الهجرة من أوروبا إلى ما وراء البحار في القرنَين التاسع عشر والعشرين١
كتب المقال التالي الأستاذ فرانك ثيستليسويت، وإذا ما قارنَّاه بتواريخ الهجرة الشائعة — والتي يغلب عليها طابع نمطي واحد — سنجد أنه مقال يثير فينا متعة ونشاطًا ذهنيًّا من حيث أسلوبه في معالجة موضوع الهجرة؛ فهو يعالج الهجرة باعتبارها مجموعة من الحركات المتشابكة، والتي تحدث على نطاقٍ واسعٍ داخل «المجال» العالمي وبين القارات المختلفة. ولقد حذفنا من هذا العرض الموجَز للمقال عددًا كبيرًا من المراجع الغنية التي تثري بها هوامش المقال. وقدَّم المؤلف مقاله أمام مؤتمر ستوكهولم للمؤرخين الذي عُقِدَ عام ١٩٦٠م، ونظمته اللجنة الدولية للعلوم التاريخية.
١
وإذا كانت مكتشفات علماء الديموجرافيا والاقتصاد والاجتماع لا تُعَد بديلًا للبحث التاريخي، إلا أننا — مرة أخرى — نجد أن الوضع لا يزال على ما كان عليه منذ خمسين عامًا خلت، حيث نجد أن علماء الاجتماع هم الذين يحرزون قصب السبق، وأن على المؤرخين أن يتعلموا الكثير مما حققه هؤلاء من تقدُّم. وأحد الأسباب التي تدعو إلى ذلك أن كلمة المهاجر التي تُستخدَم — عادةً — إنما هي كلمة مبهَمة وغير محدَّدة إذا ما قارنَّاها بغيرها من الموضوعات التي تتناولها البحوث التاريخية، بحيث يصبح لِزامًا علينا أن نعتمد — بشكلٍ خاص — على الإحصاءات كحُجة في هذا الصدد. وقد تبرر الحُجة الإحصائية في ظاهرها ما كان يقوله المؤرخون القدامى عن «أمريكا مركز الهجرة». ففي خلال القرن السابق على فرض قيود الهجرة إلى أمريكا نجد أن ثلاثة وثلاثين مليونًا من بين خمسة وخمسين مليونًا من المهاجرين الأوروبيين قصدوا جميعهم الولايات المتحدة، ولكن هل نعتبر هذا — يقينًا — تبريرًا للزعم القائل إن تاريخ الهجرة هو تاريخ النزوح إلى أمريكا؟ إلا أننا كلما حاولنا أن نحدد أكثر فأكثر مواصفات هذا الرقم الغفل، بدت لنا الصورة معقَّدة أكثر فأكثر، وأصبحت الولايات المتحدة — من نواحٍ كثيرة — أقل بروزًا داخل هذه الصورة.
- أولًا: فمن المقدَّر أن ثلث من هاجروا إلى الولايات المتحدة قد هاجروا منها ثانية؛ وهذا من شأنه أن يقلل لدرجة كبيرة من شدة ضغط الهجرة عليها.٧ ومع ذلك ففي الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية تخلَّف عن الهجرة الواسعة عبر المحيطات ما يقرب من عشرين مليون نسمة في البلدان الواقعة فيما وراء البحار من مواليد أوروبا؛ استوطن منهم الولايات المتحدة ما يقرب من اثني عشر مليونًا، وهي نفس النسبة التي توازن العدد الإجمالي.٨
- ثانيًا: كان في النصف الغربي للكرة الأرضية بلدان أخرى تستقبل المهاجرين، وكان حجم الهجرة إليها أهم — نسبيًّا — من حجمها إلى الولايات المتحدة. فكان حجم الهجرة إلى الأرجنتين ٥٫٤ ملايين، والبرازيل ٣٫٨ ملايين، وكندا ٤٫٥ ملايين.٩ وإذا اتخذنا كثافة الهجرة كمعيارٍ أكثر دلالة من الرقم المطلق الفعلي سنجد أن نصيب الأرجنتين من المهاجرين أكبر من حيث العدد قياسًا بتعداد سكانها، وأن كندا تشغل — كقاعدة عامة — مرتبة أعلى من الولايات المتحدة. وفي العقد الأول من القرن العشرين ١٩٠١–١٩١٠م كانت معدلات الهجرة لكل ألف كما يلي: الولايات المتحدة تكاد تزيد على الألف، وكندا ١٥٠٠، والأرجنتين ٣٠٠٠. ومن ثَم فقد يبدو من هذه النسب أن بلدان أمريكا الجنوبية، والأرجنتين بوجه خاص، أهم بكثيرٍ من الولايات المتحدة في نظر مَن يعنى بدقة بضغط المهاجرين على البلد المستقبِل لهم. وعلاوة على ذلك فإن بلدان أمريكا الجنوبية تختلف عن أمريكا الشمالية من حيث إن عدد المجموعات