الليلة الثانية
أما مرقص مصر الجديدة — ويا ويلتاه من مصر الجديدة — فهو خاضعٌ للبدعة الفرنسوية، لا تكاد الموسيقى تصدح حتى تنتظم العذارى كأسراب الحمائم راقصاتٍ شاديات.
وكأن الحِسانَ في هذا المرقص لا يستطعْن الرقص منفردات، وكأن أقدامهن الصغيرة، لا يستطعن حمل أردافهن الخطيرة، فلكل فتاةٍ فتًى يطوِّق بيمناه خصرها النحيل، ويسند بيسراه خدها الأسيل، ثم يسير بها ضاحكةَ الثغر، ناعسة الجفون، وكل في فلك يسبحون.
وكان «عفريت الليل» يوصيني بوصف تلك الليلة قبل أن تعزب عن البال، رويدك يا صاح، وكيف تنسى ليلة هي أُنموذج لنعيم الجنة دار الخلود، وهل أنسى أني ما نظرت أمامي أو عن يميني أو عن شمالي إلا رأيت الحسن منثورًا نثر النجوم الزهراء، في القبة الزرقاء، أو نثر الزهور البيضاء في الروضة الغناء؟
ولحظة واحدة، في تلك الجنة العالية، تنسيك الدِّين والأخلاق، ويكذب ثم يكذب من يزعم أنه لم يحسد أولئك الذين أنعم الله عليهم فخاصروا من يعشقون، على مسمع من الرقيب، ومرأًى من الحسود.
ولم يكن الحسن في ذلك المرقص قاصرًا على الراقصات، فقد كان الفندق يموج موجًا بالرائحات الغاديات:
وما زلت أحدق عيني في كل رائحة وغادية، حتى تألمت عيناي، فكأنما أطالع ذكاء، في كبد السماء، وكنت كلما بهرتْني الثغور الضواحك وأسرتْني العيون الفواتك، أفكر في جناية الجمال، على عُشَّاق الجمال وعلى أهل الجمال، ثم أفكر في فضل الجمال، على أعداء الجمال؛ ففي العالم مئاتُ الألوف من القسيسين والرهبان والعلماء، تُصرف عليهم المرتَّبات؛ لأنهم يلقون الخطب الرنانة في ذم الجمال، وأهل الجمال، وعشاق الجمال.
مَرَّ بخاطري ذلك وأنا في فندق الهيليوبوليس، فعرفت أنه كلما وُجدت الرذيلة وُجد موجب للدعوة إلى الفضيلة، ووَجَدَ الوعَّاظُ ما يأكلون، ثم استسلمتُ إلى التفكير العميق.
والآن في الساعة الثانية بعد نصف الليل، وقد مضى على تلك الليلة ست ليال؛ أفكر من جديد في جناية الجمال، على عشاق الجمال، وعلى أهل الجمال، ثم أُطيل التفكير في فضل الجمال، على أعداء الجمال.