الحياة الحرة
يذكرون أن السيد جمال الدين الأفغاني رفض مساعدة المصريين له وهم يودعونه إلى منفاه، فلما ألحُّوا عليه أقنعهم بهذه الكلمة «أينما توجه الليثُ وجد فريستَه»، وقد كان السيد جمال الدين الأفغاني يستطيع مكاثرة «قارون» لو كان للمال عنده قيمة، ولكنه كان رجلًا يستقل الموت في سبيل الشرف، فلم يكن عجبًا أن يستقل في سبيله العدم والإقلال!
واليوم نسجل ما نُقل عن المستر لويد جورج من الرغبة الشديدة في الحياة الحرة؛ لأن في ذلك عبرة لأولي الأبصار، فقد جاهر الرجل الذي دَوَّخ العالم بضع سنين بأنه مضطر إلى طلب الرزق، وصرح بأنه فقير، ولا عار عليه في فقره إن عمل لسد حاجته من طريق شريف.
سقط لويد جورج ثم تأمل فإذا هو خالي الوفاض، ثم نظر حواليه نظرة الليث الجائع، فإذا كل ما في الأرض من طعام وشراب، قد لوثه الذباب، ففزع إلى قلمه يستصرخه، فأمطره شآبيب الرزق الحلال.
اتفقت جريدة النيويورك تيمس والشيكاغو تريبون مع المستر لويد جورج على أن يقدم لهما كتابه «ذكريات الحرب»، ليختصا بنشره في مقابل أربعين ألفًا من الجنيهات يأخذها دفعة واحدة حين يسلمها الكتاب.
ما ظننت لحظة أن العقد الذي وقَّعته يمنعني من نشر المقالات السياسية، ولو رأيت فيه مادة من هذا القبيل لفرضته، فقد عولت بعد أن استقلت على الاشتغال بالكتابة في الصحف بغض النظر عن كتاب «ذكريات الحرب»، ولقد خدمت الحكومة سبعة عشر عامًا ثم خرجت وأنا فقير، فلم يكن بد من أن أكتسب بقلمي بعد ما وقفت ما سآخذه منكم على الصدقات.
هذا لويد جورج بطل إنجلترا يودِّع رئاسة الوزارة ويودِّع معها الجاه والمال، ليستقبلَ الحياة الحرة، وليفتح بقلمه ممالكَ عجزت عن فتحها الجيوش والأساطيل! وهكذا يشغل العظماء عن أنفسهم حين يتولون المناصب الرفيعة، فإذا تخلوا عنها أصبحوا فقراء كأنما يطرقون باب العالم من جديد. أما صغار النفوس فلهم من مصالحهم الشخصية شاغلٌ عن مصالح الجماهير، والمناصب فرصة لهؤلاء يدخرون فيها الدراهم البيض لِلَّيالي السود. افتحوا أعينكم أيها الناس وتأملوا كيف عجز لويد جورج — وقد ملك المشرقين — عن أن يدخر لنفسه «بدرة من الذهب» ينفقها حين يخونه الحظ ويسلمه التوفيق!
لا يخجل لويد جورج ولا يتحرج من أن يقول إنه فقير؛ لأن الغِنَى لم يمنع آلاف الناس في إنجلترا من أن يُودَوْا بجدع الأنف — لو أصبحوا فقراء — على أن يكون لهم ما لهذا الفقير من مجد شامخ يعز على من رامه ويطول. ولكن بعض الناس في مصر وفي غير مصر يخفي فقره ويسامي الأغنياء، فيكون مثله كمثل الضفدعة التي راقها جسم الثور فأخذت تنتفخ عساها تصبح في ضخامته حتى بَقَرَها الانتفاخ.
ولئن حمدنا للمستر لويد جورج وقفته هذه في وجه الحياة يطلب ما خلق له من السيطرة على الناس بآرائه الأدبية والسياسية بعد هيمنته عليهم هيمنة فعلية حين كان رئيسًا لأقوى حكومة في العالم الحديث؛ فإنا لَنحمد للأمة الإنجليزية والشعوب الأمريكية هذه الشهوة الحادة، شهوة الاطلاع التي جعلت رسائل هذا الوزير مما يتنافس فيه المتنافسون، حتى لتصبح شغلًا لثلاثين جريدة لهن ما لهن من الدوي الشديد في آذان الملايين من أحرار العقول!
لقد غلا كل شيء في الغرب حتى المداد، ورخص كل شيء في الشرق حتى الدماء! وإن قطرات من الحبر يسود بها لويد جورج وجه القرطاس لَأَعَزُّ مَنَالًا من الدم القاني يُسفح في سهول الشرق، وإن بكت له الأرض والسماء.
وبيدكم — أيها الشرقيون — كشف هذه الغمة، ومحو هذا الظلام، فلو شئتم أعززتم نفوسكم وأغليتم دماءكم، ولن يكلفكم ذلك أن تكونوا نارًا تلتهم القابسين والمستصبحين، بل يكفي أن تكونوا نبتة مرة المذاق ينفر منها أولئك الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أَعِزَّةَ أهلها أذلة وكذلك يفعلون.
اعملوا في شبابكم بعض ما يعمل لويد جورج في مشيبه، واعلموا أن الأمم لا تحيا بالقيل والقال وكثرة السؤال، وإنما تحيا بالأعمال العظيمة يقوم بها جبابرة المفكرين من حيث لا يبتغون الجزاء.