الإحسان إلى العقول
كَتب التاريخُ — فيما كتب — أن الأمير عبد العزيز بن مروان كانت له أيادٍ بيضاء على المعوزين في مصر، ولا زلت أذكر ما طربت له من وصف الأستاذ محمد بك الخضري لذلك الأمير الجليل حينما عرج على ذكراه في الجامعة المصرية. ولم يكن عبد العزيز بن مروان واحدَ الناسِ في الكرم والأفضال حتى أخصه بالطرب لِمَا عمل، والإعجاب بما صنع، ولكن الذي انتشيتُ له إنما هو وجودُ باحةٍ سعيدة في الديار المصرية، ابتسم فيها الجود للعافين حينًا من الدهر، ومن ذا الذي لا يستروح لذكرى السعادة مرت ببلاده ففَلَّت من غرب الشدائد، ونالت من جانب الأحداث؟
أجل! كان ابن مروان موئلًا للنفوس الحيرانة أعوامًا معدودات ثم انطوى بِرُّه، حينما انطوت أيامه! ولم يبق من جوده بقية تفزع إليها النفوس الهاربة من الفقر! وكذلك لم يبق من ذكراه إلا كلماتٌ قلائلُ حُفظت في الكتب المنسية! وذهب ما قيل فيه من جيد الشعر، وبارع النثر، وأكثر ما يُعرف عنه أنه والد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وكان أولى أن يُعرف بجُودِهِ الشامل، قبل أن يُعرف بابنه العادل!
كذلك كان الناس — فيما سلف — يعملون لليوم لا للغد، ويحسنون إلى البطون، لا إلى العقول! اللهم إلا أفرادًا كانوا يثيبون على الكتب المؤلفة، وربما حسبوا شيئًا من مالهم على المساجد يدرس فيها العلم، ويذكر فيها ذو الجلال والإكرام.
تلك أيامٌ خَلَتْ، وقد اكتفينا بما لدينا من التكايا والمساجد، ووجب أن تتوجه العزائم إلى الأعمال التي تَخلق الأمم خلقًا جديدًا، وينال صاحبها من كرم الأحدوثة ما لا يذهب به كر الغداة ومر العشي، ولن يتمثل ذلك إلا في إنشاء المعاهد العلمية، والعمل على تكوين العقول، وتهذيب النفوس. وأكثر ما يتضح ذلك في العمل الذي قام به منشئو الجامعة المصرية، التي أخذتْ منذ سنوات تَبعث العلمَ من مرقده، في هذه البلاد التي كانت نقطة الاتصال بين الشرق الناهض والغرب الهامد، والتي لولاها ما حُفظت علوم العرب التي كانت نواة هذه المدنية الفسيحة الأرجاء.
إن الجامعة المصرية لم تعد في حاجة إلى الإشادة بذكرها ليلتفت إليها الناس، ولم يكن أبناؤها بالقليلي العدد حتى يقول قائلٌ: ما الذي صنعته في ترقية البلاد؟ ولكن كلمة واحدة تختلج بين شفتي من حين إلى حين وأريد أن أقول: هل يذكر كل قادم إلى الجامعة المصرية من منتسب أو مستمع أنه ضيفُ صاحبة السمو الأميرة فاطمة بنت إسماعيل — تغمدها الله برحمته — أو ضيف المرحوم حسن باشا زايد أو أحمد بك شريف، ومن نحا نحوهم في الخروج من بعض ماله لتشييد هذا المعهد الذي تفزع إليه العقول؟! وهل يفكر بعض طلبة الجامعة من الذين قُدر لهم أن يكونوا أغنياء أو ذوي دالة على الأغنياء، أن يكثروا من أصحاب الأيادي البيضاء على هذا المعهد بما يبثونه من تبجيل من سهروا عليه وهو وليد؟
أما أنا فلا أملك غير الوفاء، وسأجعل لأولئك الكرام النفوس منزلة من قلبي تعز على من رامها وتطول، وليشهد الله وملائكته والناس أن لكل من مد يده لمساعدة الجامعة المصرية دينًا عليَّ قضاؤه الشكران، أين البيان والإفصاح؟ أين الشعر الجميل والنثر البديع؟ أين شعر زهير في هرم بن سنان؟ أين مدائح البحتري للفتح بن خاقان؟
اللهم إني أعجز عن أداء ما عليَّ من واجب الثناء على أولئك الأمجاد، فاكتب لهم عندك ما يطربون لمرآه يوم يبعثون.