ منها مقسَّمة إلى قسمَين، وكل قسم يتألَّف من لواءَين، وكل لواء يتألَّف من كتيبتَين، ولكل كتيبة تجهيزاتها المختلفة. وكان هناك ما يقرب من ٣٠٠٠ ضابط. وفي عهد فردريك الثاني (١٧٤٠–١٧٨٦م) كان تعداد بروسيا خمسة ملايين نسمة، ويتولى قيادة الجيش فيها حوالي ألف ضابط، ويعرفهم الملك جميعًا معرفة شخصية. وربما لم يحاول فردريك وليام الثالث، بضباطه الثلاثة آلاف، أن يعرف ضباط الاحتياط الموجودين بينهم، وكان عددهم يتزايد تدريجيًّا. ورغم هذا فإن معرفته بالباقين لم تكن بالمهمة اليسيرة، وهنا ندرك ظهور فارق كيفي في العلاقات الشخصية المتبادَلة.
فإن فرقة الضباط التي يعرف الملك أفرادها فردًا فردًا ترتبط ببعضها في تلاحم وفقًا لنظام الفرسان، ومع ذلك فلو أن القائد الأعلى لا يستطيع أن يكون على دراية شخصية بمجموع ضباط جيش الأمة فإن روح الجماعة عندهم يمكن أن تكون فقط ذات طبيعة مجردة وامتدادًا للأصل الذي نشأت عنه.
وبعد أن ازداد عدد السكان خلال القرن التاسع عشر أصبح مستحيلًا من الناحية المالية أن نضم إلى الجيش —كلَّ عام — ١٪ من السكان. وتناقصت كفاية التدريب لقوات الاحتياط أكثر فأكثر، وكان المجنَّدون يُختارون من بين ذوي اللياقة البدنية ممن سجلوا أسماءهم عن طريق القرعة. إلا أن هؤلاء الرجال أصبحوا — فيما بعد — جنودًا محالين إلى الاستيداع، وعليهم — عامًا بعد آخر — أن يحضروا تدريبات عسكرية، وفي حالة التعبئة العامة يكونون هم أول من يُستدعى ليُدفَع بهم إلى المعركة. وفي هذه الأثناء، وبسبب زيادة السكان، فإن أكثر من نصف الشبان لم يجنَّدوا، وظلُّوا دون تدريبٍ، ودون أن يتعرَّضوا لما يزعجهم في أماكن عملهم. وعندما أُعلنت التعبئة العامة عام ١٨٥٩م استُدعِي للخدمة العسكرية آلاف الرجال من أصحاب العائلات الذين ناهزوا متوسط العمر بينما ظل الفتيان ذوو اللياقة البدنية قابعين في بيوتهم. وفي عام ١٨٦٠م عندما أراد وليم الأول أن يغيِّر هذا الوضع عن طريق زيادة عدد القوات المسلحة وإدخال تعديلات في قوات الاحتياط؛ بدأ الصراع الدستوري مع مجلس النواب البروسي، وهو الصراع الذي يُعتبَر إحدى نقاط التحوُّل في تاريخ ألمانيا. فلو أن تعداد السكان لم يتجاوز النسب المحدَّدة للجيش لظلَّ الإصلاح العسكري مسألة إدارية دون أي احتمال لصِدامات سياسية.
