نشأة المدن ونموها١
قيل عن الحضارة الغربية «إنها أكثر الحضارات تحضُّرًا». وإذا نظرنا إلى هذه الصفة من الناحية العددية الخالصة نجد أنها لا تَصدُق إلا على الأعوام الثلاثمائة الأخيرة. إلا أن الاستقلال الاجتماعي الذي تمتعت به كثير من المدن الأوروبية، منذ العصور الوسطى، جعل منها خميرة للتقدم الاقتصادي والإبداعات الفنية والثقافية والتربوية. ومن ثَم، وحسب هذا الفهم، فإن السبيل الذي سلكته أوروبا من أجل تحضُّر الحياة فيها، كانت له أهميته في تشكيل الحضارة الغربية.
والمقال التالي كتبه عالم أمريكي من علماء الديموجرافيا والاجتماع المبرزين، ويعرض في مقاله هذا موضوع التحضر داخل إطاره التاريخي.
تمثِّل حركة التحضر تغيُّرًا ثوريًّا يشمل كل أنماط الحياة الاجتماعية. وهي في ذاتها نتاج لتطورٍ اقتصادي وتكنيكي أساسي. وما إن تتحقق هذه الحركة حتى تتجه — بدورها — إلى التأثير على جوانب الحياة المختلفة. ولا ينحصر التأثير الشامل لحركة التحضر داخل الوسط الحضاري للمدن بمعناه الدقيق، بل يمتد إلى التخوم الريفية التي تقع في مؤخرة المدن.
وكثيرًا ما بالغ الكُتَّاب في تقديرهم لدور المدن في العصر القديم. ويميل علماء الآثار — بوجه خاص — إلى أن يُسَموا أي مستعمرة يستوطنها الناس باسم «مدينة» ما دام يخترقها بعض الشوارع ومبنى عام أو بنيان. ولكن ما زال هناك — يقينًا — ما يجب الإشارة إليه حتى لا نخلط بين البلدة والمدينة. وليس ما يعنينا فقط هو مظهر بضعة بلاد أو مدن، بل كذلك وضعها داخل المجتمع كله الذي كانت تشكِّل جزءًا منه. وهكذا، فرغم أن كثيرًا من البلدان، وقليلًا من المدن ظهرت في مناطق معينة على ساحل البحر الأبيض وجنوب وغرب آسيا قبل ميلاد المسيح إلا أنه كانت هناك قيود صارمة، سواء بالنسبة للحجم الذي يمكن لهذه المدن أن تمتد إليه، أو فيما يتعلق بنسبة السكان الذين يستطيعون الحياة فيها. وتكشف لنا مواقع مدن العصور الأولى أنها كانت مدنًا ضئيلة الشأن؛ فأسوار مدينة بابل القديمة — مثلًا — كانت تضم مساحة لا تكاد تزيد عن ٣٫٢ ميلًا مربعًا، ومدينة أور بقنواتها وموانيها ومعابدها كانت تشغل مساحة تُقَدَّر بحوالي ٢٢٠ فدانًا. وكانت أسوار مدينة إريسن تضم مساحة لا تزيد على ميلَين مربعَين. ويفيد هذا — ضمنًا — أن مدينة أور الشهيرة ما كان لها أن تزهو بأكثر من ٥٠٠٠ نسمة، ومدينة إريسن بحوالي ٢٥٠٠٠ نسمة. وتغطي استحكامات مدينة موهنجو-دارو في السند مساحة قدرها ميلٌ مربعٌ. وكان لمدينة هارابا في البنجاب أرضًا مسوَّرة قُدِّرَت مساحتها في عام ١٨٥٣م بحوالي ٢٫٥ ميل. ومن الواضح أن هذه «المدن» كانت لسكانٍ يتراوح عددهم ما بين ٥٠٠٠ و١٥٠٠٠ نسمة، ومع ذلك فقد كانت تمثِّل المراكز الرئيسية لكل منطقة السند، وهي مساحة تساوي تقريبًا ثلثَي حجم تكساس.
