الأدب الجديد
أكنت تحسبنا في حاجة إلى أن نبني دارًا جديدة للبرلمان لو أن قصر «اللابيرانت» موجود؟ إننا لو فعلنا ذلك لكنا من المسرفين، وهل ترى من الحزم أن نبني قناطر أخرى بمحاذاة القناطر الخيرية وهي ما هي في متانة البناء؟ وهل ترى من حسن الإدارة أن نحفر مجرًى آخرَ للنيل يُساير فرع رشيد أو فرع دمياط، على حين لم يشكُ أحد الظمأ بالقرب من هذين الفرعين؟ وهل تجد من الرأي أن يُبنى مسجد جديد فوق القلعة وإن كان مسجد محمد علي يسع أضعاف المصلين هناك؟
الأمر واحد أيها القارئ في عالم المحسوسات وفي عالم المعقولات، فما بالنا نبني ما لا حاجة إليه في الآداب باسم التجديد والإبداع؟ وأُريد أن أُقدِّم لك هذا الموضوع بشيء من التفصيل، هل تذكر أن النقاد الأقدمين فضلوا جريرًا على الفرزدق؛ لأن هذا ماتت امرأته «النوار» فلم يبكها إلا بقصيدة جرير في بكاء امرأته:
وهذا لا يدل عندي على أن الفرزدق أضعف من جرير في الرثاء، ولكنه يدل على حبه للقصد وبغضه للإسراف؛ وإلا فما الحاجة إلى أن ينظم في رثاء امرأته قصيدة جديدة وأمامه قصيدة جرير تساعده على البكاء.
إن عرائس الشعر في عالم المعقولات تشبه الأنهار في عالم المحسوسات، فكما لا يجوز أن تحفر نهرًا جديدًا تُتلف في سبيله ما شئت من المباني والمزارع من غير حاجة ماسة؛ لا يجوز أن تنشئ قصيدة جديدة تسهر من أجلها ليلك من غير سبب معقول، وليس معنى التجديد والإبداع أن تزيد أو تنقص ما أجاد فيه من قبلك الكُتاب والشعراء، وإنما تكون مبدعًا حين تنشئ آثارًا جديدة فيما غفل عنه الأقدمون أو قَصَّرَ فيه المحدثون. وَلْأضربْ لك الأمثال:
ألم تشكُ مرة غدر الصديق؟ ألم تُحاول النيل من أخ كان وفاؤه طيب الحياة، ثم عاد غدره نكد الحياة؟ فإن كنت وقفت هذا الموقف في حياتك الوجدانية، فهل تذكر أنك فزعت بعد نية القطيعة إلى الصفح الجميل؟
كثيرٌ منا عالج هذا الموقف العصيب، ثم هم بأن يحبر عنه رسالة، أو ينظم فيه قصيدة، ولكن ألا يكون من العبث أن يفعل ذلك وقد سبقه الشريف الرضي إلى الغاية القصوى في استبقاء الصديق؟
وإليك ما قال الشريف:
خَبِّرْني بربك ما الذي ينقص هذه الصورة الشعرية حتى تحاول بناءها من جديد؟ وما الذي بقي في نفسك بعد هذا التفصيل حتى تتورط في الفضول؟ إذن فلتكنْ هذه القطعة أنشودتَك حين يبدو لك ما يسوء من صديق قديم.
وبعد هذا، أتذكر أنك ظمئت إلى بعض الثغور، وأنك حين وردت عدت وأنت صديان هائم، ثم هممت بأن تقول شعرًا في هذا المعنى الجميل؟
قل الحق، فكلنا ظماء، ولكن هل وجدت أبدع من قول ابن الرومي:
وماذا عسى أن تصنع إذا حاولت بسط هذا المعنى البديع؟ إنك لا بد مفسده إذا أقدمت على هذه المحاولة، ويجب أن تعلم أن الثوب حين يلابس الجسم لا يجمل به بعد ذلك أن يتسع ولا يحسن به أن يضيق، وكذلك الصورة الشعرية حين تلابس المعنى المراد.
