قبل الطعام والشراب
رحم الله تلك العهود: فقد حدثونا أن الحكومة المصرية كانت تأخذ الأطفال قهرًا من أيدي آبائهم، وحجور أمهاتهم، بين البكاء والعويل لتعمر بهم دور العلم التي أنشأتها لرحمة الأمة من بلايا الهمجية والانحطاط والخمول! وقد حدثونا أن الحكومة المصرية كانت تخرج الشبان من ديارهم لتبعثهم إلى العواصم الأوروبية، بالرغم من التمائم التي كان الآباء يعوذون بها أبناءهم من «التغرُّب في بلاد بره!» وقد حدثونا أن الآباء والأمهات كانوا «يقيمون الولائم لأهل الله والأولياء، ويوزعون الصدقات على المساكين والفقراء، ويقرءون الفاتحة والصمدية والمعوذتين ثلاثمائة مرة عند الشروق وعند الغروب.»
كل ذلك ليرحم الله أولادهم من دخول المدارس، ويقيهم شر السفر إلى لندره أو باريس أو برلي! فما كان الله — وهو أرحم الراحمين — ينظر إلى زفراتهم المحرقة، وعبراتهم المغرقة، بل كان يعين الحكومة عليهم فيصبح أبناؤهم — بالرغم منهم — تلاميذَ في المدارس أو أعضاء في البعثات العلمية.
فيا رب — وأنت الحكم العدل — إليك نشكو «وجودنا» في عهد المدنية والرقيِّ والنهوض! لقد كان آباؤنا يُساقون إلى المدارس سوقًا، فيتعلمون وهم راغمون، كما يؤجَر المؤمن رغمًا عن أنفه! وها نحن أولاء نقاسي ألوان العذاب، كلما اشتعلتْ في صدورنا نيرانُ الشوق إلى العلوم والفنون.
يا رحمة الله لهذا القلب الحزين! لقد قضيت بضع سنين وأنا ظامئ أترقب؛ لعل طيف «الزمن الماضي» يطيف بي فجأة، فأصبح وقد وجدت من مناهل العلم ما يطفئ تلك النار التي تتأجج في صدري فلا تجد غير الرجاء من وقود! وهأنذا أتلفت ذات اليمين وذات الشمال، فلا أجد غير أنداد في التعاسة، وأشباه في الشقاء.
أيها الآباء والأجداد.
لقد كانت الحكومة في عهدكم محسنة كريمة، ولكنكم عددتم كرمها بخلًا، وإحسانها إساءة.
وها أنتم أولاء تنظرون كيف انتقم الله للحكومة منكم، فأغلق في وجوه أبنائكم أبواب المدارس، وحرمهم من البعثات العلمية والفنية! فاقرءوا إن شئتم «الفاتحة والصمدية والمعوذتين» على أرواح أولادكم، التي أماتها الجهل، وقبرها الخمول! لقد كنتم تبكون كلما ألزمتْكم الحكومة بإرسال الأطفال إلى المدارس! وكنتم تعولون كلما سمعتم أن الحكومة ستبعث فريقًا منكم إلى الحواضر الأجنبية! فابكوا الآن حتى تنزفوا دموعكم كلما ضاقت عن أبنائكم المعاهد، ويئستم من أن يروا — ولو في النوم — منابع العلم في برلين وباريس.
فيا رب — وأنت الحكم العدل — لقد قضيت أن لا تزر وازرة وزر أخرى، ونحن أبناء هذا الجيل لم «نعص أوامر الحكومة، ولم نهرب من المدارس، ولم نفزع من الإرساليات»، فكيف نُؤخذ بذنوب آبائنا الذين أنكرْنا عليهم ما تَوَرَّطوا فيه إذ ذاك من كراهة التهذيب؟
فإن لم يكن بُدٌّ من أن يُؤخذ الأبناء بما جَنَى الآباء، فأنَّى أستطيع أن أُثبت أن جدي رحمه الله أدخل أبي المدرسة وهو طائع؟ وفي مقدور كثير ممن ضاقت في وجوههم سبل العلم أن يبرئوا آباءهم وأجدادهم من «تلك الجناية» التي يُحاسب عليها الأبناء والأحفاد! فهل تتفضل الحكومة فتفسح المجال لهذا الفريق «البريء» عسانا ننجو من بلية الجهل ونكبة الجمود؟
نريد أن نتعلم، لا تكفينا السلامة من العري، والظمأ، والجوع، لا نشكو ظاهر المرض، ولكنا نتألم من الداء الدخيل! ارحمونا من الداء العياء! أغيثونا فكلنا ملهوف وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ، ونحن أيتام العلوم والآداب، فليرحمنا القائمون بالعلم في هذه البلاد، ليرحم الله أبناءهم من بعدهم، فلا يجدون ما نجد من اللوعة والغليل!
يرحم الله هذه الأمة؛ فلقد كانت وكل همها أن تظفر بكفايتها من الطعام والشراب، فأصبحت وليس لها غير هم واحد، ولكنه هم مقعد مقيم؛ وهو أن تجد كفايتها من المدارس الابتدائية والثانوية والعالية، وهي بعد ذلك ترحب بالفاقة، إن صح هذا الحلم الجميل.
أما البعثات العلمية … ويلاهُ، ماذا أقول! اللهم لا تُمِتْني قبل أن أرى بعيني كيف يدرس العلم في الممالك التي أصبح أهلها سادة الأمم، وأساتذة الشعوب.