ومع عام ١٩٠٣م أصبح لألمانيا جيشٌ عاملٌ قوامه ٤٩٥٠٠٠ رجل، فضلًا عن فرقة من ٢٤٠٠٠ ضابط محترف و٨٠٠٠٠ ضابط متقاعد. وقُدِّرَت القوة الحربية لهذا الجيل ﺑ مليون رجل. ولقد كان من المستحيل تمامًا على القائد الأعلى أن يعرف الضباط كأفرادٍ. بل ربما يكون قد أنجز عملًا بالغ الأهمية لو أنه استطاع أن يعيِّن كل قادة الكتائب على أساس معرفته الشخصية، ومن ثَم كان لِزامًا أن تصبح روح الجماعة — شيئًا فشيئًا — فكرة مجردة ونظرية. ويجب على المؤرخ أن يدرك أن «الجيش البروسي» في عام ١٩٠٠م إنما كان فقط من حيث الاسم نفس مؤسسة «الجيش البروسي» في السنوات الأولى من هذا القرن، وأن خلال هذه الفترة القصيرة أصبحت خبرة الجندي شيئًا مختلفًا تمامًا، وتضاعفت حوادث الانتحار في الجيش قياسًا لحجمه فيما بين عامَي ١٨٤٥م و١٩٠٥م. -
(ب)
يقضي نظام الإصلاح الإداري للمدن، الذي أدخله البارون فون شنين عام ١٨٠٨م، بمنح المدن قدرًا كبيرًا من الاستقلال عن الحكومة المركزية؛ إذ مُنِحَت المدن — في هذه الفترة — حق انتخاب محافظيها وأعضاء مجلس الشورى بها؛ حيث كان الاعتقاد السائد أن المدن ستستطيع أن تدير شئونها على نحوٍ أفضل عن طريق أناس معروفين معرفة جيدة لرفاقهم من سكان المدينة. وربما لم يكن (شنين) ليحاول تصميم هذه الخطة لو لم يفكر في المدن التي يقطنها من ٣٠٠٠ إلى ١٥٠٠٠ نسمة. ومع ذلك ففي نهاية هذا القرن كانت هناك ٥٧٦ مدينة يزيد سكانها على ١٠٠٠٠ نسمة، من بينها ٤٠ مدينة تضم أكثر من ١٠٠٠٠٠. ولم يعد من المستطاع بالنسبة للمقترعين في مدينة تضم ٥٠٠٠٠ أو ٦٠٠٠٠ نسمة أن يكوِّنوا فكرة مستقلة عن كل مَن يتطلع لشغل وظيفة معينة، ناهيك عن معرفتهم لجميع الناس من أصحاب الوسائل الخاصة ممن يرغبون — عن جدارة — في القيام ببعض المهام الإدارية كالعمل أعضاءً بمجلس الشورى للمدينة دون مقابل. ولم يستطع شنين أن يدرك مقدمًا نمو المدينة الذي يستلزم ظهور الأحزاب السياسية بين المقترعين وإدارة المدينة. ومع ذلك لم تستطع المدن أن تنشئ أيَّ حزبٍ من الأحزاب التي تضرب بجذورها العميقة في البيئة المحلية. ولقد غزت الأحزاب القومية سياسة الحصر، وتبنَّت هذه الأحزاب برامج فرعية للشئون المحلية. وهكذا أصبح على سكان المدينة أن ينتخبوا المجالس طبقًا لبرامج الحزب التي تتداخل مع السياسة القومية. أما في المدن الكبرى فإن النواب المنتخَبين لم يعد في استطاعتهم معرفة الناخبين معرفة شخصية، ومن ثَم خيَّبت «السياسة» آمالهم؛ إذ أصبح عليهم أن يعملوا داخل إطارٍ سياسي أُعِدَّ خصيصى — وأُحْسِنَ تدبيره في الحقيقة — للمدن الصغيرة.
-
(جـ)
عندما أسس ويلهم فون همبولت جامعة برلين عام ١٨١٠م فإنه كان يتصورها مؤسسة تضم من ٦٠٠ إلى ٩٠٠ طالب، ومن ٦٠ إلى ٨٠ أستاذًا. وافترض كذلك أن كل الطلبة، أيًّا كان المكان الذي وفدوا منه، باستثناء بيوت أهل اليسار، سوف ينشئون في بيئة ثقافية أكاديمية. وكان عدد الطلبة الذين سجلوا أسماءهم لحضور برامج المحاضرات الفردية ضئيلًا جدًّا، وكان عليهم أن يقطنوا في أماكن قريبة جدًّا من الجامعة، حتى ولو كانوا من مواطني برلين. لذلك سرعان ما عرف الأساتذة طَلَبتهم معرفة شخصية، وكانوا يلتقون بهم في لقاءاتٍ خاصة. واستطاعوا، عن طريق المحادثة، أن ينمُّوا ثقافتهم المنهجية. ولقد كان هذا الجانب من الحياة الأكاديمية، وهو الجانب غير المنظَّم بتاتًا، هو أكثر الجوانب تنبيهًا وتأثيرًا في التدريب الذهني للطلاب الشباب.
