الجرائد المصرية
وكما رزئت الأمة المصرية في أقطاب التأليف، فلا تقرأ لهم غالبًا غير «تحقيقات وتدقيقات» سخرت من تكرارها القرون، فجعت كذلك في كُتَّاب الصحافة وهم قادتها في هذا الحين! فإن كنت في ريب من ذلك فانظر أي جريدة وتأمل ما يسطره قلم التحرير أو قلم التعريب، فلن تجد غير الأخبار السياسية، والرسائل السياسية، الخلافات السياسية … إلخ … إلخ! وتلك بليةٌ عظيمة لا تحتملها أمة تحاول النهوض، فإنه يستحيل أن تنهض أمة لا تجد ما تقرأ غير الشئون السياسية.
وسبب هذه النكبة، أن القائمين على الجرائد المصرية قوم غلبت عليهم مذاهبهم السياسية، ولا يطالعون من الجرائد غير ما تغلب عليه السياسة ولا يطيب لهم السمر إلا إنْ سادت فيه السياسة ولا يَهْزُون وهم نائمون في غير السياسة! ورحم الله الشيخ محمد عبده حين قال: «قاتل الله السياسة ومادة ساس ويسوس.»
ولقد يكفي أن يكون في الجريدة مقالتان واحدة عن السياسة المحلية وأخرى عن السياسة الخارجية، ثم ينصرف المحررون والمترجمون إلى إمتاع القارئ بما جَدَّ في عالم الأدب والتاريخ والاقتصاد، وما إلى ذلك من الأبحاث الشيقة الممتعة التي تثقف العقول وتخلق الرجال.
ألم يمر بك أيها القارئ ذلك الخبر الذي نشرتْه الجرائدُ المحلية بلا تعليق؟ ألم تسمع أن فتًى في شارع الدواوين أضرم النار في فتاة فصيَّرها هباء تذروه الرياح؛ لأنه حاول أن يسلبها شرفها وعفافها فأبت، وفضلت النار على العار.
في سطرين اثنين كُتب هذا الخبر في الجرائد المصرية: أتدري لِمَ ضاقت هذه الصحف المشئومة عن الاستفادة من هذا الحادث، والإفاضة بسببه في الآداب والأخلاق؟ لأن كتابها — هداهم الله — كانوا مشغولين بذكر الأسباب القريبة والبعيدة لمصرع ويلسون في لندره وراتنوا في برلين.
إنها لَأعجوبة القرن العشرين أن نغفل عما يجري على مرأًى منا من غريب الحوادث، لنفرغ لتحقيق ما لا يعنينا من أخبار العالمين.