دواعي الشعر
١
أيها السادة
إن القمر الزاهر الذي يغازل الشعراء كما يغازلونه، والبحر الزاخر الذي يعجب الأدباء بأمواجه المتلاطمة كما يعجب بأفكارهم المعجزة، والروض الضاحك الذي يبسم الكُتاب لأزهاره الشائقة كما يبسم لكلماتهم المتناسقة؛ تلك الظواهر الطبيعية التي تبعث على الشعر، وتدعو إليه؛ هي هي في كل قطر، وفي عيني كل كاتب، وفؤاد كل شاعر، وذلك ما أوجد التشابه في خيالات الشعراء، وأفكار الكُتَّاب، وجَعَلَ الفرق غير بعيد بين قديم الشعر وحديثه، وطارف النثر وتليده.
فإذا قال قائل: إن العقل البشري سائرٌ نحو الارتقاء في كل سبيل إلا من حيث الخيال الشعري؛ فاعلم أن ذلك ليس لعجز في القوى البشرية، أو تقصير من الشعراء أنفسهم، إنما كان ذلك؛ لأن دواعي الشعر خُلقت مع الإنسان يوم خَلْقِهِ، بل قبل أن يُخلق بأجيال، فلا بدع إذًا أن يظل امرؤ القيس شاعر العرب وهوميروس شاعر اليونان، وإن طال العهد وبَعُدَ الأمد، ولا كذلك ما عدا الشعر في الفنون والصناعات، فإن موجباتها خُلقت مع الحوادث شيئًا فشيئًا، ولا تزال. فليس عجيبًا بعدئذ أن يقف الشعر أو يسير سيرًا هادئًا في حين أن باقي الفنون تُسابق الظل، وتجاري الريح في السير نحو الكمال.
تلك — أيها السادة — علالة المتعلل وحجة الضعيف المغلوب، وكيف تكون دواعي الشعر بالأمس هي نفسها دواعيه اليوم؟ نعم إن السماء ما زالت كهيئتها يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن البحار ما زالت زاخرةً عجاجة على نحو من العظمة والجلال، يتشابه أولُهُ مع آخره، وإن الرياض ما زالت تلبس في الحاضر، أثوابها في الماضي، ولكن هل ينبغي أن يكون شاعرُ اليوم كشاعر الأمس؟ كلا والله، فإن الناس من قبل كانوا ينظرون إلى السماء من بُعد، فأصبحوا يتبينون خفاياها بالمراصد، وكانوا يعجبون بالبحر وهم وقوفٌ على شاطئه، فأصبحوا اليوم يخوضون أحشاءه ويسبرون أغواره، وكانوا ينعمون بالرياض، وهي حسناءُ مهلهلةُ الثياب فأصبحوا يلهون بها عذراء غضة.
فهل يليق بشاعر بعد ذلك أن يقنع بما يمده به خاطرُهُ من المعاني القديمة والخواطر العهيدة؟ هذا — والله — ضعف وانحطاط.
وما أشبه حالنا مع من تقدمنا من الشعراء، إلا بشاعرٍ عاشق، رأى في النوم طيفَ حبيبه فأصبح وقد ملأ الدنيا غزلًا ونسيبًا، فلَمَّا أُتيح له أن يراه رأي العين أُفحم، وكذلك رأى أسلافُنا ظواهرَ الطبيعة، فقالوا وأبدعوا، ووقفنا نحن على حقيقة الكون وأسرار الوجود، ولكن لم نشعر كأن لم نشعر.
إلا أنه إذا كانت تلك الظواهر الطبيعية هي الينبوع الأول الذي تتفجر منه الخيالات الشعرية والمعاني الأدبية؛ فإن الشاعرية تزداد بالنظر فيما ترك الشعراء والكُتَّاب من بديعِ الشعر، وطَرِيفِ النثر، فإن فيما ترك أولئك الكرام الكاتبون لَجنَّاتٍ وأنهارًا وشموسًا وأقمارًا، توحي إلى المرء من ساحر الخيال، وفاتن القول، ما تعجز عن مثله الأنهار الجارية، والرياض الحالية والسماء الصافية، وإذا عرفنا حاجتنا إلى النظر فيما ترك الشعراء والكتاب فلا بد أن نعرف أيضًا أن ذلك لا يختص بأمة دون أمة أو إقليم دون إقليم.
وأن الذي يريد أن يتكمل في الشعر والأدب فلا بد أن ينظر فيما ترك الأدباء في مشارق الأرض ومغاربها، من الآثار الأدبية والطرائق العلمية؛ إذ كما لا يمكن للرجل الواحد أن يخترع علمًا ثم يكون أول الناس وآخرهم فيه؛ فكذلك لا يمكن لأمة واحدة أن تقوم بحاجة البشر في فن من الفنون — ولا سيما في الآداب التي هي خلاصةُ الأفكار ونتيجة الخواطر.
لذلك رأى رجال الجامعة المصرية — وهم مَن نعرف في بُعد النظر وأصالة الرأي — أن تدرس آداب اللغة الإنجليزية والفرنسوية، بجانب آداب اللغة العربية، فكان ذلك فضلًا إلى فضل، وأدبًا إلى أدب. وإذا لاحظنا أن أُدباء الإنجليز مِنْ أحرص الناس على العلم والأدب وأعلمهم بلغات الأمم وآدابهم، وأشدهم عناية بتقييد الأوابد، وضم الشوارد، وأكثرهم ضربًا في الأرض، وسيرًا في الأقطار، وأكثرهم تعرفًا لأحوال الناس على اختلاف طبقاتهم وتبايُن أشكالهم، إذا لاحظنا كل ذلك؛ عرفنا أن آداب اللغة الإنجليزية إنما هي خلاصة آداب الأمم؛ إذ كانت نتيجة التجارب العديدة، والمشاهدات المختلفة، في أكثر بقاع الأرض، وأغلب أنحاء المعمورة.
