اخرجوا من عزلتكم وانظروا في أي عصر تعيشون
ألقى الأستاذ مصطفى عبد الرازق محاضرةً في الجامعة المصرية عن رأي رينان في الإسلام ورد السيد جمال الدين الأفغاني عليه، وقد لاحظ المنصفون يومئذ أن الشيخ مصطفى عبد الرازق لم يُوفَّق في سكوته عن دحض أقوال رينان، مع ظهور الكلفة عليها وبعدها عن مجرى التفكير المعقول. ولاحظوا كذلك أنه لم يتحفظ في نقل ردِّ السيد جمال الدين بالرغم من المناقَضة الظاهرة بين هذا الرد وبين ما كتبه هذا الفيلسوف عن الإسلام في مواطنَ كثيرةٍ كان فيها من المخلصين، وقد استهدف الشيخ مصطفى عبد الرازق لمثل قول الشاعر:
وكذلك اندفع الناسُ يظنون في هذا المحاضر الظنون، ثم أعلن فضيلة الشيخ بخيت أنه سيرد على رينان في الجامعة المصرية، فكان يومًا مشهودًا ضاقتْ فيه صالات الجامعة عن الحاضرين، فحَاضَرَهم الأُستاذ في صحن الجامعة، وهم وقوف.
وقد ظلتْ هذه الحركة محور الأحاديث في مصر أيامًا كثيرة، وفَهِمَ الناس منها أن علماء الأزهر أحياء، وأنهم يغارون على الدين الحنيف، غير أنَّا قرأنا أخيرًا كلمة في المقطم لمخلوق غريب ذيل توقيعه بكلمة «من علماء الأزهر الشريف»، وتنحصر هذه الكلمة في نقطتين: الأولى الرد على الشيخ بخيت في ذكره أن رينان غير فيلسوف، والثانية الثناء على الشيخ مصطفى عبد الرازق؛ لأنه من آل عبد الرازق الذين أُصيبوا في هذا العام مصيبةً حَزِنَ لها المصريون أجمعون.
وأنا لا أُنكر أن المصريين حزنوا لوفاة المرحوم حسن باشا عبد الرازق، ولكني أُنكر هذه الطفولة وهذه الحطة في نفس إنسان ينتسب إلى العلماء، ويهوي بنفسه إلى الحضيض فلا يفرق بين السواد والبياض، في موقف لا يضل فيه غير عُمْي القلوب.
وإني لَأُنزه قلمي عن ذكر هذا الإنسان الذي ضاقتْ عليه الدنيا بما رحُبت حين رأى الشيخ بخيت يُنكر أن رينان فيلسوف، في حين أن هذا المخلوق لا يفقه اللغة العربية فضلًا عن لغة رينان، وإنما هو دَعِيٌّ غفل عنه الدهر فيمن غفل عنهم، ممن دنَّسوا الأزهر حين ضُموا إلى قائمة العلماء.
أحسنَ علماءُ الأزهر هذه المرة؛ لأنهم انتقلوا إلى الجامعة المصرية فواجهوا ما يُقال عن الدين هناك، وقد كانوا من قبل يكتفون بنقد ما يجري من هذا القبيل في مجالسهم الخصوصية، وكنت أود لو عُني الشيخ الدجوي فألقى محاضرة في الجامعة المصرية في الرد على رينان؛ لأنه فضلًا عن علمه يمتاز بحسن الأداء، فقد تأفف الناس جميعًا من إلقاء الشيخ بخيت لمحاضرته، ولولا أن الشيخ عبد الوهاب النجار ألقى الجزء الأخير منها لحصبه الناس.
هذا حق يجب أن نجهر به، وليس إخلاصنا لأساتذتنا في الأزهر بمانعٍ من أن نواجههم بهذه الحقيقة، بل إخلاصنا لهم يفرض علينا دعوتهم إلى نبذ هذا الخمول؛ فنحن قادمون قريبًا أو بعيدًا على حياة عاملة، أخشى كثيرًا أن يتخلفوا فيها عن الأحياء. ولست أدري لِمَ أشتهي أن أُصارح أستاذنا الدجوي بأن ما نقرؤه له في الدفاع عن الدين لا يُغني شيئًا؛ ما دام لا يوجه بعض جهوده إلى إصلاح المعاهد الدينية. ولست أدري أيضًا لِمَ أحب أن أكون صريحًا مع هذا الرجل الذي أشعر بأنه من صفوة المؤمنين، فقد كان الظن به أن يساعدنا — ونحن أبناؤه — على ما نُقاسي في الأزهر من همجية سيصبح الأزهريون صرعاها بعد قليل.