السلالية التي نزحت إليها واستوطنتها كانت مجموعات محدودة للغاية. فقبل عام ١٩٠٠م كان عدد الإيطاليين الذين نزحوا إلى البرازيل يفوق — كثيرًا — عدد النازحين إلى الولايات المتحدة، وكانوا يشكِّلون ٧٠٪ من عدد المهاجرين إلى الأرجنتين، وما يزيد على ٦٣٪ من المهاجرين إلى البرازيل. وكان ثلث سكان الأرجنتين خلال الجيل التالي لعام ١٨٩٥م من الإيطاليين؛ وكانوا يؤلفون ثلث سكان ولاية ساو باولو في البرازيل عام ١٩١٠م. ومثل هذا التركز لمجموعة ذات حضارة معينة يمثِّل صورة مقارنة لها أهميتها بالنسبة للموقف في أمريكا الشمالية. مثال ذلك أن الإيطاليين — بسيطرتهم على مهنة البناء وهندسة المعمار — أكسبوا مدن أمريكا الجنوبية طابعًا إيطاليًّا، ومِثل هذا التأثير الناجم عن الهجرة لا نجد له ما يناظره في الولايات المتحدة.
ولسوء الحظ أننا لا نعرف سوى النَّزر اليسير عن هذا الجانب الهام من تاريخ الهجرة إلى ما وراء المحيط. ماذا كان معدل سرعة الهجرة العائدة؟ ماذا كانت نسبة «المترددين» الذين اعتادوا التنقل من وإلى البلد الذي يهاجرون إليه، ونسبة «الجوالة» الذين يتنقلون من بلدٍ يستقبلهم إلى آخر؟ ماذا كانت خبرة أولئك الذين عادوا من مهجرهم واستقروا في وطنهم الأصلي الذي نشئُوا فيه؟ هذه المجالات كلها التي تستحق الكشف عنها إنما هي الوجه الآخر للقمر؛ إلا أن ما يتيسَّر لنا أن نجمعه من المصادر الوصفية يعطينا صورة على درجة كبيرة من الأهمية والتعقيد.
فمن الواضح في البداية أن نسبة لا يُستهان بها من المهاجرين العائدين كانوا من «المترددين» الذين اعتادوا القيام بهجراتٍ وقتية منتظمة. ففي عام ١٩٠٤م كان ١٠٪ من المهاجرين الإيطاليين الذين دخلوا الولايات المتحدة هم ممن سبق لهم الهجرة.
وكان المهاجرون من بين العديد من المجموعات السلالية الهامة هم من العمَّال الموسميين الذين كانوا يؤجرون أنفسهم للعمل على ضفتَي المحيط. فالمهاجر الإيطالي المسمَّى جولو ندرينا (العصفور) هو فلاح اعتاد أن يترك إيطاليا في نوفمبر بعد الحصاد ويرحل إلى حقول القمح والكتان في منطقة كوردوبا الشمالية وسانتافي، ثم يعمل في حصاد القمح فيما بين شهرَي ديسمبر وأبريل في كوردوبا الجنوبية وبونيس آيرس، وفي شهر مايو يعود إلى بيدمونت لزراعة حاصلات الربيع. ولم تكن هذه الحركة الموسمية الكبرى تختلف عن هذا الفيض من عمال الحصاد المكسيكيين الذين يتدفقون على حقول القمح في مونتانا وكاليفورنيا إلا من حيث استخدام الزوارق التي تعبُر بهم المحيط. وكان عمَّال البناء ينزحون من فينيسيا إلى الولايات المتحدة كل عام في شهر مارس، ويعودون في شهر أكتوبر ليعاودوا هجرتهم في الربيع التالي. واعتاد هؤلاء أن يسافروا، ولكن طبقًا لنظامٍ أقل تعقيدًا من النظام الذي اعتاد عليه عمَّال طلاء وتزيين المنازل من الإنجليز الذين ألِفوا السفر إلى الولايات المتحدة كلَّ ربيعٍ لمزاولة مهنتهم هناك ثم يعودون إلى اسكتلندا صيفًا قبل أن تنزح العائلات الإنجليزية شمالًا ثم يرحلون إلى إنجلترا في الخريف بينما موسم الصيد على الأبواب. وعامل المناجم — الذي يعود إلى اسكتلندا ليقضي الشتاء متسكعًا، ينفق الدولارات التي اكتسبها خلال الصيف عن طريق العمل في مناجم الفحم في جبال الأبلاش — كان يخاطر باحتمال أن يفسد عليه فرصته في العمل فلاحٌ وافدٌ من بولندا ليجني بعض الدولارات ويشتري بها أرضًا في قريته التي وفد منها. كما وأن عامل الغزل الذي اعتاد التردد بين بولتون ولانكشير وفول ريفير وماسوشيت كان يجد نفسه وقد استُبدِلَ بعاملٍ كندي من أصل فرنسي يطمع في العودة