وهل تذكر أنك هجرت بعض البيوت غير قال ولا صادف، ثم أقبلت على بعض البيوت غير عاشق ولا وامق، وأنك عجبت لترك حبيبك إرضاء لبغيضك، حين أقبلت على بيت عدوك وأوليت بيت حبيبك الصدود؟ وهل تجد في مثل هذا الموقف أجمل من قول الأحوص:
فما الذي فات الشاعر في هذا الموقف حتى تضع له غير هذه الأبيات؟ ففي البيت الأول خلاصة الحديث، وفي الأبيات التالية إيضاحٌ وتفصيل، ولعلك لا تجد أحكم من قوله:
وهل تذكر أن صديقًا لَجَّ في عتابك وكنت في وُدِّه من الأوفياء، وأنك أردت إقناعه بأن الحياة قصيرةٌ، وأن الحزم كل الحزم في الانصراف عن العتب واغتنام أوقات الصفاء؟
هذا معنًى فطريٌّ يجول في جميع النفوس، ولكن هل تجد فيه أجمع من قول سعيد بن حميد:
ألم تر إلى الشاعر وقد سد في وجه صديقه منافذ الفراق؟ ألم تر إليه وقد تحسر على أيام كان يظنها ظوالم وهو الآن يبكيها بالدمع السخين؟ فما معنى ذلك؟ أليست هذه دعوة رفيقة إلى اغتنام الصفو العتيد؟ ولا تنس خوفه من أن يموت أحد الصديقين فتكون قاصمة الظهر، وغائلة الفؤاد؟ وتأمل رفقه في قوله:
بربك هل تجد أرفق من هذا الدعاء؟ وهل ترك لك الشاعر شيئا تقوله في هذا الباب؟ إذًا لا تحاول أن تضع شعرًا جديدًا في هذا المعنى الذي وَفَّاهُ سعيد بن حميد حتى لا يقبل المزيد.
ولا أشك — أيها القارئ — في أنك رزئت مرة برجل أكول، فإن لم يكن ذلك فاعلم أنه سيكون، وأني مقدم لك قول ابن هانئ الأندلسي في هذا المخلوق:
هذه نماذج من الأدب القديم، وقد قدمت لك أن من العقل أن ننتفع بما للأسلاف من الأدب الممتع الرصين، ومن الأدب ما صار ميراثًا للإنسانية جمعاء، فلننتفع به كما هو ولنُعْفِهِ من التغيير والتبديل، وإذا شئنا أن يكون لنا أدبٌ جديد فليكن في موضوعات جديدة لم يتناولْها الأقدمون، وإلا أضعنا ما طمحوا إليه من الخلود، وأسأنا الانتفاع بما قدموا من جهود.
رفقًا بالورق والحبر والمطابع يا حَمَلة الأقلام، لا تكونوا أبواقًا للقدماء، بل كونوا شيئًا يذكره التاريخ، لا خير في الكاتب إن حُرم الصدق والأمانة، وليس في السارقين صادقٌ أمين، اكتبوا بأنفسكم ولأنفسكم، فإن لم تستطيعوا ففي الأدب القديم ما يروي ظمأكم — لو تعلمون!
الطبيعة والإنسان
كل ما وجد في الإنسان، أو خُلِقَ له، أو أحاط به يَبلى ويتغير ويبيد، فهو يمشي من الربيع إلى الخريف، والقوانين، والعادات، والفنون الجميلة والممالك؛ كل هذه تنتقل من الجدة إلى البلى ومن الشروق إلى الغروب، وأحيانًا تخترم وهي في عنفوان الشباب!
ومع ذلك فإن الطبيعة تظل متمتعة بالثبات والخلود، على الرغم من وفرة الاستحالة والتطور والانقلاب.