ولو أن فضيلة الشيخ الدجوي كان من قُطر غير هذا القطر وزار الأزهر ولواحقه؛ لَمَا شك في أن العلماء ضعيفو الإيمان، وإلا فما رأيُه في رئيس يفرش بيته بالبساط، ويضيئه بالكهرباء ويترك الأزهر بلا ضوء وبلا حصير؟
إن رينان على حق فيما وصف به المسلمين، نحن الذين أسأنا إلى ديننا إساءة قد لا يتجاوز الله عنها، وقد لا ينساها التاريخ، فما ذنب رينان؟ لقد ذكر أن بعض المسلمين كان يحرق المكاتب العلمية … فما رأي مولانا الشيخ الدجوي في أن علماء هذا العصر يقتلون أبناءهم بلا رحمة، ويسومونهم سوء العذاب.
هنيئًا لك يا سيدي الأستاذ، سينصفك التاريخ؛ لأنك تعمل شيئًا يحفظه التاريخ، وويل لكل طالب يرميه أهله في جحيم الأزهر فيفقد شبابه وقوته، ثم يخرج إلى العالم فلا يفقه منه شيئًا ولا يعرف العالمُ عنه شيئًا؛ لأنه كان يحفظ أشياء لا صلة لها بالعصر الذي يعيش فيه.
إننا نغضب حين يظلمنا رينان وأمثال رينان، ولكننا نتلقى المظالم باسمين حين يظلمنا كبراؤنا وعلماؤنا … بارك الله في رينان ومَن ذكَّرنا بخطبة رينان؛ فقد يكون لهذه الخطبة ذكرى تنفع المؤمنين.
تكلمْ يا مولانا الشيخ الدجوي، تكلم يا أبيضَ الناس وجهًا وأفصحَ الناس لسانًا، وأُقسم لولا حبي لك لَما خصصتك بهذا النداء. تكلمْ؛ هذا حين الكلام، لا تكفينا كلمة في الرد على هذا أو ذاك، لن يغنينا تفنيدك لأعداء الإسلام ما دام المسلمون أنفسهم مساكين، وما دام طلبةُ المعاهد الدينية في ظلمة قاتمة من هذه الحياة «الدنيا» التي رماهم بها نظام الأزهر العتيق.
اكتبوا ما شئتم، وارموا الناس جميعا بالإثم والفسوق، ولكن لا تنسوا أن الأزهر إن ظل على هذه الحال فلن يكون مآلُه غير الخراب، اعرفوا في أي عصر تعيشون، واعلموا أن الدين لن ينهض بنفسه؛ لأن الحق لا حياة له إذا نام عنه أنصاره وأشياعه.
كذب رينان فاصدقوا أنتم، وضل تابِعوه فاهتدوا أنتم، والحذر من أن تسكنوا إلى ما يمتدح به الممتدحون من مجد الحضارة الإسلامية في عهد العباسيين والفاطميين؛ فتلك أيامٌ خلت، ولا ينفعنا الماضي بشيء إن لم نسبق أهل العصر إلى العلوم والفنون.
هذه كلمة أعرف أنها قاسيةٌ، ولكني أرجو حضرة المخلص، مدير جريدة الأمة أن ينشرها كاملة: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
وقد علقت جريدة الأمة على هذا المقال بما يأتي:
«نشرنا هذه الكلمة ونحن نعلم أنها حادةٌ حارة، ونعرف أنها ستُغضب وترضي، ولم ننشرها فقط لرجاء الأستاذ كاتبها؛ فإن علينا فرضًا أن نصدع بالحقيقة كيفما كانت ومهما أصابت. نعم، نشرنا هذه الكلمة؛ لأننا نتألم لما يتألم له كاتبها الأديب من قعود رأيناه ولم نزل نراه في سادتنا علماء الأزهر حُماة الدين، سادتنا المسئولين عند الله قبل كل إنسان عن هذا الدين وما يصيبه من أعدائه — وهم عن ذلك غافلون أو مستيقظون ومعرضون.
ولسنا نعلم أي خير فيما يتوفر عليه العلماء من أساليب العمل في معاهدهم العظيمة؟ فعندهم كتبُ الفلسفة البائدة مشحونةٌ بالجدل في الدين، لا نعلم ما قيمتها عندهم وما قيمة الاشتغال بها، وهي تتضمن شبهاتٍ وردت على الدين في أزمنة قديمة، ورَدَّها أهل الدين في تلك الأزمنة؟ أليس الاشتغال بها إضاعة للوقت في غير جدوى، بينما يسمعون ما أحدثه هذا العصر من شبهات أشد من تلك وأقوى؟
نرجو أن يخرج العلماء من عزلتهم ويستعيضوا من أبحاث الفلسفة القديمة وشبهاتها درسًا لفلسفة هذا العصر وما استجد فيه من الشبهات، ولا يَليق بهم أن يكونوا أصواتًا تحكي أصواتَ أسلافهم الأقدمين في عصر لا يسمع هذه الأصواتَ ولا يعرفها.
إن العلماء لا يؤدون حق الدين عليهم إذا توالت هجمات أعدائه عليه وهم وُقوفٌ يُشاهدون.»