إلى مقاطعة كويبيك وقد حصل على قليلٍ من المال. وكان من شأن هذا الوضع القلِق أن يُرغم المهاجر — أحيانًا — على الرحيل، والتنقل من بلدٍ إلى آخر من البلدان المستقبِلة، مثلما كان يفعل الإسكافي الإيطالي في بنسلفانيا، الذي عمل لسنوات عدة في البرازيل، أو مثلما فعل والد المطرب شارلس فورت وهو من مواليد لندن، وعامل من عمال الصلب الإيطاليين، وكان يعمل في بتسبرج؛ حيث عرف هناك أهمية ينبوع المياه الغازية. وكان يدخل الولايات المتحدة كل عام، قبل الحرب العالمية الأولى؛ ما بين خمسة آلاف وعشرة آلاف من المهاجرين الإيطاليين الذين كانوا يفدون إليها من بلدان أخرى غير إيطاليا ذاتها. ومع ذلك فإن هذه الطيور المهاجرة لم تزودنا إلا بمعلومات جزئية عن أنماط الهجرة المعقَّدة إلى ما وراء المحيط الأطلسي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أو كما عرضها أحد من يوثَق بحكمه حين قال:
ولو قُدِّرَ لنا أن نفعل ما يفعله علماء الطيور الممتازون، وثابرنا على وضع حلقاتٍ حول «طيور الهجرة» فإننا سنكتشف أن نمط الهجرة معقَّد إلى حدٍّ كبير. ويجب ألا نضع في الاعتبار الحركة في اتجاهٍ واحدٍ فقط من أوروبا إلى ما وراء البحار، ولا الحركة المتقابلة بين الموطن الأصلي والبلد المستقبِل، بل ولا حتى بين البلدان المستقبِلة، بل يجب كذلك أن نضع في اعتبارنا الهجرة الواسعة داخل حوض البحر الأبيض المتوسط وداخل أوروبا ذاتها.
وخلاصة القول أن الهجرة عبر المحيط لم تكن سوى وجه واحد يثير الحيرة لنمطٍ معقدٍ للغاية لتيارات المد التي لم تكن تقتصر على هجرة المستوطنين النرويجيين إلى مزارع مينو سوتا والمهاجرين الأيرلنديين من وإلى الولايات الألمانية الشرقية ومناجم الفحم في مناطق الأبلاش وعمال الصلب في سيليزيا والعمال الإيطاليين الذين كانوا يتنقلون جيئةً وذهابًا بين شيكاغو وايلينوا وهوميكورت؛ وفي فرنسا عمَّال الفنادق في تنقلهم من وإلى لوزان ونيس وريو دي جانيرو، والاسكتلنديين من وإلى مارسيليا وسانتوس. وهكذا نجد أننا بعيدون كل البعد عن هذه القضية الساذجة المسماة «بالحُمى الأمريكية».
٢
وثمة مِهن بذاتها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأحياء معينة، وإذا أحطنا بهذه المهن فإن ذلك سيخلِّصنا — نهائيًّا — من الأسلوب النمطي الخاص بالكتلة المتجانسة من «الفلاحين». ومن أهم القسمات المميزة والمثيرة لعمليات التحليل المتتالية للأجانب الذين استوطنوا الولايات المتحدة منذ ١٩١١م هو مدى ارتباط مجموعاتٍ سلالية مختلفة بمهنٍ معينة. وعلى الرغم من أن هذا الارتباط المهني إنما كان — جزئيًّا — نتيجة لفرص العمل المتاحة، إلا أنه في أغلب الأحوال كان يرتبط بظروف العمل في البلد الأم. وهكذا نجد أن العمَّال غير المهرة الذين وفدوا من جنوب إيطاليا كانوا يشتغلون في الولايات المتحدة في ميدان التشييد والصناعات الثقيلة. ولكنهم كانوا أيضًا يتجمَّعون في مهنٍ مستقلة لها خصائصها المميزة. فالإيطاليون، ومن بعدهم اليونانيون الذين سلكوا طريقًا مماثلًا، أسَّسوا أول ركيزة لهم ليثبِّتوا عليها أقدامهم في المدن الأمريكية، وذلك بأن عملوا كماسحي أحذية. وكانوا يحصلون بذلك على بضعة دولارات نتيجة تجوالهم في الطرقات، وهيَّأ لهم ذلك الحصول على النفقات الخاصة بشراء عربة يدٍ لبيع الفاكهة أو المرطبات، ثم محال لبيع الآيس كريم أو الزهور حتى يتمكَّنوا أخيرًا، بفضل هذا كله، من فتح مطعم أو العمل في الفنادق. وقد تحوَّل أربعة أخماس المهاجرين الذين وفدوا إلى أمريكا من لورينزانا في بازيلكاتا إلى ماسحي أحذية.