وثمة أسئلة تُثار في هذا الصدد، وهي: لماذا كانت أكبر المدن الموجودة قبل عام ١٠٠٠ق.م. مدنًا صغيرة حسب المقاييس العصرية؟ ولماذا كانت المدن القديمة قليلة العدد — نسبيًّا — بما في ذلك المدن الصغيرة منها؟ ولماذا كانت درجة التحضر في هذه المدن ضئيلة جدًّا حتى في أكثرها تقدمًا؟ ويبدو أن الإجابة على هذه الأسئلة هي كما يلي: كانت الزراعة عملًا مرهقًا واستاتيكيًّا ومعرقلًا؛ بحيث إنها كانت تقتضي جهدَ عددٍ كبيرٍ من المزارعين لتقدم ما يعُول شخصًا واحدًا من سكان المدينة. وكانت أدوات الإنتاج هي المحراث الذي يجرُّه الثور والنورج الخشبي والري عن طريق إغراق الأرض بالماء وأدوات العزق الحجرية والمنجل والفأس. والحق أنها كلها كانت أدوات معرقلة، ولم يكن من المستطاع تحقيق أي تقدم عام في الزراعة إلى أن أمكن استخدام الحديد في آسيا الصغرى حوالي عام ١٣٠٠ق.م.
وكانت ثمة قيود سياسية كذلك. فصعوبة الاتصال والنقل ووجود العديد من الثقافات القبَلية المحلية المتباينة، كل هذا جعل من المستحيل تشكيل وحدات قومية كبيرة. وأولى وحدات سياسية تكوَّنت، واتخذت مدينة مركزًا لها كانت الولايات ذات المدن. وعندما تكوَّن ما يُسمى «بالإمبراطوريات»، مثل ما حدث في مصر ومنطقة سومر وأخيرًا في آشور، تركت هذه الإمبراطوريات الفرعية كثيرًا من الاستقلال الذاتي المحلي، وحال خطر التمرد، وكان خطرًا ماثلًا على الدوام، دون امتداد أطراف المدن إلى مسافاتٍ بعيدة، أو دون أن يكون امتدادًا حقيقيًّا له فعاليته. ومن أعراض ضعف المدن القديمة أنها كانت تحت تهديدٍ مستمر، وكثيرًا ما كانت تُمنى بالهزيمة، ليس فقط على يد البلدان المجاورة، بل كذلك على يد برابرة غير متحضرين. وكانت كل موجة من موجات البرابرة تتجه إلى إعادة بناء المراكز الحضرية لتصبح مراكز زراعية وهكذا، إلى أن يطيح بهم غزاة جدد.
بيد أن أوروبا الغربية على وجه التحديد هي المنطقة التي وصلت فيها المدن وعملية التحضر إلى الحضيض أثناء العصور المظلمة، بحيث بات ضروريًّا القضاء على القيود التي كانت تُعتبَر من الخصائص المميزة للعالم القديم. فقد كانت مدن ما بين النهرين والهند ومصر وفارس واليونان والإمبراطورية الرومانية تعتمد كلها على الاقتصاد الزراعي أساسًا، ولم تكن الصناعة الحرفية تلعب فيها على أحسن الفروض سوى دورٍ ثانوي، بينما كانت المدينة لا تزال تحاول تعويض ضَعفها الاقتصادي عن طريق القوة العسكرية، وتحاول أن تحصل على قوتها بهذه القوة بدلًا من أن تشتريه شرفًا وأمانة. وعندما بدأت أوروبا الغربية من الصفر فإن تطور المدن بها لم يصل فقط إلى المرحلة التي وصل إليها العالم القديم، بل واصلت السير قُدمًا إلى ما بعدها. ولقد واصلت السير بفضل التحسينات التي أُدخِلَت على الزراعة والنقل وفتْح أراضٍ جديدة وطرق تجارية جديدة ثم، وهذا هو الأهم، زيادة النشاط الإنتاجي أولًا في مجال الصناعات الحرفية التي أتقن تنظيمها لدرجة عالية، وأخيرًا في شكل ثوري جديد للإنتاج، حين أصبحت المصانع تُدار بالآلة والوقود العضوي. وهكذا أصبح التحول الذي تحقق في القرن التاسع عشر هو الثورة الحضرية الحقيقية، ذلك لأنها لم تكن تعني فقط ظهور عددٍ قليلٍ من المدن والبلدان المتناثرة، بل تعني كذلك ظهور عملية تحضُّر أصيلة؛ بمعنى أن قطاعًا رئيسيًّا من السكان كان يعيش في البلدان والمدن.
