إشراك العقول
لا تجد كتابًا من الكتب الأزهرية قد خلا من الحكم على الشعر: أحرام هو أم حلال؟ وهذا خلاف قديم رويت فيه هذه النكتة الطريفة: وهي أن سعيد بن المسيب سمع رجلًا يذكر أن إنشاد الشعر يُنقض الوضوء، فأنشد من فوره:
ثم أقام الصلاة!
ويذكر الرواة أن سعيد بن المسيب هذا نقل إليه أن قومًا يكرهون الشعر، فقال: لقد تنسكوا تنسكا أعجميًّا، ويقرب من هذا ما قاله رجل من علماء الدولة العباسية، وقد سمع أن الإمام مالكًا يحرم الغناء فقال: أما والله لو قال مالك ذلك ويدي تناله لأحسنت أدبه؛ إن رسول الله ما كان يُحرم أو يُحلل إلا بوحيٍ من الله!
ولا يزال هذا الخلاف موجودًا في الممالك العربية، ففي جريدة العراق التي تصدر في بغداد مقالةٌ نشرت في الشهر الفائت، تردُّ بها على بعض الصحف العراقية التي أنكرت على جريدة العراق «ذكرها خبر قدوم المغنية المصرية الشهيرة السيدة منيرة المهدية»، ومنذ شهور نشرت جريدة الأهرام كلمة لإحدى السيدات «الشريفات» تستنكر فيها أن تكتب السيدات الممثلات «السيدة فلانة!» وتستبعد أن يصبح التمثيل حرفة لواحدة من نساء الأشراف، وكذلك ظل الشعر والغناء ثم التمثيل موضعَ خلاف.
وقد اضطر الغزالي إلى مدافعة هذه الأذواق السقيمة بقوله: «إن لله سرًّا في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح، حتى إنها لَتؤثر فيها تأثيرًا عجيبًا، فمن الأصوات ما يُفرح ومنها ما يُحزن، ومنها ما يُنوم، ومنها ما يُضحك، ومنها ما يَستخرج من الأعضاء حركات على وزنها»، ولعل أمثال هذه الكلمات الصريحة كانت من الأسباب التي حملت الجهلة على رمي الغزالي بالكفر! ويغلب على الظن أن تورط هذا الإمام في مذاهب الصوفية الغريبة كان شبه كفارة لما جناه في شبابه من التفكير المعقول!
الشعر والغناء والتمثيل — ولا تنس التصوير الذي حرموه — كل أولئك مما يجب على كل مفكر أن يبعد موارده الشهية، ليوصف بالوقار والجلال! فيا ويحكم ماذا أنتم صانعون لو شهدتم المعركة القائمة بين الهدى والضلال! إنكم لو رأيتم كيف تتصاول العقول، لسبق إليكم الجنون، إن لم تكونوا مجانين! ولكنه لا لوم عليكم: وإنما اللوم على الجبناء الذين جعلوا رأى الجهالة مما تُنصب له الموازين!