ويرجع هذا التركُّز — جزئيًّا — إلى غريزة التبعية للقائد، والتي كان يستغلها السادة من مقاولي الأنفار الإيطاليين أو اليونانيين الذين كانوا يجمعون الفتيان من أحيائهم لتشغيلهم طبقًا لعقودٍ شكلية، وغالبًا ما تكون عقودَ عمل مجحفة. ورغم ذلك فقد كان في استطاعة مقاولي الأنفار في الولايات المتحدة أن يقوموا بنفس الدور لأن نفس هذا النظام كان متَّبَعًا من قبل في كلٍّ من جنوب إيطاليا واليونان؛ إذ كان المتَّبَع في الأحياء الرعوية الفقيرة في البيلو بونيز أن يرحل الطفل في سن العاشرة والثانية عشرة إلى مدن اليونان أو تركيا ليكتسب بعض النقود لأبوَيه، عن طريق العمل كماسح أحذية أو صبي في مقهى أو محل بقالة، وغالبًا ما كان يعمل في ظروف قاسية. واعتاد مقاولو الأنفار أن يجمعوهم من هذه الأماكن ليرسلوهم إلى الولايات المتحدة.
وكان هذا العمل من الأعمال المنحطة، والتي يستطيع أي إنسان من الحقول أن يؤديه. ومع ذلك فإن المهاجرين من «الفلاحين» لم يقتصر عملهم على هذه المهن وحدها. وكان الإيطاليون يمثِّلون الجانب الأكبر من الهجرات. هذا ولو أن ما لا يقل عن ثلث المهاجرين الإيطاليين الذين هاجروا إلى الأرجنتين في الفترة التي شهدت وفرة في إنتاج الحبوب، فيما بين عامَي ١٨٧٦م و١٨٩٧م، لم يكونوا من الفلاحين بل من الحرفيين، وكان من بين هؤلاء عمَّال البناء والنجارون وعمَّال المحاجر والبستانيون وعمَّال الطوب وعمَّال الطلاء بالملاط الذين أعطَوا مدن أمريكا طبعها الإيطالي. وكان من بينهم كذلك قباطنة السفن من جِنْوَا والملاحون والبحَّارة الذين كانوا يشتغلون بعمليات الشحن والنقل النهري. وكان ثمة تركُّز مماثل للحرفيين في الولايات المتحدة. وهنا أيضًا كان الأسلوب المتَّبَع محدَّدًا من قبل أن يعبُر أيٌّ من المهاجرين المحيط الأطلسي. وكان العمال المهرة يشكِّلون عنصرًا هامًّا في الهجرة الإيطالية إلى سويسرا وفرنسا، ثم أخيرًا إلى ألمانيا وخاصة العمال الذين كانوا يفدون من فريولي، وهي مصدر للمهاجرين، بل والمصدر الوحيد؛ حيث بدأ الصفوة من سكانها يفكرون مليًّا في حدود الهجرة المؤقتة. وبدأ آلاف العمال يستوطنون فينسيا شتاءً، وهم العمال الذين فشلوا في الحصول على عملٍ دائمٍ هناك، ولم يجدوا أمامهم من سبيلٍ إلا الهجرة. ومن ثَم كان الغلمان في فريولي يتدربون — عن قصدٍ — على العمل في قطع الحجارة أو النجارة لكي يستفيدوا من النقص الذي تعاني منه فرنسا في هذه المهن. كما وأن الآباء في كازيرتا أو بازيليكاتا كانوا يعِدُّون أبناءهم — بشكلٍ مباشر — للعمل في صناعة الزجاج في ليونز. وهكذا كانت هناك علاقة وثيقة في أغلب الأحيان تربط ما بين الهجرة والمهنة؛ وكان هذا هو الوضع القائم في أوروبا قبل أن تصبح أمريكا مركز جذب لهم.
