حديث الحب
١
كتبت الآنسة الأديبة حياة فهمي كلمة عنوانها «لعن الله الحب»، وقد أنعت فيها على الحب والمحبين، قالت في أثنائها عن نفسها: «لست ممن تغلَّب الحب على قلوبهم.»
ثم قالت: «الحب عدو لدود للإنسان، فيجب أن يبعد عن القلوب، ويجب أن تعيش القلوب في جو غير جو الحب … تباعدوا عن الحب.»
وقد رأيتُ أن أُجيبها عن كلمتها تلك بهذه الكلمة الصغيرة: قلت:
أليس كذلك أيها الأستاذ زكي مبارك؟ إليك يُساق الحديث والسلام.
٢
في مصر شاعر كبير وافر الأدب، كثير الحياء، يُحدثك وكأنه يستفيد منك، فيملي عليك ما يُبهرك من آياته البينات، وما زلت أذكر كلمة صديقي الأستاذ الشيخ سليمان نوار وقد حادث هذا الشاعر الجليل منذ ثمان سنين؛ إذ قال لي بعد هذه المحادثة: إنك لا تدري أتعده من الشعراء، أم تعده من علماء الأدب؟ فذكرت — إذ ذاك — قولَ القدماء في الأصمعي: إنه أعلم الشعراء، وأشعرُ العلماء. ولهذا الشاعر طابع خاص في النسيب، يكاد يتمثل في قوله:
وقد اخترت هذا البيت لقربه من كلمته في حوار الآنسة حياة فهمي:
ولهذا الشاعر المقيم «بالسكرية» فضلُ الإشادة بكاتب هذه السطور؛ فقد دعاني إلى حساب الآنسة حياة، وهو يعلم كيف عجزت عن حساب الآنسة منيرة، وإني بهذا العجز لَمختال فخور.
يرى سيدي الشاعر أن الآنسة حياة جهلت الحب فلامت المحبين، ولو قال غير ذلك لأصاب شاكلة الصواب؛ لأن المرأة كالسياسي سواء بسواء يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، والله أعلم بما يكتمون، فإذا قال السياسي: «لا»، فاعلم أنه يريد «نعم»، وإذا قال: «نعم»، فاعلم أنه يريد «لا»، وإذا قالت المرأة: «لا أحب»، فاعلم أنها «تحب»، وإذا زعمت أنها «كارهة»، فاعلم أنها «راضية». فإن كنت في ريب من ذلك يا صديقي الأديب فإني أذكِّرك بقولك من قصيدة نشرتها لك في جريدة الأفكار سنة ١٩١٩:
وقد قال «تاسو» الشاعر الإيطالي المعروف: إن المرأة تفر، وتود أن تُلحق وهي فارة، وتأبى وتود في إبائها أن تُسرق، وتناضل وترغب أن يُظفر بها في النضال! فقول الآنسة حياة: «لست ممن تغلب الحب على قلوبهم» معناه أن الحب صيرها باكية العين، دامية الفؤاد! وقولها: «الحب عدو لدود للإنسان، فيجب أن يبعد عن القلوب» معناه: الحب مادة الحياة، فيجب أن تزود به القلوب، وقولها: «تباعدوا عن الحب» معناه: أقبلوا على الحب بسمعكم، وبصركم، وقلبكم، أيها الشباب!
هذا يا صديقي ما تريده الآنسة حياة فهمي، فهي حين تقول: «لعن الله الحب» إنما تريد «حيا الله الحب».
ولا يفوتني قبل ختام هذه الكلمة أن أوجه للآنسة حياة هذا السؤال: إنك تأمريننا بأن لا نحب «سمعًا وطاعة!» ولو أني سمعت هذه النصحية قبل خمسة عشر عامًا لنجوت من الحب، ولاسترحت الآن من تسطير مدامع العشاق، ولكني يا مولاتي — لسوء الحظ — قد أحببت، وقد ضربت بمحبتي الأمثال، وأُريد أن أسلم من الحب على يدك الطاهرة، جعل الله في يُمناك الشفاء، من كل داء، فهل لك أن تصفي لي طريق الخلاص من هذا الضلال القديم، ومن أسماء الحب الضلال؟
أنا في انتظار الجواب!
٣
رغب الأديب الكبير النابه والكاتب الفنان اللبق الأستاذ زكي مبارك في كلمته إلى الكاتبة الأديبة الآنسة «حياة» أن تصف له دواءً للسلوى عن الحب، فقد اعتزم الإبلال منه فيما يقول، بعد أن مست فيه العيون، وتوزعت لبه الغيد، بيد أنه اشترط عليها فيما استوصفها إياه من الوصفات والعقاقير، ألا تحميه بواعث الشوق ولا تحجر عليه أسباب الهوى ودواعي الشجن، فقال: «أرجو أن تحترس الآنسة حياة، وهي تكتب أنواع العقاقير من أن تنهاني عن التطلع إلى العيون، والخدود، والثغور، والنحور، والنهود؛ فإنه لا سبيل إلى مثل هذا المتاب، وإنما أريد أن أسلو وأنا أعبث بأفنان الجمال، كما يرد الشارب الكأس وهي تتوهج بين أنامل الساقي الجميل.»
فكان كمن يتقي الداء بالداء، ويستكف النار بالحلفاء، وأكبر الظن أن تلك الوصفات وهذه العقاقير لا تصاب في «صيدلية» آنسة خفرة حيية مثل الآنسة حياة.
من أجل ذلك نتشهَّى على صديقنا النبيل أن يتقبل منا أن نستطب لدائه عنها، ونصف له الدواء نحن لا هي، أجل إنه لعزيز علينا أن يُرمى ذلك الجفن الغضيض بالإطراق، ويندى ذلك الجبين الوضاح بالخفر، ويضرج ذلك الخد بالحياء، فليأذن لي في أن أنشده قولي:
ذلك دواؤك الذي يطيب لك ويقر بعينك تناوله، ولا ندعو لك الله بالشفاء، من ذلك الداء، وإن أبيت إلا جفوة للحب، وعربدة على من تحب فطالما سمعناك تنشد مثل قول الشاعر:
وبعد، فهنيئًا لك تلك السلوى، وندعو الله لصاحبتك سالبة لبك، بل ندعو عليك — لا لك — بمثل ما قلته أنا لشبيهتها آنفًا من كلمة:
آمين آمين، والسلام عليك.