اتجاه العالم من ١٨٠٠م إلى ١٩٥٠م
سارت حركة التحضُّر طوال قرن ونصف بسرعة أكبر من أي وقتٍ مضى، واتسعت بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم. ويرجع ذلك إلى النمو الهائل في التجارة العالمية خلال هذه الفترة، والذي مكَّن سكان المدن من أن يجلبوا قوتهم من منطقة أوسع بكثيرٍ عن ذي قبل. ويمكن القول بحقٍّ إن العالم كله أصبح الآن يمثِّل المؤخرة التي تعتمد عليها المدن في عصرنا هذا. فبريطانيا المعاصرة وهولندا واليابان — مثلًا — لا يسعهم أن يكتفوا بأرضهم الخاصة ليوفوا سكانهم بكل ما يحتاجون إليه في معاشهم. وما زال ساكن المدينة يحتاج إلى عددٍ كبيرٍ من سكان الريف ليمدُّوه بمقومات الحياة، وهو عدد أكبر مما يتصور المرء من حيث النسبة بين سكان المدن والريف داخل كل بلدٍ من البلدان التي حققت مستوى عاليًا من التحضر. وسبب ذلك أن الزراعة — على النطاق العالمي — ما زالت متخلفة تكنولوجيًّا واقتصاديًّا. ومع ذلك فقد لا يكون ثمة شك، سواء بالنسبة لبلدان معينة أو بالنسبة للعالم كله، في أن نسبة سكان المدن إلى أولئك الذين يزرعون لهم طعامهم قد ارتفعت ارتفاعًا ملحوظًا. ويتضح ذلك من خلال نسبة مَن يعيشون في المدن عام ١٩٥٠م، فهي أعلى من أي نسبة أخرى في أي بلدٍ من البلدان التي كانت موجودة قبل العصر الحديث، وهي أعلى — أضعافًا مضاعَفة — من أي نسبة معروفة على نطاق المعمورة.
ويمكن أن نتبيَّن سرعة عملية التحضُّر في أيامنا هذه إذا نظرنا إلى إنجلترا باعتبارها أكثر هذه البلدان تحضرًا، ففي عام ١٨٠١م، وعلى الرغم من أن تعداد سكان لندن وصل — آنذاك — إلى ما يقرب من مليون (٨٦٥٠٠٠)، فقد كان ما يقل عن ١٠٪ من سكان إنجلترا وويلز يسكنون مدنًا يُقَدَّر تعداد سكانها بحوالي ١٠٠٠٠٠ أو يزيد. وفي عام ١٩٠١م كان ما لا يقل عن ٣٥٪ من سكان إنجلترا وويلز يعيشون في مدنٍ يُقَدَّر تعداد سكانها بحوالي ١٠٠٠٠٠ أو يزيد، و٥٨٪ يعيشون في مدنٍ يُقَدَّر سكانها بحوالي ٢٠٠٠٠ أو يزيد. ومع عام ١٩٥١م ارتفعت هاتان النسبتان إلى ٣٨٫٤ و٦٩٫٣ على الترتيب.