وكذلك يكون العارف بآداب هذه اللغة عارفًا بآداب أُمم عدة لا أمة واحدة، وإذا لاحظْنا أيضًا أن آداب اللغة العربية إنما هي آداب أُمم مختلفة جَمَعَها الدين وألَّف بينها الإسلام، كما أن آداب اللغة الإنجليزية آداب أُمم شَتَّى؛ عرفنا أن العارف بآداب اللغتين العربية والإنجليزية من أغزر الناس مادة في الأدب وأرسخهم قدمًا في عالم الشعر، فهنيئًا لإخواننا الذين تَمَكَّنُوا من آداب لُغَتِهِم العربية، ثم تكلموا بآداب اللغة الإنجليزية، فشربوا من الكأسين، وتَحَلَّوْا بالفضيلتين، والسلام.
٢
أُلقيت خطبةٌ في فندق شبرد تكريمًا للمستر ورتهام أستاذ آداب اللغة الإنجليزية، في الجامعة المصرية، رَدَّدْت فيها على القائلين بوقوف الحركة الشعرية، لوجود الدواعي متماثلة متشابهة في كل العصور، ووازنت بين دواعي الشعر بالأمس ودواعيه اليوم، وأنحيت باللائمة على الشعراء الجامدين، الذين لا يزالون يترسمون خطواتِ مَن سبق، وهم عن الجد معرضون.
غير أني نظرت إلى تلك الدواعي من الوجهة الطريفة، فجعلتها في الرياض الزاهرة، والبحار الزاخرة، وفي البدور الطوالع، والشموس السواطع، وأضفت إلى ذلك ما يكتسبه الفكر من النظر في الآداب الأجنبية التي قد تزيد أدبنا وضوحًا وبيانا، إذا عرفنا أن الناس من نفس واحدة، وأنهم يسعون إلى غرض واحد، وهو فهم حقيقة الكون والثناء على الله.
واليوم أقول: إن تلك الدواعي السالفة إنما هي لقوم بلغوا من الحضارة والرقي، ما يسمح لهم بالتفكير في الجمال، والتفنُّن في وصف غرائبه: من الظباء النوافر، والحسان الأوانس، ورأوْا من قومهم نفوسًا عاشقة لطرائف الحسن، وقلوبًا تائقةً لبدائع الشعر، فقالوا في وصف الرياض والأزهار والبحار والأنهار، والقصور المشيدة، والصروح الممردة، وخاطبوا النفوس الناعمة، والقلوب الوادعة، وانتقلوا من عالم الحِسِّ إلى عالم الخيال، فوصفوا أحلامهم اللذيذة، وآمالهم الحلوة، إلى غير ذلك مما يجد في قلوب أهل السعة ونفوس أهل الرغد ميدانًا يمرح فيه وروضًا يأنس به، وكذلك نفوس الشعراء، في أيام الرخاء.
أما دواعي الشعر في هذا البلد، وفي هذه الأيام فهي غير أسبابه تلك؛ لما ترى من الفرق الظاهر بين عامتنا وخاصتنا، وقلما يتغنى الخاصة بالشعر، وإن لم تُصغِ العامة إليهم، ويفتحوا لهم آذانهم وقلوبهم.
وهل يطرب الناس للشعر وهو يصف ما لا يحسون به، ويتحدث عما لم يستطيعوا إليه السبيل؟
ولقد كان عجبًا عند الشاعر حافظ إبراهيم أن يُجيد العرب وصف الناقة، وهي تلك المركب الصعب ولا نجيد نحن وصف ذلك المركب الذلول «الأوتومبيل»، ولو لحظ أن الشاعر العربي ما أطنب في وصف الناقة إلا لأنها كل شيء عنده، ولأن أهله ورفاقه يعرفون مِن صفتها ما يعرف؛ لَعلم أن السر في عجزنا عن وصف الأتومبيل، ليس هو ضيق اللغة — كما زعم — بل لأننا ننظر إلى هذه المخترعات في الأرض كأننا ننظر إلى الشمس في السماء.
ما لنا ووصف هذه البدائع الفتانة، والنفائس الخلابة، ونحن لا ننعنم بها، ولا شيء فيها من صنع أيدينا؟ إذن فلنتركْ وصفها وتقريظها لشعراء الغرب أولئك الذين يجدون من السرور بركوبها ما كان يجده العربي وقد علا ظهر البعير البازل، أو تسنم الناقة الهوجاء.
وقد كان أستاذنا الشيخ محمد المهدي يقول — وهو يتحدث عما أبدع الشعراء في وصف الشمعة: لا أدري ما كانت تكون حالهم لو شاهدوا غرائب هذه الأيام؟ إني لا أشك في أنهم كانوا يجيدون.
وليسمح لي أستاذي أن أقول له: إنهم لو عاشوا إلى عصرنا لَعجزوا عَجْزَنا؛ فإن الأمر كما قيل:
وكما قال ابن الزيات:
فإن قومنا لم يفكروا في مجاراة الأمم المولَعة بأعاجيب الصناعة حتى نجاريهم في أفانين البلاغة.
