بين الهدى والضلال
قرأت في جريدة «الليبرتيه» فقرة تحت عنوان «الشعراء الفاسقون»، ولو أردنا الدقة في التعريب لَقلنا «الشعراء الغاوون»، ولكن كلمة الغاوي أخذت في العرف معنًى غير معناها القديم، وعنوان تلك الفقرة هو عنوان كتاب فرنسوي جميل جمع بين دفتيه قصائدَ مختارةً بديعة لشعراء فرنسا الأقدمين الذين وصفوا المرأة وتَغَنَّوْا بطرفها الساحر، وخَدِّها الأسيل.
وقد بَيَّنَ الكاتب أن هذه القصائد القديمة تُبهره أكثر مما يُبهره وصفُ المرأة في الشعر الحديث، وقد تساءل عن السبب في هذا السحر الذي انفرد به الأقدمون، وحُرم منه المحدثون، مع وجود الوحدة في اللغة والموضوع، ثم أجاب عن ذلك بأن المحدثين لم يُرزقوا صفاء السريرة، وإن رُزقوا قوة الذكاء.
فهل يسمع أنصارُ الأدب الجديد، أولئك الذين يريدون أن يكون الشاعر عبدًا للوزن والقافية، فلا يثبت كلمة إلا حذف كلمة، ولا يعرض عن الحقيقة إلا أقبل على الخيال، فإذا انتهى من المشاكل اللفظية والمعنوية ذهب يتسمع أقوال الكُتاب ويتلفظ آراء الشعراء؛ ليكون شعره غاية الغايات في إقناع العقول وإمتاع القلوب.
فإن أراد القارئ مثالًا من الشعر المطبوع والمصنوع فليقرأْ هذا البيت:
ثم ليقرأ هذين البيتين:
أفلا يرى القارئ أن البيت الأول أروعُ وأمتع، ثم ألا يشعر — وهو يقرأ البيتين الآخرين — أن قائلهما أضعفُ من أن يملك النفس، ويخلب الفؤاد؟
وهناك شاهدٌ آخرُ للصنعة والطبع في الأعمال؛ فإنَّا نرى العامة يتهافتون على «الكسوة الشريفة» وهي خارجةٌ من مشهد الحسين، فنهابهم ونبجلهم؛ لأنهم يعملون ذلك عن عقيدة ووجدان، ثم نرى الوزراء في مكان آخرَ يتمسحون بأهداب تلك الكسوة فنحتقرهم ونزدريهم؛ لأنَّا نعرف أنهم يُراءون الناس، وكذلك تختلف قيمةُ العمل الواحد باختلاف مصدره؛ وهو الإخلاص أو الرياء، فمَنْ لنا بكُتَّاب وشعراء يستمدون وحيهم من قلوبهم، ولا يضيرنا أن تسبق المجانة إليهم؛ فإن الإخلاص خيرٌ كله، حتى في الخلاعة والمجون.