مناقشة لغوية
جرى في بعض الأندية ذِكْرُ هذا المثل «الحديث ذو شجون» فرأى بعضُهم أن صوابه «الحديثُ شجون»، ودليلُهُ أنه رآه كذلك — كعنوان دائم — في بعض الجرائد، فرَدَّ عليه أحدُ الحاضرين قائلًا: إنه لو كان ما يُكتب على جدرانِ الجرائد أو صحائفها حجةً ودليلًا على صحة ذلك المكتوب؛ لَمَا كان العامة مخطئين في قولهم «الإهرام» بكسر الهمزة؛ لأنها ضُبطت كذلك على عمارة الأهرام الغَرَّاء! فقال قائلٌ: إنه غلطٌ مقصودٌ؛ لأن تلك الجريدة تُساعد الرجعيِّين من الشيوخ الفانين! ورأى آخرُ أنه خطأ شائع جاراه صاحب الجريدة وهو المعقول، وهنا نذكر قولهم: «خطأٌ مشهورٌ خيرٌ من صواب مهجور»، وهي الكلمةُ التي لجأ إليها المرحومُ الشيخ محمد عبده، حين سُئِلَ عن صحة قوله: «راحت السكرة وجاءت الفَكرة» بفتح الفاء.
وبهذه المناسبة أذكرُ أني لقيت في طريقي مرةً العلامة أحمد باشا زكي فقال لي: أين تقصد؟ قلت: إلى مكان بيني وبينه خطوات — بضم الخاء — فقال: لو قلت خطوات بفتح الخاء لكنت أدنى إلى الرشاد! فقلت: إنها بضم الخاء في قوله تعالى: وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، فقال: لا أُنكر، ولكني أرى أن خطوة بفتح الخاء لها نظائرُ في الوزن مثل: ندوة ونزوة وقسوة وشهوة ونبوة وربوة … إلخ، فلو أنك قلت: خَطوة لكنت قريبًا من الصواب، وهي إنْ لم تكن لغة فهي لغية، وثمانون في المائة ينطقونها بالفتح فما بالك تنطقها بالضم فينسلخ عنك ثلاثةُ أرباع الناس.
وهذا حلٌّ مقبول؛ لأننا حين نفعل ذلك نُجاري شائعًا له أصلٌ معروفٌ، ولكن الذي لا مسوغ له أن تؤازر الخطأ المحض لشيوعه وذيوعه، وقد يكون شيوعًا نسبيًّا في مدينة أو قُطر، ونحن نُريد أن تكون الأقطارُ الإسلامية لغةً واحدة، هي اللغة العربية، وقد يَذيع في مصر ما لا يذيع في الجرائد، فلو أننا اتَّبَعْنا ما ذاع هنا واتبعوا هم ما شاع هناك، لَعادت الفروع وهي أصول، ولَأصبحت اللغة العربية الأصلية كاللغة اللاتينية في الممالك الأوروبية خاصة لا عامة، ويصبح القرآن غريبًا عند المسلمين كأناشيد «بنتاؤر» عند الأقباط، أو سؤال الملكين عند من يرى أنه سيكون بالسريانية! ونصبح — بعد حين — في حاجة إلى مَنْ يترجم لنا كتب الجاحظ وابن سينا والغزالي إلى اللغة الأهلية، كما نُترجم كتب «ديكارت» من اللاتينية إلى الفرنسية، وقد كان شيء من ذلك في الأقطار الإسلامية، ففي مقدمة ابن خلدون أمثلةٌ من الفنون الشعرية المولدة كالزجل والموَّاليَّة وما إليهما من الكلام الموزون الخارج على أصول اللغة والإعراب، ونحن نَجِدُ صعوبةً ومشقَّةً في فهم تلك الآداب البلدية بالرغم مما ذَكر ابنُ خلدون من أنها كانت مثلًا في الفصاحة والبلاغة.
وابن خلدون يرى أن البلاغة لا تتوقف على الإعراب، وهذا صحيحٌ بالنسبة للعامة؛ لأن الإعراب عندهم أَبْرَدُ من النحو في الحساب! ولكن الخاصة لا يتذوقون الكلام المَلْحون ولا يطربون لمعناه، والبيانُ عندهم هو جمال اللفظ والمعنى، ولا جمالَ للفظ بغير سلامته مما يعد عيبًا في رأي علماء النحو والصرف.
ولولا أن الحديث ذو شجون لما شغلنا عن تحديد هذا المثل «الحديث ذو شجون»، وقد رأى القارئ أنه لا معنى لأن نقول «الحديث شجون» استنادًا على «تسجيله» في بعض الجرائد! والشجون هنا جمع شَجْن بفتح فسكون، وهو: الشعبة والطريقة، فمعنى «الحديث ذو شجون»، ذو شعب وذو طرائقَ، وليست جمع شَجَن محركًا، بمعنى الحزن — كما يظن كثيرٌ من الناس.