وإنَّا لَجديرون بأن ننشط إلى الافتنان والابتداع، إن نشطوا إلى الابتكار والاختراع، وإلا فليلوموا أنفسهم — إن كانوا منصفين.
٣
قل لي — بربك — ما أنت صانع لو زرت الأهرام، وكنت ممن رُزقوا الشعر الفصيح، والخيال البديع، أتغرب في وصفها بالوسامة الشاملة، والقسامة الكاملة، وتتغنى بارتفاعها الباهر، واتساعها النادر، فتسلك سبيل الفاهمين من أهل مصر القديمة، والغافلين من أهل مصر الحديثة، أم أنت سالك غير تلك السبيل، وخائضٌ في غير ذاك الحديث؟
ما زلت أسمع الشعراء من حولي يتغنَّون بالحضارة القديمة، ويشيدون بذكر الفراعنة، ويلهجون بمجد العرب، كأن مصر ما زالت سيدة العالم، وكأن رجالها ما زالوا خير الرجال، وكأن العرب ما زالوا سادة المشرقَين وقادة المغربَين، قاتلكم الله! تضحكون في موضع البكاء، وتفرحون في موقف الحزن، ولو كانت لكم ضمائرُ شاعرةٌ وبصائرُ ناظرةٌ، لبكيتم مع الباكين، ونُحتم مع النائحين، فقد ذلت هذه الآثار بذلكم وضعفت بضعفكم، وأضحى هرم خوفو.
لقد كثُر شعراء مصر، وتوفَّروا على معنًى واحد، كما تكثر الأشجار في بقعة واحدة، فيأكل بعضها بعضًا ثم لا تزهر ولا تثمر.
وقصارى أحدهم أن يفتخر بأنه مصري أو عربي، يريد أنه من بقايا الفراعنة، أو من سلالة الأفيال.
أهؤلاء الجبناء، الذين يخافون ظلهم، ويهابون طيفهم، من ذرية أولئك الذين أخضعوا الأرض وهموا بمحاولة السماء فحاربوا الناس تارة، ونازعوا الآلهة أخرى؟
أهؤلاء من سلالة ذلك الذي قال: يا هامان! ابنِ لي صرحًا، لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى؟
تعالى الله في سمائه، وكفر فرعون وهامان، ولكن أليس من العجب أن ينتسب هؤلاء الأصاغر إلى أولئك الأكابر وهم أذلُّ من قراد بمنسم، وأضيع من الأيتام على مائدة اللئام؟!
ولقد يذكرون أن المأمون قال لوزرائه يوم زار أهرام مصر: إنها مبانٍ جليلة، ومنازلُ شامخةٌ، ولكنها لا تستحق أن يحاول صاحبها السماء لينازع الإله، فقال له بعضهم: يا أمير المؤمنين إن الله يقول: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ.
فإذا كانت هذه بقايا ما دُمر، فكيف كانت تلك العروش؟ فبهت المأمون وسكت.
يقولون: إن الولد سر أبيه، فما بال أبناء النيل في ذلة، وأحفاد العرب في ضعة؟
أيستطيع أحد من شعرائنا الآن أن يقول كما قال قيس بن الحطيم:
إذن فكيف يجرؤ هؤلاء أن ينتسبوا إلى العرب، أو ينتموا إلى الفراعنة، وهم ما يحسنون غير التهنئة بمولود، أو التعزية بمفقود، كأنهم ما خُلقوا إلا ليبكوا مع الباكين أو يضحكوا مع الضاحكين؟
أين شعراء الوطنية؟! أين عشاق الحرية؟!
لقد مات منهم من مات، واغترب من اغترب، وبقي جماعة يقلون عند الفزع، ويكثرون عند الطمع.
٤
يكتب صاحب العزة علي بك فهمي كامل مقالاتٍ شيقةً تحت عنوان «لو كنا مستقلين» جاء في أولها قوله: «لو كنا مستقلين لعم العلم الديار، وراجت الصناعة في كل الأمصار، وحل اليسر محل البوار، وأصبح المصري في كل مكان، يُشار إليه بأطراف البنان.»
وأنا أُضيف إلى كلماته الجملة الآتية: لو كنا مستقلين لكثر شعراء الحماسة، وقل شعراء الخلاعة، ولَعادت للشعر مواقفُه المشهودة، ومشاهدُه المعروفة، يوم كان بيت يبعث الحرب، وقصيدة تُرجع السلام.
ويقول الكاتب مصطفى المنفلوطي في مقدمة مختاراته: «وأحسب أن ما يتعلق من الشعر بالحماسة ووصف الحروب وأسلحتها ودمائها وغبارها وأشلائها هو آخر ما يحتاج إليه المتأدب في هذا العصر.»
ومعنى ذلك أن عصر البطولة قد مات، وزمن الرجولة قد باد، ولم يبق إلا أن يلبس الشعراء أثواب الندماء، فيقضون الليل في خمر، والنهار في خمار.
ولست ألوم المنفلوطي على أن جعل مختاراته خلوًا من الحماسة، ولا أعذل الشعراء على ما فرطوا في جنب البطولة؛ فإن ذلك نتيجة الاستعباد، وعاقبة الاسترقاق.
