أصول الأخلاق
اختلف الناس في «الفكرة» التي ترجع إليها أصول الأخلاق؛ فمِنْ زاعمٍ أنها فكرة روحية، ومن قائلٍ إنها فكرة مادية. فأصحاب الرأي الأول يرون أن الصدق والوفاء والإخلاص والكرم والتسامح والرفق، وسائر الفضائل؛ كلها ترجع إلى «فكرة واحدة» هي سرور النفس، وراحة الضمير، من عمل الجميل. وأصحاب الرأي الثاني يؤكدون أن الصدق ليس بفضيلة إلا لما فيه من المنفعة المادية، والكذب ليس برذيلة إلا لِمَا فيه من المضرة الحسية، فالفضائل والرذائل عند هؤلاء تُقدر بما يَعْقُبُها من الآثار الجميلة، أو العواقب الوخيمة.
وكما اختلفوا في الباعث اختلفوا في الجزاء، فمنهم من يزعُم أن مثوبة الفضائل كعقوبة الرذائل معنويةٌ، ومنهم من يرى أنها مادية. وأذكر أني قرأت في بعض تفاسير القرآن تأويلًا لنعيم الجنة بأنه لن يكون نعيمًا حسيًّا — كما ينص القرآن — بل سيكون نوعًا من التكبير والتسبيح والتهليل.
فما رأي أمثال هؤلاء العلماء في القديم والحديث لو أصررنا على أنْ «لا تفسير ولا تأويل»، وأبينا إلا التمسك بنص القرآن الشريف؟ أيحكمون علينا بالإثم والفسوق؟ فإن فعلوا، أفلا نحكم عليهم بالجهل والجمود؟ إنهم لفي ضلال مبين.
لقد آن لهذه الأجناس البشرية أن تصحو وتفيق! فلو كانت البواعث الروحية أو الجزاءات الروحية كافيةً لبقاء الأخلاق؛ لكان للقرآن أسلوب غير هذا الأسلوب، ولكن الله لم يشأ أن يترك عباده في عماية وضلال، فوصف لهم الجنة وقطوفها الدانية وصفًا شائقًا لا يدع مجالًا للمتأولين والمتخيلين! وقد جعل الله الجزاء في الآخرة مثلًا للجزاء في الدنيا — لو يفهم المتفيهقون.
أكتب هذا وأنا أقرأ كل يوم في الآداب القديمة والحديثة شكوى الأدباء من إعزاز الجماهير للمال، وإجلالهم لأهله، فمالِ هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؟! لقد كان المال زينة الحياة منذ خلق الله الوجود، أفيريد هؤلاء الكسالى أن يحولوا سنة الله فلا تقدر الجهود المادية، ولا ينظر إلى من يستغلون كنوز الأرض بغير الازدراء؟ كم مضت آلاف السنين والروحيون يذمون المال، وطلاب المال! فما أبغضه أحدٌ حتى ولا الروحيون أنفسهم، أفلا يجب أن تكف هذه الألسنة الداعية إلى المستحيل ثم يفرغ الناس لشئونهم جميعًا قبل أن يستحوذ الغربيون على ما في العالم من الأموال والثمرات، ثم لا يتركوا لنا غير الشعر والخيال؟!