وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ
آية كريمة، تذهب النفس فيها مذاهب شتى، ولكني أريدها لمعنًى خاص: هو الحكم على الأقوال والأفعال. وبيان ذلك أننا ننظر غيرنا يقول، أو يعمل، فنحكم عليه بالبر أو الفجور، فتارة نُخطئ، وتارة نُصيب وأكثر ما نكون شططًا إذا حَكَمْنَا على القول أو الفعل، من غير أن نحيط خبرًا بظروف القائل أو الفاعل! وهي وحدها محور الخير والشر والخطأ والصواب، فليست كل كلمة «يكفر قائلها» — كما يقول الفقهاء — بمكفرة ما لم تشهد القرائن على أن قائلها جاحد عنيد، وليست القصائد الخمرية شهادةً على قائلها بالإثم، ولا قصائد التشبيب رميًا لصاحبها بالفسوق، ولكن الظروف وحدها هي الحكم في أن الشاعر فاسقٌ أو سكير.
ومتى عَوَّدْنَا أنفسَنا البحث عن الحالة النفسية للقائل قبل البحث عن مدلول ما قال، واجتهدْنا في تعرُّف ظروف الفاعل قبل تأمُّل ما فعل من منكر أو خبيث؛ فقد تُرفع التهمة عن كثير ممن حُكم عليهم بالكفر أو المجانة لكلمة ظاهرها الكفر، أو فعل ظاهره المجون! ونحن أولى الناس باتباع هذه الطريقة؛ لأنها أصلٌ من أُصول الدين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
قال — عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، وليس لمتعنِّتٍ أن يرد علينا بأن هذا خاصٌّ بأعمال الخير لا الشر، فإنه كما يجوز أن يفسد الخير حين يراد به شر، يصلح الشر حين يراد به خير، وتبقى التبعة على من يقصرون في إرشاد الناس إلى نتائج أعمالهم، فإني أعتبر العمل بنتيجته، وما لها من الضر أو النفع، وقد أوضحتُ ذلك في كلمة «أصول الأخلاق» التي نشرها أبو الهول.
وإذا أباح لك حُسنُ النية أن تحكم على رجل بالصلاح لغلبة الخير على أقواله وأفعاله، من غير أن تُلِمَّ إلمامة بالأسباب القريبة والبعيدة لِمَا يعمل وما يقول، وقد تكون نيته سيئة فيحبط عمله؛ فإن من الواجب أن تنظر بدقة في ظروف مَنْ ساء قوله وعمله؛ فقد تكون نيته حسنة، فيرضى عنه عَلَّامُ الغيوب.
إن علماء النقد في الغرب لا يحكمون على خلُق المؤلف إلا بعد أن يتبينوا العصر الذي عاش فيه، والبيئة التي أحدقت به فنال منها ونالت منه؛ لاحتمال أن تسود كتابته فكرةٌ كانت في عصره حسنةً، وهي في عصرنا سيئةٌ، فنحكم عليه بما هو منه براء.
ولنرجعْ إلى الآية التي صدَّرْنا بها هذا المقال: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ؛ فإني لا أكتم القراء أني وجدت في مذكراتي كلمة لو قرأتها لغيري الآن لأنكرتها عليه، مع أني كتبتها من قبل وأنا نقي القلب خالص الضمير، وتلك الكلمة تبدو كأنها خطابٌ مفتوحٌ لأهل الجمال.
وهي سذاجة تمثل عهدًا من عهود الصبا، خيل إليَّ فيه أن الحسن ملك للعيون تستمتع به وهي آمنةٌ مطمئنةٌ، لا يمانعها فيه غيور، ولا يحجبها عنه ضنين، وليس في مقدوري الآن أن أكتب مثل هذه الكلمة؛ لأني فقدت تلك السذاجة الغريبة، واطلعت من الناس على بلايا ومناكر، يلؤم من بعدها الكريم. وسأفرض الآن أني في العهد الأول من عهود الشباب، وأن الناس كما كنت أحسبهم منذ سبع سنين أطهارًا بررة، لا يُحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يتقولون الأقاويل.
فما لأهل الجمال يضنون علينا بما سوف يشبع الدود منه لثمًا، ويأكله التراب أكلًا لمَّا؟
أما — والله — إن أرواحنا لفي حاجة إلى بعض ما تَنعم به الوسائدُ من الخدود، والمراودُ من الجفون، والمساويك من الثُّغور، والأمشاط من الشعور، الغلائل من الأعطاف، والزينة من الأطراف، فلِمَ تحرموننا في رأفتنا بكم، وحبنا لكم، مما تُكرمون به الجماد ليلًا ونهارًا، على أنه لا يعرف ما حف به من حسن، وأحدق به من جمال!
يا أهل الملاحة، إن الله ما خلقكم كالأزهار في القفار، تزهر وتذبل، ولا يتمتع أحد بشَمِّها ولَثْمها؛ وإنما جعلكم روحًا لكل حيٍّ، ونعيمًا لكل كائن، فاجعلوا لنا منكم حظًّا، ولا أقل من النظر، فقد خفنا على أرواحنا أن تضيع ببخلكم، وتموت بصدكم، وما الله بغافل عما تعملون.
يا أهل الجمال، إن كنتم فُطرتم على العزة، وجُبلتم على النخوة، فهَبُونا بعضَ القرب منكم، والأنس بكم، ولكم منا ما تشاءون من ذلة واستكانة، وخضوع وعبودية، وقد عذرناكم لعزكم، فارحمونا لذلنا، وعشقناكم لحسنكم، فاعشقونا لحبنا، فكفى بالحب جمالًا وبالعشق زينة، وإن المحب المملول لَخيرٌ من الحبيب الملول، فإنْ أبيتم إلا الصد والقطيعة، والجفاء والإعراض؛ فإنَّا نبشركم بأن الحسن حالٌ تحولُ، ودولة تدولُ، ثم يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين.
ولقد يعجب قارئ هذا الخطاب حين يرى كاتبًا يعتقد أن الجمال ملك للعيون النواظر، وأن البخل به إثمٌ وعقوق، ولكنه لو أنصف لَعرف أن النفس الطاهرة كثيرةُ الشطط، وأن صاحبها لا يسلم من الإسراف. ورحم الله ذلك العهد الذي كنت أعيش فيه بأمل غير محدود؛ على أنني لا أمنع أحدًا من أن يسيء الظن بما كتبت منذ سنين، فإن الذي يطمع في معرفة النفس البشرية لا يبخل بوضع نفسه على المشرحة؛ ليسهل عليه وعلى غيره التحليل. ومثلي في ذلك مثل الطبيب المخلص لعلمه، لا يبخل بتضحية نفسه وهو يفحص صرعى السل والتيفوس، فهل يعقل هؤلاء الذين يطيعون أهواءهم وشهواتهم، فينسون أنفسهم، ويسلقون إخوانهم بألسنة حداد؟
إن قليلًا من الروية والأناة لَكافٍ لسلامتنا من الزلل والعثار، حين الحكم على ما يعمل الناس وما يقولون.
وخلاصة القول أننا مسئولون عن النظر في أنفسنا؛ لأن الذي يعجز عن معرفة نفسه، وما فيها من العجائب والغرائب، لا أمل له في أن يعرف نفس سواه، وهو إنْ فكر في الحكم على غيره، فإنما يجوب البيداء في الليلة الظلماء.