وكيف يتوفر على الشعر الحماسي شعب يرى أنه غير مكلف بالدفع عن بلاده، والذود عن حياضه، أم كيف يتمدح بالشجاعة من يُوصف بالطيش إن أقدم، وبالحزم إن أحجم؟
ولقد كثرت أحاديث الناس عن فتوى الشيخ بخيت ضد البلشفية، وفاتهم أن هذا أثر من آثار التبتل الذي جنته علينا الذلة، ورمانا به الهوان.
والذي يتأمل ما كان من فتوى الشيخ يعلم أنه تأثر بالحكمة القائلة: إن العاقل لا يرضى لنفسه إلا أن يكون مع الملوك مكرمًا أو مع الزهاد متنسكًا، وأنه رضي لنفسه حظ ديوجين الكلبي.
ولقد ساءه أن ينفرد الحلفاء بمحاربة البلشفية، وأن لا يكون لمصر حظ في دفع هذا البلاء، فرَمَى بفتواه في صدر هذه المذهب الجديد، ليعود وهو صريع.
والذي نعرفه من قوة فتاوى الأستاذ، ومن حُججه الدامغة، أن تلك الفتوى كانت جديرةً بمحو البلشفية، لو أنها صادفت قلوبًا كقلوب المصريين الذين يبجلون الشيخ ويعظمونه، ولكنها نُشرت بين قوم ينكرون مصر وعلماء مصر، ويعدونهم من سقط المتاع.
وإني لَأخشى أن يُصبح علماؤنا وما يعرفون غير السبحة والسواك.
كما أخشى أن يصبح شعراؤنا وما يحسنون غير الهزل، ولا يجيدون سوى المجون.
٥
في مصر اليوم جماعة من الشعراء، تغنَّوا كثيرًا في الليالي الخوالي، يوم كان الناس يسمرون في المنازل، ويسهرون في البيوت، وكان الرجل يُعرف بالشعر، ويُوصَف بالأدب، لبيتٍ يقوله في تحية رب القصر، أو تكريم السامرين، وربما وُصف بالعبقرية لطُرفة ينسبها إلى دعبل، أو حديثٍ ينقله عن أبي نواس.
ثم قضى الله أن يرسل إلى بعض القلوب رسول الوطنية، فانتقل الشعر من الخصوصيات إلى العموميات، إلا أن الشعراء كانوا — مع ذلك — مقيدين بقيود من الرياء، فكان حافظ إبراهيم لا يطرب للشعر، ولا يخفُّ له، إلا بحضرة الأستاذ الشيخ محمد عبده.
وكان أحمد نسيم يمزج وطنياته بمدح محمد بك هلال، وكان شوقي يشوبها بمدح صاحب السمو أمير البلاد.
وكنت لا تسمع للشعراء شيئًا غير ما يدعون إليه يوم الاحتفال بفتح مدرسة، أو تشييد معهد، «أو فتح بار كما فعل فلان!» إلى غير ذلك مما يُساق إليه الشعراء سوقًا، بدافع الشهرة، أو دافع المال.
وكانت الأحزاب قد كثُرت في مصر، فكان لكل حزب شاعرٌ ولكل شاعر أشياعٌ، فتنافرت الآراء وتناكرت الأهواء؛ إذ كان الشعراء يستمدون وحيهم من سادتهم وكبرائِهم، وكان سادتهم منشقين مختلفين، فكانوا يُضلونهم سواء السبيل.
ثم شب جماعة آخرون لم يُقدَّر لهم أن ينتموا إلى بعض الأحزاب، فرَضُوا بالخمول، واكتفَوا من الشعر بأبياتٍ يقولونها في الوصف، أو نتف يجيدونها في النسيب، وربما التفتوا إلى ما ينعم به إخوانهم من السعة في العيش، والبسطة في الجاه، فأخذوا في شكوى الدهر، وتأنيب الزمن ووصفوا الأدب بأنه رفيق الفقر، وحليف المسكنة. وكان بجانب هؤلاء جميعًا جماعةٌ من النقاد ينقدون اللفظ والمعنى، ويعرضون عن النحلة والمذهب، فكنت تقرأ ما يكتبه الشيخ طه حسين في نقد حافظ، فتراه جملة من المذاهب النحوية، والمباحث اللغوية، وربما رأيت طائفة من ألفاظ السباب في خلال تلك السطور، وضعها الكاتب حلية لبحثه، وزينة لنقده، وكان الويل — كل الويل — لمن يغفل عن ترضية أولئك الناقدين فيُمسي وهو مقذوف.
وكذلك كان الشعراء يأخذون طرائقَ التفكير من الأحزاب ومسالك التعبير عن النقاد، ولم يكونوا في أنفسهم شيئًا مذكورًا.
ثم كان ما كان من الحوادث التي شتَّتت شمل الجميع، فخَفَتَ كثير من أصوات أهل النقد والسياسة وعاد الشعراء إلى السكون.
إلا أننا في حاجة إلى شعراء ينظرون بعيونهم، ويسمعون بآذانهم ويفقهون بقلوبهم، فهل نحن واجدون؟
٦
قرأنا «دواعي الشعر» فإذا بصاحبها الأستاذ زكي مبارك قد نال من شعراء العصر شديدًا، وطأطأ من كرامتهم ما شاء، حتى كاد يبتعث الحفائظ ويوغر القلوب، فقد جاء فيها عن الشعراء حيث يهتف بهم قوله: «قاتلكم الله! تضحكون في موضع البكاء، وتفرحون في موقف الحزن، ولو كانت لكم ضمائر شاعرة، وبصائر ناظرة لبكيتم مع الباكين، ونحتم مع النائحين، فقد ذلت هذه الآثار بذلكم، وضعفت بضعفكم.»