٣
إن هجرة التجار تسترعي انتباهنا للبحث عن الجوانب الاقتصادية للموضوع. وبالرغم من الحقيقة الثابتة من أن هجرة القرن التاسع عشر إنما كان الحافز إليها أساسًا حافزًا اقتصاديًّا، إلا أن المحدِّدات الاقتصادية الفعلية إنما كانت تُصاغ صياغة مبهَمة داخل الإطار الذهني القديم؛ إذ كان الباحث يجد نفسه بصدد قائمة تحوي عوامل «جذب» و«دفع» والتي كان يتركها — آنذاك — في خلفية تفكيره بسبب الانهماك في الاعتبارات الثقافية والسياسية التي تتضمنها عوامل التمثُّل. وفهم الهجرة الحِرفية هو الطريقة الصحيحة للوصول إلى تعريفٍ أكثر ثراءً. فأولًا كانت الطرق التجارية هي التي تحدد هذه الهجرة. وبالنسبة لأمريكا الشمالية فقد حددتها الطرق التجارية التي تبدأ من الجزر البريطانية. فمن الحقائق الأساسية أن المهاجرين كانوا — أساسًا — يمثِّلون حمولة لها قيمتها بالنسبة للسفن العائدة غير محمَّلة بالقطن الخام أو أخشاب البناء، وقد بدأت هذه الحقيقة الآن فقط تلقى ما تستحقه من اهتمامٍ. وكانت شركات الشحن من كونارد وأستر-أميريكان إلى الخطوط اليونانية الحديثة تعتمد في تكوين ثرواتها على المهاجرين؛ وظلَّت التجارة ردحًا طويلًا من الزمان في يد البريطانيين، واستمرت — إلى حدٍّ ما — تمرُّ عبر المواني البريطانية بعد أن انتقلت مناطق تجميع المهاجرين إلى وسط وشرق أوروبا. وكان الإتجار في المهاجرين تطويرًا للتجارة الأنجلو أمريكية الواسعة النطاق، والتي وحَّدت بين أمريكا وشمال غرب أوروبا في وحدة اقتصادية للمحيط الأطلسي.
ومفهوم اقتصاد المحيط الأطلسي مثله كمثل تاريخ المحيط الأطلسي، كلاهما حديث النشأة تمامًا، إلا أن لهما أهمية كبرى لفهم تاريخ الغرب في القرن التاسع عشر. والاصطلاح نفسه له ما يبرره، ذلك لأنه لا يقتصر على وصف أحد ظروف التجارة العالمية، أيًّا كان هذا الظرف، بل الظرف الذي كانت تتمتع فيه عوامل الإنتاج بحرية حركة لدرجة كبيرة بحيث يصعب علينا أن نمايز بين البلدين الرئيسيين المعنيين وهما بريطانيا والولايات المتحدة كنظامين اقتصاديين منفصلين، كل منهما مغلق على نفسه. فكان اقتصاد المحيط الأطلسي يتعلق باستغلال العمل ورأس المال الأوربيين لمراعي شمال أمريكا بغية الحصول على منتجات رخيصة الثمن من القطن والقمح لأوروبا، وفتح أسواقٍ للصناعات الأوروبية فيما وراء البحار. وكانت هجرة العاملَين التوءمَين: الاستثمار الرأسمالي والعمل، هي المفتاح لهذا الاقتصاد؛ كما كان المهاجرون هم العنصر الجوهري لتشغيله. أمَّا كيف سارت هذه على وجه الدقة فما زال موضع بحثٍ وجدالٍ، وتمَّت على يد الاقتصاديين الأمريكيين أول محاولة لتهذيب الفروض القديمة عن الهجرة، وهي فروض غير ناضجة عن ميكانيزم الدفع للتضخم السكاني والاستغلال في أوروبا وميكانيزم الجذب للفرص السانحة على الأرض الأمريكية. ويلزم هنا أن ننوِّه بمبادرة الباحثين الأمريكيين من غير المشتغلين بالتاريخ. وكانت محاولتهم هذه نتاجًا فرعيًّا لبحثهم في عمليات الدورة التجارية منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا خلت. ووجد جيروم أن ثمة ارتباطًا مباشرًا بين الذبذبات التي تتعرَّض لها الهجرة إلى الولايات المتحدة والدورة التجارية الأمريكية القصيرة المدى. وأخيرًا أثبت كلٌّ من كوزينتس ولوبان أن ثمة ثلاث ذبذبات طويلة تعرَّضت لها الهجرة الحقيقية فيما بين عامَي ١٨٧٠–١٩٤٥م، والتي لازمت في اتجاهها الذبذبات في دَخْل الفرد.
