حب ابن أبي ربيعة وشعره
وإني لَموقن أن في الناس من لا يطرب لهذا النحو من البيان، ولكني لم أكتبْه إلا لمن قُدر له أن يدرك أسرار الجمال، وهدى الله من يحسب أن التأليف لا يصح إلا في الأبحاث التي تشبه بعض الأذهان في الجمود!
وقد نفدت الطبعةُ الأولى من هذا الكتاب، وستظهر الطبعة الثانية عما قريب، من أجل هذا أسبق النقاد إلى بعض المآخذ التي أراني مضطرًّا إلى إبقائها؛ إجلالًا للثقة بالنفس، وإكبارًا لنزق الشباب!
انظر قول ابن أبي ربيعة:
ووجه الحسن في تحيير ماء الشباب أنك تنظر إلى الخدود الموردة، فتراها كالشفق تتنقل من تحته الشمس، أو كالمشكاة يتموج في قلبها المصباح.
في سبيل الحب تلك النظرة، يوم رأيته وقد أبل من حمى أضرعتْه، فرأيت ماء الشباب يدب في تلك الخدود وهي صفراء كالورس، فيعيدها حمراء كالورد، وإذا الأنس يتمشى في فؤادي لشفائه، تمشِّي البرء في أعضائه.
لم يكن ابن أبي ربيعة ممن إذا غاب عنه حبيبٌ أخذ في البكاء عليه والحنين إليه، تلك سبيل الشعراء الفجعين، الذين كانت قلوبهم أعوانًا للدهر عليهم، وكانت نفوسهم أخصامًا لهم، أولئك هم المعوزون في عالم المحبة، والمحرومون في دولة الصبابة، أولئك الذين يرون الجمال ظلًّا ظليلًا، ثم لا يستطيعون أن يتفيئوا ظلاله، أولئك الذين يحسدون الغلائل على الأعطاف والعقود في النحور. وكيف يكون ابن أبي ربيعة مثلهم مسكينًا في شعره، وما كان مسكينًا في حبه؟ أم كيف يصف البكاء والمدامع، وما ألمت نفسه ولا دمعت عينه؟ بُعدًا للذلة حتى في الحب، وتبًّا للمسكنة حتى في الغرام.
وكان — رحمه الله — آيةَ الآيات في حُسن الخلق، وصباحة الوجه، وأصالة الرأي، وحلاوة الحديث، وكان لا يعدله عندي غير شقيقي «سيد مبارك» الذي فقدته معه في أسبوع واحد، وكان موتهما معًا بالحمى الإسبانية — لا رد الله لها غربة ولا قدر لها رجعة — وكان أخي سيد من أقوى الفتيان بأسًا وأمضاهم عزيمة، ولو عاش لضُربت بشجاعته الأمثال.
وقد سألني بعضهم عما يعني القارئ من هذا التفصيل فأجبته: إنه يعني مؤلف الكتاب.
وقلما يصدق للحضريين حب، أو تبقى لهم صبابة؛ إذ يرون من متممات الظرف، ومكملات الأدب، أن يحيى الرجل بعين باكية، وقلب خفاق، فلا يزالون يتلمسون الهوى، ويتحسسون الصبابة، حتى تتاح إليهم أسبابها، وتساق إليهم همومها.
وهذه مسألة فيها نظر — كما يقولون — ولا أستطيع أن أعد ما في كتاب «حب ابن أبي ربيعة وشعره» من الهفوات، ولكني أحمد الله على أن وُفقت إلى تصوير ابن أبي ربيعة وتمثيل حياته، حتى كأنك تراه.
ولا يفوتني أن أذكر أن حضرة صاحب الفضيلة الشيخ مصطفى القاياتي قرظه بكلمة بارعة، نشرتها في مقدمة الكتاب، لا حبًا في الثناء، ولكن حرصًا على هذا الأثر النفيس، وأسأل الله التوفيق إلى تحقيق ما أطمح إليه من إحياء الآداب العربية، وهو حسبي ونعم الوكيل.