وجاء في موضع ثانٍ منها قوله: «لقد كثر شعراء مصر، وتوفروا على معنًى واحد، كما تكثر الأشجار في بقعة واحدة فيأكل بعضها بعضًا، ثم لا تزهر ولا تثمر»، وقال في غير هذين الموضوعين: «أهؤلاء الجبناء»، وجاء في محل ثانٍ قوله: «لقد مات منهم من مات، واغترب من اغترب، وبقي جماعة يقلون عند الفزع ويكثرون عند الطمع.»
لشد ما نال الأستاذ من الشعراء، وغلا في الازدراء بهم، على أن هذا ليس من النقد في شيء.
إنَّا لَنطالب الأستاذ — جد المطالبة — ونأخذه أخذًا شديدًا بأن يخرج بالمعذرة من تلك البادرة، وذلك أكبر الظن بأدبه، والعهد به، والسلام.
٧
قرأتُ ما كتبه الأستاذ السيد حسن القاياتي عن «دواعي الشعر»، فحمدت له غيرته على إخوانه الشعراء، ورفقائه الأدباء، وسَرَّنِي أن كان أول الذائدين عن حياضهم، والرافعين للوائهم، فكان كما قال الشاعر:
ثم عجبت وحق لي أن أعجب، من رغبته في أن أعتذر وهل أذنبت يا صاح؟
لا تنس يا صديقي أن كرامة الوطن، فوق كرامة الأدب، وأن الشعر وسيلةٌ لا غاية، وأننا جميعًا نسعى إلى غرضٍ واحد، هو تحرير البلاد.
فمن كان أكثر الناس إشادة بذكر الحرية وتغنيًا بالاستقلال فهو شاعرنا المفلق، وكاتبنا المبدع، وإن كان شعره منحل العقد، ونثره مختل البناء.
أنت شاعر، ولكن في أي عصر؟ في العصر الذي قلت فيه:
وحافظ شاعر، ولكن في أي زمن؟ في الزمن الذي قال فيه:
كنتم شعراء يوم كانت قصائدكم تَهيم في كل وادٍ ومعانيكم تدب في كل قلب، ويوم كان الطلاب في مدارسهم والعمال في مصانعهم يشيدون بذكركم النابه، ويتغنَّون بشعركم الجميل.
فأما اليوم وقد جنحتم إلى السكون وركنتم إلى الهدوء، وهجعت منكم تلك البراكين الثائرة، وتواردت تلك الشموس الباهرة، وأخليتم الميدان لكل مجرٍ بالخلاء ومستأسد بالعراء، ثم طويتم اللواء وفررتم من الهيجاء؛ فإنَّا ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا، وكما تركتم الأدعياء يُصدِّعون الرءوس ويُزهقون النفوس، يغتصبون الشهرة اغتصابًا ويستلبون المجد استلابًا، كأن ليست للنقد عينٌ ساهرة وكأنكم لا تسمعون.
يجب أن تعتذر أنت يا صديقي وأن يستغفر إخوانك؛ فقد فرَّطتم في جنب الوطن ونسيتم حق البلاد.
أين الشعراء؟ أين الأدباء؟ إني والله …
ولكن ما العمل؟ والدهر عابس والوقت عصيب، ويكاد المرء ينسى أباه إن خذله ويهجر أخاه إن خلاه، فهل بقي في قوس الصبر منزع، أو عادت للرجاء بقية، وهذا البلاء يتطاير من كل جانب والأمل ينهار في كل وادٍ؟!
يا صديقي إن شموخ الأهرام وجلال النيل وجمال مصر، وما إلى ذلك من المعاني التي أوحت إليك وإلى إخوانك الشعر؛ تتطلع إليكم بعينٍ كلها أمل وقلب ملؤه الرجاء، فهل فيكم اليوم من مستعد أو هل لديكم من معين؟
وا حر قلباه!
٨
عاتبنا الأستاذ زكي مبارك على نبوة كانت منه إلى الشعراء، وهنات اعتمدهم بها في مقاله «دواعي الشعر»، وأخذناه بأن ينزل على حكم الحق من بذل المعذرة، وإعطاء النصف من نفسه، فأعتبنا في الأفكار بكلمةٍ جافية حديدة كأنها الكأس الأولى، لولا ما يلطفها به من مزاج التودُّد والازدلاف إلى ناحية من المرضاة، فسامحنا فيما أوحش منها لما آنس، واغتفرنا ما أحفظ لما أرضى، فكانت كأسًا شربناها على قذاتها، وعتبى صديق تقبلناها على علاتها، فلم نكد نقول: آهًا منه، حتى قلنا: واهًا له!
ومن لك يومًا بأخيك كله؟
لاذ الأستاذ منا بالوطن، فذكر بحقوقه، وأرى من نفسه — بحق — أن غضبته للوطن كانت، ومحاماته ونضحه إنما كانا حمية له، وأنه زرى على الشعراء لتفريطهم في جانبه، ونومهم عنه فيما يقول: مهلًا قليلًا أيها المذكر بالوطن وحقه، فما ذكَّرت ناسيًا، ولا نبَّهت غافلًا، إن بنا من الوجد على ذلك الوطن والحدب عليه، مثل ما بك غلة تحرق، وجوًى يؤرق.