إلا أن هذه التقديرات التي تقوم على أساسٍ إحصائي ليس لها غير فائدة محدودة لمؤرخي الهجرة. ذلك أن عوامل «الجذب» تفعل أشياء كثيرة، وتضع موضع الشك فكرة أن أمريكا هي مركز الهجرة. ومع ذلك فقد قام برينلي توماس، منذ عهدٍ قريب، بمحاولة جديدة تتسم بأنها أكثر طموحًا على المدى الطويل وأكثر قناعة لوضع نظرية تربط حركة الهجرة بنشاطٍ اقتصادي آخر. ففي دراسته عن بريطانيا واقتصاد المحيط الأطلسي حاول توماس أن يبيِّن لنا أن الحركة الإيقاعية للنمو الاقتصادي في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمسار الهجرة بين البلدين. وخلاصة القول أنه كشف عن وجود علاقة عكسية بين الاستثمار في أمريكا ومستوى الدخل في بريطانيا من ناحية، وبين الهجرة وتصدير رأس المال من ناحية أخرى، كما كشف عن علاقة موجَبة بين الهجرة والاستثمار والدخل في الولايات المتحدة، ويناظر ذلك تنافرٌ بين معدلات النمو الاقتصادي على جانبي المحيط الأطلسي الشرقي والغربي. وعلى الرغم من أن بعض آراء توماس الإحصائية هي موضع جدلٍ بطبيعتها، إلا أن عمله هذا يمثِّل خطوة كبيرة إلى الأمام بالنسبة لدارسي الهجرة؛ إذ كشف أولًا عن وجود ارتباطٍ غير بسيطٍ بين الزيادات التي تطرأ على النشاط التجاري في أمريكا وبين الهجرة: فقبل عام ١٨٧٠م تقريبًا طرأ ارتفاعٌ على النشاط التجاري في أمريكا في أعقاب ارتفاع الهجرة. والنتيجة التي نخرج بها من ذلك، بالنسبة لهذه الفترة على أقل تقديرٍ هي أن عوامل «الدفع» في أوروبا كانت هي القوة الدافعة للهجرة أكثر من عوامل «الجذب» في الولايات المتحدة. ولكن ما هو أهم أنه حين ركز بحثه على اقتصاد المحيط الأطلسي خرج بنظرية اقتصاد الدولتين، وهي نظرية أكثر تعقيدًا بيد أنها أكثر فائدة للمؤرخ من النظريات السابقة، وهي نظريات اقتصاد الدولة الوحيدة التي تُسلِّم بمركزية أمريكا. فهو يبرهن لنا على أن الميكانيزم إنما هو — على أقل تقدير— عملية ذات اتجاهين، ولا سبيل إلى فهمه إلا إذا وضعنا في اعتبارنا ظروف كلٍّ من البلد الذي تبدأ منه الهجرة، والبلد الذي يتجه إليه المهاجرون، وأن نضع في اعتبارنا كذلك كل العوامل المعقَّدة التي تتفاعل مع بعضها، وأن العمل ليس إلا عاملًا واحدًا فقط من بين هذه العوامل التي أسهمت في تطوير اقتصاد حوض شمال المحيط الأطلسي.
والطريقة التي يتناول بها توماس موضوع الهجرة تتيح لنا إمكانية ربط الهجرة بديناميات النمو الاقتصادي على نطاقٍ أكثر شمولًا؛ فرغم أنه يقدم لنا شواهد قيِّمة تعزِّز آراءه بالنسبة للسويد وبلاد الدومنيون البريطانية، إلا أن المملكة المتحدة والولايات المتحدة قد ظلَّتا تمثِّلان البؤرة التي يتركز فيها اهتمامه. ونحن نستطيع أن نتخيل الزمن الذي يتحقق فيه تطور تكنيكي يمكِّننا من أن نستوضح الكثير مما غَمُض علينا بالنسبة لميكانيزم الهجرة، ولن يقتصر ذلك على الهجرة في حوض شمال المحيط الأطلسي فقط، بل يمتد إلى البلدان الأخرى التي كانت مسرحًا للهجرة، وكذلك فهم الروابط المعقَّدة التي تربطها ببعضها البعض.
وفضلًا عن ذلك فثمة علامات تدل على أن هذه الهجرة إلى ما وراء المحيط بدأت تضعُف قبل أن تفرض أمريكا قيودًا على الهجرة إليها. مثال ذلك شدة الهجرة — أو الحركة العالمية للعمل — أي نسبة المهاجرين لكل ألفٍ من السكان، فقد انخفضت لدرجة ملحوظة فيما قبل عام ١٩١٤م في كل بلدان الهجرة والولايات المتحدة، كما وأن توقف الهجرة إلى الولايات المتحدة لم يقابله أي تحوُّل في الهجرة إلى البلدان الأخرى.