وكانت بريطانيا في طليعة التطور الحضري؛ ذلك أنه لا توجد دولة أخرى استطاعت، حتى ما بعد عام ١٨٥٠م، أن تصل إلى نفس درجة التحضر التي وصلت إليها بريطانيا عام ١٨٠١م. وبدأ معدل التحضر في بريطانيا ينخفض فيما بعد تدريجيًّا، بينما استمر المعدل في دولٍ أخرى في الارتفاع حتى حقق مستوى عاليًا. واستطعنا أن نجمع كلَّ ما تيسَّر لنا من بياناتٍ، وأن نجمع كلَّ ما أمكننا من تقديرات نحتاج إليها، وتهيَّأ لنا بذلك الوصول إلى أرقامٍ خاصة بحركة التحضر في العالم ككل ابتداء من عام ١٨٠٠م، وهو أقدم تاريخ وصلتنا عنه تقديرات معقولة. ففي عام ١٨٠٠م كان هناك ما يقرب من ١٥٫٦ مليون نسمة يعيشون في مدن يُقَدَّر تعداد سكان كلٍّ منها بحوالي ١٠٠٠٠٠ أو يزيد. وأصبح ذلك العدد مع عام ١٩٥٠م هو ٣١٣٫٧ مليونًا أي أكبر من العدد السابق عشرين مرة. وواضح أن أكثر هذه الزيادة إنما نشأ عن الهجرة من الريف إلى المدن، وهي أكبر هجرة جماعية في العصر الحديث. وهكذا أصبح لدينا الآن ما يمكن لنا أن نسميه «بالمجتمعات المتحضرة» أو الأمم التي يعيش أغلب سكانها في المدن، والمتوقَّع أنه مع مرور الزمن سيصبح قطاعٌ أكبر فأكبر من البشر أعضاء في مثل هذه المجتمعات.
النموذج الإقليمي لعملية التحضر
يوجد أعلى مستوى لحركة التحضر الآن في شمال غرب أوروبا والمناطق الجديدة التي استوطنها سكان شمال غرب أوروبا وعمِلوا فيها على توسيع نطاق حضارتهم الصناعية. فمنطقة المحيط الهادي هي أكثر المناطق الكبرى في العالم تحضرًا ذلك لأن أستراليا ونيوزيلاندا يمثِّلان الجزأين الرئيسيين اللذين تتكوَّن منهما هذه المنطقة. وأمريكا الشمالية هي الثانية، إذا ما حددناها بحيث تضم كندا والولايات المتحدة فقط. وأقل المناطق تحضرًا هي تلك التي تأثرت أقل من غيرها بثقافات شمال غرب أوروبا، ونعني بها منطقتَي آسيا وأفريقيا. واتجهت حركة سكنى المدن إلى أقصاها حيث وصلت الإنتاجية الاقتصادية إلى أعلى مستوى، أي حيث تحوَّل الاقتصاد إلى اقتصادٍ صناعي رشيد. ويفسر لنا هذا سبب ارتباط عملية التحضر ارتباطًا وثيقًا بأبناء شمال غرب أوروبا وثقافتهم نظرًا لأنهم كانوا هم المسئولين — أساسًا — عن الثورة الصناعية. فإذا كان خمسة عشر بلدًا هي أكثر البلدان تحضرًا، فإنها جميعها — باستثناء اليابان — بلدان أوروبية الثقافة، واستمدت كلها، عدا أربعة فقط، هذه الثقافة من شمال غرب أوروبا أو وسطها.
إلا أن معدل حركة التحضر في البلدان الصناعية القديمة يميل نحو الانخفاض؛ ففي خلال العشرين عامًا، من ١٨٧٠م إلى ١٨٩٠م، بلغت هذه النسبة في البلدان الكبرى في ألمانيا إلى أكثر من الضِّعف، ثم تضاعفت — مرة ثانية — تقريبًا من ١٨٩٠م إلى ١٩١٠م. ولكن ابتداءً من ١٩١٠م إلى ١٩٤٠م لم تتعد الزيادة ٣٦٪. وفي السويد انخفضت النسبة بدرجة ملحوظة بعد عام ١٩٢٠م، وكانت أعلى سرعة حققتها حركة التحضر في إنجلترا وويلز فيما بين عامَي ١٨١١م و١٨٥١م. وحققت الولايات المتحدة أسرع نسبة فيما بين عامَي ١٨٦١م و١٨٩١م، وذلك على عكس الاعتقاد السائد. وكما سبق لنا أن أشرنا فإن حركة التحضر على النطاق العالمي ككل إذا لم يكن قد اعتراها أي وهن فمعنى ذلك — بالضرورة — أن الدول الأقل تطورًا قد بدأت تكشف عن اتجاهٍ أسرع في حركة التحضر ما دام وأن البلدان الصناعية المتقدمة قد بدأت تتراخى فيها هذه السرعة. ويبدو — في الحقيقة — أن هذا الحدث التاريخي الذي نلاحظه بالنسبة للمناطق المتخلفة إنما هو دليلٌ على ارتفاع نسبة التحضر فيها خلال الأعوام الأخيرة. وهذا هو ما حدث في مصر حيث إن نسبة التحضر بها بعد عام ١٩٢٠م أعلى مما كانت عليه قبل ذلك، وفي الهند حيث وصلت عملية التحضر أقصى سرعتها منذ عام ١٩٤١م، وفي المكسيك حيث بدأت تُسرع في هذا الاتجاه منذ عام ١٩٢١م، والفترة التي حققت فيها اليونان أقصى سرعة هي الفترة الواقعة فيما بين عامَي ١٩٠٠م و١٩٣٠م. وقد كان سكان المدن في آسيا — على سبيل المثال — يعادلون ٢٢٪ فقط من سكان المدن في العالم في عام ١٩٠٠م، وأصبحوا ٣٤٪ عام ١٩٥٠م، وكانوا في أفريقيا ١٫٥٪ عام ١٩٠٠م، ولكنهم وصلوا أخيرًا إلى ٣٫٢٪.