وتلك طريقٌ لست فيها بأوحد.
ذلك حق كله، ولكنك تعلم أننا قد غشيتْنا غاشية، ودهمتْنا حال تركت إفصاحنا في التوجع، وبياننا في التفجع، كبيان الطير تهفو إلى وطن وحنين الإبل تغدو إلى عطن.
شجو حزين، ومنطق لا يبين.
شاهدي على ذلك مقالك أنت، ألست القائل آنفًا؟ «ولكن ما العمل والدهر عابس، والوقت عصيب.»
على أن أحدنا لا يزال يرفع صوته في الفينة بعد الفينة، بالكلمة كأنها دمعة يتيم، وعبرة مجهور، ينطق بها لحنًا، ويرسلها في حذار ورقبة، ثم يجس على أثرها رأسه، هل طار عن جسده؟
أترى نعيش إلى انطلاق الألسن؟
ما بالك أيها الأستاذ تشركنا في العمل وتفردنا بالتعجب، كما يقولون.
وتلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها.
إن لك بيانًا ولسانًا، فأين الذي لهما من أثر في هذه الآونة؟ إن قلت قلنا، وإن سكت سكتنا، وليس بنا أن نجحد فضلك.
لقد هجت عجبًا وأحدثت طربًا حيث تقول: «فمن كان أكثر الناس إشادة بذكر الحرية، وتغنيًا بالاستقلال، فهو شاعرنا المفلق، وكاتبنا المبدع، وإن كان شعره منحل العقد ونثره مختل البناء.»
إن للغربان والضفادع أوطانًا، وفي الحق أن يذود كل ذي وطن عن وطنه، بيد أنه ليس بحسن ولا جميل نعيب الغربان ونقيق الضفادع! أكل صائحة تطربك أيها الأستاذ؟ رويدًا لا يسمعك الأدعياء والمتشاعرون، فتملأها علينا نعيبًا ونقيقًا، لا والله لا يُحسن الذياد عن الوطن ولا النضح عنه حتى يكون قولًا عليه مسحة السحر، وله أخذ كأخذ النفث في العقد ينزل على حكمه العصي ويصحب الجموح، أين أنت من البلابل المغردة والطيور الساجعة، أمثال كتاب الأفكار ولا أمثال لهم؟!
عد عن ذا — كما يقول الشعراء — وتعالَ إلى حديث بشاشة وإحسان، بعد حديث عتب وإعتاب، لقد علمت أن جريدة الأفكار أندى الجرائد صوتًا بالحق، وأرحبها صدرًا للحرية، فبعثت إليها بكلمة طريفةٍ في سبيل الوطن، وأكبر ظني أن رئيس تحريرها النبيل متفضِّلٌ بنشرها، فإن نُشرت فلن تفتري — إنْ كنت من الممترين — في أن الشعراء يَفُون لوطنهم بعض الوفاء وأن لهم قلوبًا ترعى كرامة الوطن، وكرامة الأدب، ولعلك تقول مكان «وا حر قلباه!»: «وا طرَباه!» والسلام.
٩
لقد سبقت كلمتنا في إعتاب السيد حسن القاياتي، وكنا حسبناه أكبر ما شرحناه، إجلالا للوطنية، وأحمد ما كتبناه، إعظاما للحرية فإذا به يدأب في العتب، ويصر على المحاسبة، كأن ليس لنا عنده من عذر، وكأن الشعراء ليسوا بخاطئين.
أراد السيد حسن أن يعتذر عن إخوانه الشعراء، وأن يغسل عنهم عار الكسل والخمول، فذكر من عنت الدهر، وريب الزمن، ما ظنه شافعًا في سكوتهم، مبررًا لجمودهم، كأن في ضم الفكرة إلى مثلها، ووضع البيت بجانب البيت، شيئًا من التجمهر يأباه القانون، ونوعًا من المظاهرة تُحاربه السلطة، وكأن القصيدة ذات القوافي الكثيرة، والفِكَر العديدة شبيهة بالعصبة تجتمع في طريقٍ واحدٍ، لغرض واحد، وكأن الشاعر الشاكيَ الخيال شبيهٌ بالثائر الشاكي السلاح.
قد يكون الشعر الباهر، كالسيف القاهر، وقد تكون القصائدُ البارعة كالقنابل الرادعة، وقد يتهيب جانب الشاعر، فوق ما يتهيب جانب الفارس، فيكون من كل هذا عذرٌ لإخواننا الشعراء ورفقائنا الأدباء، ويكون سكوتُهم من الجبن أبعد، وإلى الحزم أقرب.
ولكن ألا يجب يا صديقي السيد حسن أن يكون لعصرنا من طريف الاستعارات، وحديث المجازات، ما يرفع ذكرنا في الأواخر، ويلحقنا بالأوائل ممن لبسوا لكل حالة لبوسها فصرحوا تارة، ولمحوا أخرى، ونالوا بالمثل الخرافي، ما لم ينالوا بالشعر الحماسي، أفكانوا بقومهم ناهضين، لأعدائهم قاتلين؟
فهبني اعتذرت عما نسبت إليهم من الجبن، ورجعت عما وصفتهم به من الخوف، أتراني لا أنعتهم بضيق الحيلة، وضعف الوسيلة، وأنهم لا يعرفون من القول إلا أظهره، ومن الشعر إلا أشهره، وأن مقاتلهم بادية، ومطاعنهم ظاهرة، حتى لا سلامة لحياتهم، إلا بسكوتهم، ولا داعي لحتفهم، غير نطقهم.