وبعبارة أخرى فإن هذه الزاوية الجديدة، التي أدعو إلى أن ننظر من خلالها إلى الموضوع، تنقل البؤرة من مناطق الحدود إلى العواصم، أي من عوامل «الجذب» إلى عوامل «الدفع»، وخاصة إلى المؤثرات الديموجرافية التي قال عنها برينلي توماس إنها قد تكون العنصر الدينامي في نمو اقتصاد المحيط الأطلسي. ومن ثَم ينبغي علينا أن نبحث عن الأسرار الكامنة للهجرة، من خلال تأثير هاتين «الثورتين» اللتين ترتبطان ببعضهما ارتباطًا وثيقًا، وهما الثورة الديموجرافية والثورة الصناعية.
وليس ثمة مجال للدخول في التعقيدات الذائعة عن الثورة الديموجرافية، ومع ذلك فيبدو أن نقصًا في نسبة الوفيات دون أن يقابله نقص في نسبة المواليد، كعامل تعويض، هو الذي أدَّى إلى ارتفاع نسبة الزيادة الطبيعية مبتدئًا من شمال غرب أوروبا، ومتجِهًا شرقًا وجنوبًا حسب تأثر المجتمعات بالتقدم في ميدان الطب والغذاء. ورغم أن هذه الزيادة أمكن تعويضها بأنواعٍ جديدة من الأطعمة ذات القيمة الغذائية، خاصة البطاطس، إلا أن سكان الريف كانوا يعيشون على الكفاف. وكانت نتيجة ذلك ميلًا خفيًّا إلى الهجرة تحوَّل في بعض الأحيان، ولكن بدرجاتٍ متفاوتة، إلى هجرة حقيقية. ولم تحدث هذه الهجرة في أوقات الكوارث فقط التي نجمت عن فساد محصول البطاطس، بل عندما تيسَّرت وسائل النقل والمواصلات إلى المواني وإلى بلاد ما وراء البحار. ومن ثَم فإننا نجد في بلدٍ تلو الآخر، ابتداء من أيرلندا إلى إيطاليا ثم اليونان أخيرًا، مُعامل ارتباط مباشر بين معدلات الهجرة ومعدلات الزيادة الطبيعية السابقة عليها بعشرين عامًا. ويمثِّل هذا المُعامل هجرة النسبة الزائدة من بين مجموعة السكان الذين بلغوا من العمر الحدَّ الذي يسمح لهم بدخول سوق العمل. ففي النرويج — مثلًا — نجد منحنى الهجرة يرتفع ارتفاعًا كبيرًا مرتين، أحدهما في عام ١٨٣٠م، والثاني في عام ١٨٦٠م. وحدث هذا الارتفاع وقتما كان هناك عددٌ كبيرٌ جدًّا من كبار السن تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والثلاثين عامًا. وتأكدت صحة هذا الرأي نظرًا لأن الغالبية الساحقة من المهاجرين كلهم من الشباب. وإذا نظرنا إلى عدد المهاجرين في الولايات المتحدة خلال الفترة التي تيسَّر لنا فيها الحصول على أرقامهم، نجد أن ما بين ٨٦ و٩٥٪ منهم دون الأربعين. وكان المهاجرون البريطانيون، في مطلع القرن العشرين، دون الواحد والثلاثين من العمر. وتجلى شيطان مالتوس بمظاهره المختلفة في بلدٍ بعد الآخر عبر القارة الأوروبية دون النظر إلى البنية الاجتماعية الريفية أو قوانين الإرث وحيازة الأرض أو ظروف الزراعة أو سياسة مُلاك الأرض.
ومع ذلك فإن تضخم السكان في الريف لم يؤدِّ — بذاته — إلى الهجرة الجماعية مثلما كان الوضع في أيرلندا عام ١٨٣٠م أو اليونان عام ١٨٩٠م. فقد كانت هناك شروط أخرى ثلاثة حدَّدها هانزن بما يلي: حرية الحركة، والرغبة في الحركة، ووسائل الحركة.
