أرواح الكتاب
عزيزتي فتحية
وصل إليَّ خطابك السادس، وكنت جديرًا بشكر يمناك الجميلة على ما صنعت أناملها الحسان، ولكني لا أزال أشعر بالوحشة، كأن لم تكتبي إليَّ حرفًا، ولم يصلني منك كتاب! غير أني لا أُنكر أن قلبي يخفق في كل صباح، كلما قرب قدومُ البريد، ولقد صرت أحسب حَمَلة الرسائل شرذمةً من الملائكة، ينقلون السلام من قلب إلى قلب، ويصلون بين النفس والنفس، حتى لقد هممت أن أُسبِّحَ بحمدهم في أوقات التوزيع! كما يُسبح فريقٌ من الناس للشمس عند الشروق.
أجل، لا أزال أشكو الهجر والصدود، فإذا كنتِ تحسبين أن في هذه الرسائل برءًا لقلبي من جَوَاهُ، وجسمي من ضناه، أو إذا كنتِ تظنين أن في إرسالها إليَّ إمتاعًا لنفسي التي تكلف بالحسن وتولع بالجمال، أو إذا كنت تأملين أداء ما يفرض الحب على فتاة تعلم أن حياة عاشقها أثر من آثار يديها، كما كانت حياة الزهر أثرًا لِمَا للشمس من ضياء، إذا كنت تنتظرين شيئًا من ذلك فأنتِ واهمةٌ يا فتحية، نعم واهمة، وإن ألم فؤادك الذي يفيض بالإحساس. إن الرسائل التي تكتبينها إليَّ ليست من إملاء قلبك الشفيق، ولكنها كلماتٌ منقولةٌ من الروايات التي يتراسل فيها المحبون. على أن الرسائل التي تُكتب في القصص على هذا النحو لا تمثل أفئدة الأوانس؛ لأن كتابها رجالٌ يتمثلون عواطف النساء! فهم مقلِّدون وحاكون! وإنه لَمِنَ المخجل أن يُملأ عالم الأدب بتقليد التقليد! فأنت تمثلت عواطف رجل كان تمثل عواطف امرأة! وجديرٌ بخطاب هو تمثيلٌ لتمثيل أن ينال من قلب القارئ ما ينال الحديث المعاد.
لم أكد أقرأ خطابك الأول حتى بعثت إليك بزجاجة من العطر كتب عليها تاجرها الخاص «احذروا من التقليد»، وكنت رجوت أن لا يفوتك النظر في هذه النصيحة الثمينة! ولكن خاب الرجاء وتوالت رسائلك على هذا النمط الذي أشفق على أصحابه أن يموتوا وهم أحياء، وإنهم لميتون.
ستقولين عاشق لا يُحسِن الخطاب، وإني لكذلك إذ قلما يظرف الشيوخ، لولا أنك ستعلمين الآن أني لم أطع غير داعي الإخلاص، ألا ترين يا فتحية أني كثيرًا ما أتحين الفرص لأحدثك وأنت غافلةٌ، وأنظر إليك من حيث لا تشعرين، طمعًا في أن أظفر منك بلفتة لم يشنها التصنع وخطرة لم يُفسدها التقليد؟ أتحسبين أنه لو أقبلت عليَّ فتاة ملء العين والقلب كان في مقدور الجمال أن يزحزح هواك من قلبي حتى تحل منه مكانًا كان قبلك غير مأهول؟ وهل ترين أن ذلك لو صح على سبيل الفرض والتقدير، كنت أقدر على التفوُّه بكلمة الإخلاص والفناء في الحبيب، وإذا كان محالًا أن أفتح ذراعي لفتاة غيرك وهي تقبل عليَّ وتصدف عن سواي، فكيف أطرب من كلمات تقدمها معشوقة إلى عاشق، من حيث لا يصح لِفَتَاك المدله أن يسمع لغير ما يجري على شفتيك من حديث؟ أم كيف أعتد بخطاب وضعه رجل على لسان امرأة، فكان غاية في المسخ والتشويه؟
لم يرقني من تلك الرسائل إلا ما فيها من الأغلاط الإملائية؛ لأنها تمثلك، وقد حفظت بعض المقاطع المختارة، فبدا لك أن ترسلي شيئًا منها إلى محبك المسكين، ظنًا منك أنه يسكن إلى الكلام الجزل، ويخلد إلى القول الرصين، وقد فاتك أن تذكري أني حفظت في عهد الحداثة أكثر ما كتب الحريري، والخوارزمي، والبديع، ومن إليهم من فحول الأدب وأعلام البيان، وأني وإن نسيت أكثر ما حفظت إلا أني لا أزال أملك من آثارهم ما يغنيني عن النظر في أكثر المخطوطات الجديدة، التي تقترب في مبناها من تلك السبائك التي تعز على من رامها وتطول، فما كان أغناني إذًا عن …!
إن هناك فرقًا بين عاطفة الحب وبين الحاسة الفنية، فأنا أنعم برسائلك من ناحية غير ناحية الصبابة، ولست أناجيك حين أقرؤها؛ لأنك لم تصوري بها قلبك وهو يفيض حنانًا على محبك الذي يعيش في أهله كالغريب! ولولا أنك كتبتها بخطك الذي يسحرني خلوصه من شوائب التنميق، وأفضت عليها عبقًا من روحك حين الاختيار، ولولا أنها منك يا فتحية؛ لعددتها من سقط المتاع! لأني لا أطرب للآداب والفنون، إلا من حيث هي وسائل إلى القلوب الصوادف، وقد منحتني قلبك، والحمد لله والحب، فما الذي حال بينك وبين إرساله إليَّ في ثنايا الخطاب؟
أتذكرين الكلمة البديعة التي وصلتني منك في العام السالف؟ أنا أذكرها لك الآن لتعلمي أني أعشق الروح قبل أن أعشق ما يصور الروح، تلك هي قولك في حلو العتاب «والدي واخد على خاطره من سيادتكم»، وكذلك فلتعلمي أن اللغة الفصيحة لا تحلو منك إلا بعد أن تتذوقي الآداب، وبهذه المناسبة أرجو أن لا تكتبي إليَّ ثانية باللغة الفرنسوية؛ لأني لم أطمع بعدُ في أن أسمع منك رجع الحمائم في أبراج باريس! وكم تمنيت أن تُدرك الفتيات المصريات سر اللغة العربية، فيسمع منهن المصريون ما كان يسمعه توبة من ليلى الأخيلية، وما كانت تدخل به ولادة على فؤاد ابن زيدون.
عفا الله عنك يا فتحية؛ فقد أخطأت من حيث أخطأ الناس، وإني لَأرجو أن لا يكون النهوض فرديًّا في مصر على حين أصبح خلقًا عامًّا في كثير من الأمصار والممالك، فإن عدت إلى التقليد بعد مبعث الإبداع فسيطولُ اللوم والتأنيب، أما الآن فلك من غفلة الجمهور شفيعٌ، والسلام.