لعلك يا صديقي تذكر ما فعل الأعرابي الأسير، ولعلك تذكر ما أرسل الرجل مع عبديه، إلى طفلتيه، وما قال القبعثري للحجاج، وما أجاب به عبد المسيح خالد بن الوليد، ثم لعلك ولعلك …
أتريد يا صديقي أن لا تكون لنا شخصية معروفة، وأن لا يعثر القارئ في الآداب العربية على طرفة أبدعناها، أو بدعة أحدثناها، كأن القول لا يخرج من التصريح، إلى التلميح، وكأن الزمن لم يلجئنا إلى الإشارة بعد العبارة، أو كأننا لا نعرف مقامات الكلام، ومقتضيات الخصام.
لك يا صديقي أن تعتذر عن إخوانك، وعليَّ أن أشكر لك هذه الغيرة، ولكن حذارِ أن تظن أنَّا عملنا كل ما يُمكن، وفعلنا كل ما يُستطاع.
ولقد عجبت من قولك: «إن لك بيانًا ولسانًا، فإن قلت قلنا، وإن سكت سكتنا»، كأنك تحسبني ألومكم ولا ألوم نفسي.
ألا فلتعلم وليعلم إخوانك، أن التبعة واقعة عليَّ وعليكم، وأننا جميعًا في جنب الوطن مفرطون، ولمجد النيل ناسون.
١٠
١١
قد علم القراء ما كان لمقالاتنا «دواعي الشعر» من الأثر في أنفس الشعراء، وقد قرءوا ما كتبه عنها بعض أدباء بورسعيد، وما خطه أدباء القاهرة، فضلًا عما لم تنشره «الأفكار» من الكلمات المتطرفة، والأقوال المتعمدة، من شعر أو نثر، ثم ما دار بيني وبين السيد حسن القاياتي من الأخذ والرد، وما كان من إرساله بتلك القصيدة الرشيقة التي يُخيل إليَّ أنها قدت من قد «إحسان»:
علم القراء كل ذلك، وعلموا أننا أسرفنا في نقد الشعراء، وتأنيب الأدباء، فكان حقًّا علينا أن نشيد بذكر من استجابوا إلى ما دعونا إليه، ونرفع من شأن من نهضوا إلى ما حضضنا عليه؛ حبًّا في الأدب أن يكثر الراغبون في تشييد دعائمه، ورحمة للوطن أن يغفل الذائدون عن ذماره، والحامون لحقيقته.
•••
فمن ذلك ما أرسله إلينا الأستاذ البارع سيد أفندي محمد مدير الكلية الأهلية وهي رواية شعرية، سماها الوطنية، كلها غرر ودرر، وطرائف ولطائف، نود لو عُني بمثلها الشعراء، وكلف بأشباهها الأدباء، فرحموا الشبيبة من الأغاني الهزلية، وعودوهم على الأغاني الجدية، واستغنوا عن الروايات الفرنسوية بالروايات المصرية؛ فإن ذلك للأمة أنفعُ وأمتعُ، وبها أولى وأجدر.
فما جاء في تلك الرواية على لسان مصر الأبيات الآتية:
•••
وأترك للقارئ الحكم على هذا الشعر، وأجزم له أن فيما تركت خيرًا مما ذكرت، ولعل صاحب هذه الرواية يتفضل بنشرها بين أفراد الأمة الكريمة، ويعمل على أن تمثل في القرى والحواضر، فإن ذلك من عزم الأمور.
وكذلك أرسل إليَّ صاحب الفضيلة السيد «أ. س» قصيدة ممتعة، يستنهض بها الهمم الفاترة، ويستحث العزائم الخائرة، نذكر للقراء بعض شذراتها النقية إعظامًا لما للسيد صاحبها من غيرة على الوطن، وإجلالًا لما له من وفاء للبلاد.
فمنها قوله في وصف أهل الشرق:
ثم قال في وصف الغافلين من أهل مصر:
ولقد أعجبنا بقوله في أول القصيدة:
وإني لأتمنى أن يكثر الشعر في تذكير المسلمين بعهدهم الغابر، ومجدهم الداثر، عسى الله أن يجعل من هذه الشعوب قوة تنصر العلم والمدنية، وتحرس السلم والحرية؛ فقد كانوا في القديم سادة المشرقَين وقادة المغربَين، وكانوا غرة في جبين الدهر، ودرة في تاج الزمن. وإني لأرجو — إن عاد للإسلام مجده وفخاره، ورُد إليه عزمه وشبابه — أن نعيد للسلم سيرته الأولى، ونلبسه ثوبه الذي لا يبلى، وعقده الذي لا ينحل.
١٢
كل الناس يدَّعون الحب، وقل منهم من يعرفه، وإنما مثلهم كمثل ذلك الذي نزل ضيفًا عند «جميل» فجعل يأكل ويبث وجدًا به حتى أتى على الزاد كله، فقال جميل وهو يتهكم بصبابته ويهزأ من غرامه:
فمن ذا الذي عرف الصبابة، أو قدر الهوى حق قدره؟
أليس كل ما لدينا من ذلك تلك الطرف القليلة، التي نتناقلها جيلًا بعد جيل عن أولئك الشهداء الذين قضوا نحبهم في الحب، ثم مات الهوى من بعدهم كأن لم يكن شيئًا مذكورًا؟
أما — والله — إني لَأُعيذك أيها القارئ أن تحسب تلك الأسفار العديدة التي ملئت بالنسيب، ثروة للأدب والشعر؛ فإنما هي صدى أولئك الشعراء الذين وفوا لربهم، فأنعموا النظر في تعرف الجمال، وتفهم الصبابة، ويا بعد ما بين المحكي والحاكي.
