في موقف التوديع
لم أجد فيما أعرف من فلسفة اللغة أصدق من كلمة «وداع»؛ فإنها مفترقة الحروف إذ كانت تؤذن بالفراق:
الوداع، ما هذا الذي أجد عند كتابة هذه الكلمة؟ ما لي أغص بريقي حين أراها مسطورة في كتاب؟ أتراها قبست من قلوب المودعين فهي جمرة تلتهب ونار تشتعل؟ أم تراها أُخذت من زفراتهم المتقطعة، فهي تقطع القلوب، وتفتت الأكباد؟ وما لي أراها محزنة مبكية؟ أتراها عين ما سمي بها، ونفس وما وضعت له؟ أم هي مقلوبة عن «أوعد» ففيها الإرهاب والتخويف؟
أَمَا — والله — إنه لَيُخيل إليَّ أن واوها أُخذت من الوجد، ودالها من الوعد، وألفَها من الدار، وعينَها من الدمع، فكان أولها لهيبًا، وآخرها نحيبًا، ثم كان افتراق حروفها نذيرَ الفراق، فأخلف الوعد وبعدت الدار.
الوداع؟! يا عجبًا! وهل أبقت مني مواقفه المشجيات، ومشاهده المبكيات، ما أقدر به على استحضارها وتصويرها، اللهم إلا ما أعرف من نومي المطرود، وهمي الممدود، وذلي الموجود، وعزمي المفقود، ودمعي المسكوب، وقلبي المحروب، وصبري المغلوب، ثم ما أغص به من شماتة العذال، وما أشجى له من رحمة الأحباب؟
وما أعاني من حسرة في صباحي، ولوعة في مسائي، حتى عدت أضنى من جفن الحبيب، وأقل من نوم الرقيب.
الوداع، لعلي ما رأيت نعمة في نقمة، ومنحة في محنة، أو بؤسًا في نعيم، وروحًا في جحيم، إلا في موقف التوديع، ومشهد التشييع. فلو رأيتني حينذاك لرأيت يسراي على قلبي مخافة أن ينشق الصدر عنه، فإذا أنا صريع، ويمناي تتعرف معالم الترف ومعاهد النعيم، من حبيبي الراحل وأنيسي الظاعن، فإذا رأيت ثم رأيت وحشة وأنسًا، ونعمة وبؤسًا، ورأيت عينًا لم تشغلها الدموع عن النظر، ولا أغناها النظر عن الدموع، فهي ناعمة بائسة، وآملة يائسة، وضاحكة باكية، وطائعة عاصية.
الوداع، إنه كالعشق، يجعل الجبان شجاعًا، والبخيل سخيًّا، فقد كنت أجبن عن لقاء من أهوى، فجرؤت يوم البين على سلامه، وحديثه وضمه وعناقه، وكان بخيلًا بملاطفتي ومجاملتي، فسخا يوم ذاك، وحياني وفداني.
لقد كنت في شك من حبه إياي، ورفقه بي، وعطفه عليَّ، فكنت أُغالب الدمع، وأُصانع الحزن، أما اليوم، فقد عرفت مكانتي عنده، ومنزلتي لديه، فلينزل الدمع غير مدافع، وليغلب الحزن غير منازع.