وهكذا بدأت الهُوة الفاصلة بين الأمم الصناعية والأمم التي تعيش في مرحلة ما قبل التصنيع تضيق وتتلاشى فيما يتعلق بحركة التحضر.
الاتجاه نحو التوسع الحاضري
إن استمرار عملية التحضر في العالم لا تعني الإصرار على بقاء شيء بذاته كما هو تفصيلًا؛ فالمدينة التي يقطنها اليوم مليون نسمة ليست هي المكان الذي كانت تشغله مدينة تضم نفس العدد عام ١٩٠٠م أو ١٨٥٠م. بل وأكثر من هذا؛ فقد أُضيف شيء جديد مع ظهور المدن العملاقة التي تضم من خمسة إلى خمسة عشر مليون نسمة. فمثل هذه المدن هي مخلوقات القرن العشرين، والفارق الكَمي الصارخ بينها يعني تغيرًا كيفيًّا بالمثل.
ونفس القرى التي مكَّنت عملية التحضر من أن تصل إلى أقصاها هي أيضًا نفسها التي مكَّنت من عملية التشتت الحاضري، وأسهمت عملية التشتت نفسها في تقدم عملية التحضر، عن طريق تكوين تجمعات كبيرة أكثر فاعلية ولها قدرة أكبر على الصمود. فالحركة الظاهرية للاستيطان في المدن وخدمات المدينة والمؤسسات التجارية والصناعات الخفيفة — والتي مهدت لها الإصلاحات التي أُدخِلَت على النقل بالمواصلات ووسائل الاتصال — مكَّنت التجمعات الكبيرة من الاستمرار في النمو دون التعرض لمشاق الزيادة النسبية في الكثافة. وعلى أية حال فإن الحياة والعمل في الحاضرة التي يقطنها اليوم ثلاثة ملايين نسمة أيسر منها في المدينة التي كان يقطنها بالأمس خمسمائة ألف نسمة.
أما كيف سيكون وضع العالم في النهاية بالنسبة لحركة التحضر؛ فهذا سؤال لا سبيل للإجابة عليه. فكما قررنا — سلفًا — ليس ثمة سبب واضح يفسر لنا لماذا لن يكون العالم عالمًا متحضرًا بنفس المستوى الذي عليه أغلب الأقطار المتحضرة اليوم، والتي يعيش فيها ما يقرب من ٨٥–٩٠٪ من السكان في المدن والبلدان التي تضم خمسة آلاف نسمة أو يزيد، ويزاولون مهنًا حضَرية. كما وأن درجة التحضر التي وصلت إليها البلدان المتقدمة الآن لا تزال شيئًا جديدًا تمامًا بحيث لم تتوفر لدينا بعدُ فكرة واضحة تبيِّن لنا كيف سيؤثر العالم على المجتمع الإنساني بعد أن يكتمل تحضُّره. ولكن الاحتمالات المتوقَّعة هي أن الآثار المترتبة على ذلك ستكون آثارًا عميقة.