كان الحارث بن خالد المخزومي من أحسن الناس تشبيبًا، ويزعمون — مع ذلك — أنه كان يقول النسيب تظرُّفًا ولا يعتقده، وكان أكثر شعره في عائشة بنت طلحة، فلما قُتل عنها مصعب بن الزُّبير، قيل له: لو خطبتها، فقال: إني لَأكره أن يتوهم الناس أني كنت معتقدًا لما أقوله فيها.
فيا عجبًا، أَحَسِبَ ذلك الرجل أن من الشرف أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وأن من الضعة أن يكون قلبه مرشدًا للسانه؟!
لقد اعتاد الشعراء — من عهد بعيد — أن يبدءوا قصائد المديح بالنسيب، فكثر لذلك المتعشقون، وتعدد المتظرفون.
ولا أُنكر أن يكون لكل شاعر صبوةٌ، ولكني أعرف — مع ذلك — أن ليس الهوى في كل حين بلذاع، فخيرٌ للشاعر أن يكون وفق قلبه، ينسب إن اشتاق للنسيب، ويفتتح قصائده بما قيلت له، إن خبتْ نار وجده، أو دب السلو في هواه.
قالت سكينة بنت الحسين لعروة بن أذينة — وكان من الزاهدين: أأنت الذي تزعم أنك غير عاشق، وأنت تقول:
والله ما خرج هذا من قلب سليم قط!
ولو أن سكينة سمعت قوله:
لرحمته في وجده، ورثت له في هواه.
وهنا ألفت نظر القارئ إلى خطأ كُتَّاب التراجم، فيما يزعمون من عشق الفرزدق وخلو جرير، في حين أن جريرًا كان حلو النسيب، وكان الفرزدق فاتر التشبيب، فيا قوم:
فكيف تزعمون أن جريرًا لم يعشق وهو القائل:
وكان يقول: والله لولا ما شغلت به من هذه الكلاب لشببت تشبيبًا تحن منه العجوز إلى شبابها والجِمال إلى أعطانها!
أم كيف تزعمون أن أبا العتاهية كان يقول النسيب تظرفًا لا عن عشق وهو القائل في بعض قصائده:
ولعلكم فُتنتم بما يُذكر من براءته من الحب وإبائه النسيب لَمَّا أمره بذلك الرشيد، ولَعمري لقد كان من أصدق الناس حبًّا، وأَمْتَنِهم صبابة، ثم عاد أنصفهم لنفسه وللأدب، فإن الرجل كان كبر، حينما أشار عليه الرشيد بالنسيب، والكبر يُودِي بالحب، ويَذهب بالصبابة.
وكان المهدي قد ضربه مائة سوط لقوله:
وقال: أَبِي يتمرس، ولحرمي يتعرض، وبنسائي يعبث؟ ونفاه إلى الكوفة.
ثم تلطَّف أبو العتاهة حتى اتصل بالرشيد في خلافة أبيه، وتمكَّن من قلبه، وبلغ المهدي خبره فأحضره وأنبه على ما قال من النسيب بعد نهيه عنه، فيا لله من ظلم العواطف.
ثم قال له: إن شئت أدبناك بضرب وجيع، لإقدامك على ما نُهيت عنه وأعطيناك ثلاثين ألف درهم، جائزة على مدحك لنا، وإن شئت عفونا عنك فقط.
فقال: بل يضيف أمير المؤمنين إلى كريم عفوه جميلَ معروفه، ومكرمتان أكثرُ من واحدة، وأمير المؤمنين أولى مَنْ شفع نعمه، وأَتَمَّ كرمه، فأمر له بثلاثين ألف درهم وعفا عنه.
ولما قدم الرشيد الرَّقَّة، أظهر أبو العتاهية الزهد والتصوف، وترك الغزل، فأمره الرشيد أن يتغزل، فأبى، فأمر بحبسه، ثم نمى إليه بعد أيام أنه سمعه يتغنى بقوله:
فأمر بإحضاره وقال: بالأمس ينهاك أمير المؤمنين المهدي عن الغزل فتأبى إلا لجاجًا ومحكًا، واليوم آمرك به فتأبى جرءة وإقدامًا.
فقال: يا أمير المؤمنين إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.
كنت أقول الغزل ولي شباب وجدة، وبي حراك وقوة، وأنا اليوم شيخٌ ضعيف لا يَحسن بمثلي التصابي.
مرحى، مرحى يا أبا العتاهية، إنك — والله — لحازم ندب، عصيت الخليفة وأطعت الأدب، والأدب خير من الامتثال.
خرجت على الرشيد، فلم تقل بلسانك ما ليس في قلبك، ولم يستطع الشعراء أن يخرجوا على تلك العادة القديمة، من استهلاك المديح بالنسيب، فكان ما نراه من القول الذي لا لُبَّ له، والشعر الذي لا روح فيه، ولو أنهم أطاعوا ضمائرَهم عند حرارة الصبابة، فقالوا في ذلك ما شاءت لهم المشاعر والأهواء، ثم سكتوا عند خمودها؛ لكانوا في الأولى صادقين، وفي الثانية منصفين.