وكان أساتذة الجامعة يعرفون بعضهم بعضًا خير معرفة، فكلٌّ منهم كان يتعرَّف على مشاريع الأبحاث الخاصة برفاقه وغير ذلك من أمورٍ تستحوذ على اهتمامهم. وتم تجهيز هذا المجتمع الطبيعي لطلاب العلم، حسب الصورة التي كان موجودًا بها في عصر همبولت، بكل ما تهيئ له الممارسة العلمية الحقة. وكان كذلك قاعدة للروح المتجسدة للأساتذة حسب تنظيمهم في هيئات التدريس لمواد اللاهوت والدراسات الإنسانية والقانون والطب.
ومع ذلك فقد حدث تغيُّر تام خلال القرن التاسع عشر. فبينما كان في جوتينجن عام ١٨٣٦م حوالي ٤٠٠ طالب أصبح بها بعد مائة عام ٤٠٠٠ طالب. ولم يعد في استطاعة الأساتذة التعرُّف على كل طَلَبتهم. وأصبح لزامًا أن يحل نظام الحلقات الدراسية كبديلٍ للاتصالات الشخصية وما تتميز به من تأثير قوي. إلا أن تلك الحلقات كانت بديلًا لا جدوى منه عندما أصبح مسموحًا لها بأن تضم أكثر من عشرين أو ثلاثين عضوًا؛ مما جعل أي عمل علمي جاد يقوم على المشاركة شيئًا مستحيلًا.
-
(د)
في ميدان التعليم الثانوي في ألمانيا انتهت محاولات إعادة التنظيم في مطلع القرن التاسع عشر بإنشاء المدرسة العليا اليونانية اللاتينية (الجمنازيوم). وفي خلال القرن التاسع عشر، وبينما تضاعف عدد السكان ثلاث مرات، بلغ عدد الطلاب في هذه المدرسة أربعة أمثال ما كانوا عليه. ونشأت — في نفس الوقت — أنماط أخرى من المدارس العليا استجابة لعملية التحضر والمطالب المهنية الجديدة والتي كانت هي الأخرى، جزئيًّا على الأقل، نتاجًا تابعًا لعملية النمو السكاني، ونتيجة لذلك تزايد عدد طلبة المدرسة العليا الوافدين من بيوتهم دون أن يكونوا على حظٍّ، ولو كان ضئيلًا، من التقاليد الأكاديمية، وحوالي عام ١٨٩٠م أثار هذا الموقف مناقشات حادة على نطاقٍ عام، دارت كلها حول المناهج الدراسية التي تدرسها المدارس العليا على اختلاف شاكلتها وتصديق الجامعة عليها.
ومن ناحية أخرى فإن الزيادة في عدد مُدرسي المدارس العليا استتبعت إجراء تغييرات مماثلة فيما يتعلق بعلاقاتهم بإدارات المدارس الرسمية على ضوء خبرة ضباط الجيش. فبينما كان في استطاعة مديري المدارس الرسمية أن يضعوا في مطلع هذا القرن تقارير وظيفية على أساس انطباعاتهم الشخصية وكذلك على أساس التقارير المكتوبة؛ إلا أنه أصبح لزامًا عليهم في أواخر هذا القرن أن يعتمدوا — أولًا وأخيرًا — على التقارير المكتوبة وحدها.
وبشكلٍ عام فإن غلبة التقارير المكتوبة على الانطباعات الشخصية تمثِّل أحد جوانب التوسع الديموجرافي في القرن التاسع عشر. وثمة جانب آخر وهو استبدال المعالجة الشكلية بالاتصال الشخصي. ولقد كانت النتيجة، سواء في الجيش أو الإدارة أو التعليم، هي فقدان الفردية والثقة البيروقراطية في المقاييس النمطية. وكان ملف الموظف — على ما يبدو — يحتوي على كل شيء مما ينبغي معرفته عن ضابط الجيش أو موظف الحكومة أو المدرس أو أستاذ الجامعة. ولكن كم تكون هذه الملفات والبطاقات خادعة عندما تكون السيادة المطلقة للصفات الإنسانية؟!