وتُعتبَر وسائل الحركة أسهل هذه الاصطلاحات تعريفًا. إلا أن الطرق والسكك الحديدية والقنوات والسفن التجارية والبريد والبرق والبنوك ومكاتب السياحة، والتي كان يستخدمها المهاجر في سفره، كانت في ذاتها نتاجًا لقوى حطمت الوجود المغلَق للريف الأوروبي، وأمدَّت الفلاح بحرية الحركة. ويتمثَّل جانبها السلبي في القضاء على العبودية، والإيجابي في إتاحة فرص العمل، كما أمدَّته بالرغبة في الحركة التي تولَّدت عن اتساع الآفاق أمامه، وضِيق الفرص المتاحة داخل وطنه. وارتبطت الهجرة في الحقيقة ارتباطًا وثيقًا بنشاط المواصلات والأسواق والتجارة ورأس المال، والذي يمثِّل الطور الأول في إقامة اقتصادٍ حديثٍ. ونلمس ذلك بالنسبة لاسكندنافيا خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر، وبالنسبة لإيطاليا خلال الثمانينيات والتسعينيات من نفس القرن. وكان تفتُّت المجتمع العرفي بفعل القوى التجارية شرطًا أساسيًّا للهجرة. وأدى هذا إلى حدوث نمو ثوري في الحركة الاجتماعية، والتي حوَّلتها فرص السفر والحصول على وظيفة إلى ميلٍ نحو الهجرة، ومن ثَم فقد كانت الهجرة في حقيقتها أحد جوانب الحركة الاجتماعية.
بيد أن القوى الدينامية التي خلقت الميل إلى الهجرة في وقتٍ ما هي أيضًا التي ساعدت على تنمية الصناعات التي هيَّأت فرص العمل، ومن ثَم لم تعد الهجرة أمرًا لا مناص منه. وهنا بدأت الهجرة إلى ما وراء المحيط في التناقص. وكانت بريطانيا تمتص — حتى عام ١٨٥٠م — غالبية صغار مُلاك الأراضي الإنجليز ممن كانت ظروفهم تهيئهم للهجرة، كما بدأت منذ عام ١٩٠٠م تمتص الكثيرين من الأيرلنديين الذين كانت ظروفهم تهيئهم للهجرة كذلك إلى أمريكا. وفي السبعينيات من القرن التاسع عشر بدأت الأخشاب النرويجية والمعادن السويسرية تشق طريقها ضمن الهجرة الاسكندنافية، ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا بدأ مسارها يتحدد بفعل جاذبية العمالة في أمريكا، والتقدم غير المتعادل للصناعة الاسكندنافية، إلى أن نضب هذا المَعين عشية الحرب العالمية الأولى. وتُعتبر الهجرة الألمانية من أكثر هذه الحالات وضوحًا؛ فقد بلغت أقصاها بالنسبة للغرب والجنوب الغربي في الخمسينيات من القرن التاسع عشر، وبالنسبة للبلد ككل في منتصف الثمانينيات مع بداية الصناعات الثقيلة في هذا العقد من القرن التاسع عشر. بيد أن العمالة لم تكن هي الوجه الوحيد لعملية التحضر والتصنيع التي أضعفت من جاذبية الهجرة؛ إذ كانت حياة الحضر أكثر استهواءً، نظرًا لرخص أسعار اللحوم والحبوب في بلدان ما وراء البحار، فضلًا عن تزايد عدد مهن ذوي الياقات البيضاء. كما وأن ظهور مفهوم رفاهية الدولة بالإضافة إلى التعليم العام والتأمين ضد البطالة والشيخوخة؛ كل هذا طرد المخاوف القديمة عن الخدمة العسكرية. ووجد الفلاح في المفهوم الجديد عن القومية تعويضًا كاملًا وممتازًا لما خسره من إحساسه بذاتيته في قريته. وأدى هذا المفهوم إلى وقوف الدولة ضد الهجرة. ثم هناك أخيرًا انخفاض نسبة المواليد، والتي كانت زيادتها، بالإضافة إلى ما صاحبها من انخفاضٍ في نسبة الوفيات، سببًا في انطلاق الثورة الديموجرافية. إلا أن انخفاض نسبة المواليد أدى إلى تخفيف الضغط على السكان، والذي كان الشرط الكامن للهجرة، وأدى بالتالي إلى خفض معدلات النمو السكاني إلى ما دون المستوى الذي يعوض الفاقد من السكان. وهكذا فإن الهجرات الكبرى عبْر المحيط في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قد حدثت خلال طور انتقالي من أطوار التطور الأوروبي، بين تفتيت المجتمعات الريفية القديمة وبداية عصر التصنيع الحديث.
ل. بومان، «حدود استيطان الأرض»، نيويورك، ١٩٣٧م.
ج. إسحاق، «الهجرة العالمية والاتجاهات الأوروبية»، مجلة العمل الدولية ع. ٦٦، ١٩٥٧م، ص١٨٦–١٩١.