عصر نهضة عالمي
إحدى مشكلات التعريفات الكلاسيكية المقترحة لعصر النهضة هي تلك الحفاوة بإنجازات الحضارة الأوروبية لدرجة استبعاد ما دونها. وليس من قبيل الصدفة أن الفترة التي شهدت وضع هذا المصطلح هي نفسها الفترة التي شهدت قيام أوروبا بتأكيد هيمنتها الاستعمارية بمنتهى العدوانية في جميع أنحاء العالم. وفي الأعوام الأخيرة، أدت المناهج البديلة لدراسة عصر النهضة من جوانب التاريخ والاقتصاد وعلم الإنسان إلى تعقيد هذه الصورة، وقدمت عوامل بديلة حاسمة لفهم عصر النهضة، كان قد رفضها مفكرو القرن التاسع عشر أمثال ميشليه وبوركهارت؛ حيث اعتبروها غير ذات صلة بعصر النهضة. ويضع هذا الفصل عصر النهضة في إطار العالم الأوسع؛ إذ يوضح أن التجارة والمال والسلع والرعاية والصراع الاستعماري والتبادل مع مختلف الثقافات كانت جميعها عناصر أساسية لعصر النهضة. فالتركيز على هذه القضايا يقدم فهمًا مختلفًا لما شكل عصر النهضة. كما أنه يدفعنا إلى التفكير في إبداع عصر النهضة خارج الإطار المقتصر على الرسم والكتابة والنحت والعمارة. كما أن هناك صناعات أخرى — كالخزف والمنسوجات والأشغال المعدنية والأثاث — شكلت كذلك معتقدات وتوجهات الناس، على الرغم من أن الكثير من هذه الأشياء أُهملت أو دُمرت أو فُقدت منذ ذلك الوقت.
تكمن الإثارة في هذا العمل في الثلث السفلي من اللوحة، بينما يهيمن المشهد المؤثر للإسكندرية على باقي اللوحة. يهيمن على خلفية اللوحة كنيسة ذات قبة مبنية على الطراز البيزنطي؛ وهي بمثابة إعادة تصور خيالي لكنيسة القديس مرقص بالإسكندرية. وتوجد في الساحة شخصيات شرقية تتجاذب أطراف الحديث، بعضهم على ظهور الخيل، والبعض الآخر يقودون جمالًا وزرافة. أما البيوت التي تواجه الساحة فتبدو مزينة بالنوافذ الحديدية والقرميد المصري، وتتدلى قطع السجاد إسلامي الطراز من النوافذ، في حين أن المآذن والأعمدة والركائز التي تشكل خط الأفق هي مزيج من معالم الإسكندرية، وتصورات من إبداع الأخوين بيلِّيني الخاص. والكنيسة البيزنطية هي خليط منتقى من عناصر من كنيستي سان ماركو في فينيسيا، وآيا صوفيا في القسطنطينية، في حين أن الأبراج والأعمدة التي تشاهد على بعد تتوافق مع بعض أشهر المعالم في مدينة الإسكندرية، والتي تم بالفعل محاكاتها في الهندسة المعمارية لمدينة فينيسيا نفسها.
تبدو اللوحة للوهلة الأولى كأنها صورة ورعة للشهيد المسيحي وهو يعظ مجموعة من «غير المؤمنين»، وهي مستوحاة من العالم الكلاسيكي الذي يحترمه ويقدره كثيرًا مفكرو وفنانو عصر النهضة. ومع ذلك، فإن هذا مجرد جانب واحد فقط من القصة. فعلى الرغم من أن القديس مرقص كان يرتدي زيًّا رومانيًّا قديمًا — وذلك بما يتفق مع حياته في القرن الأول الميلادي في الإسكندرية — فإن الملابس التي كان يرتديها الحضور في اللوحة تنتمي بوضوح لنهاية القرن الخامس عشر الميلادي، مثلها في ذلك مثل المباني المجاورة. إن لوحة الأخوين بيلِّيني تصور الاختلاط بين المجتمعات والثقافات في مشهد يستحضر كلًّا من الكنيسة الغربية والسوق الشرقية. فاللوحة عبارة عن مزيج من عالمين: المعاصر والكلاسيكي. ففي الوقت نفسه الذي تستحضر فيه عالم الإسكندرية في القرن الأول الميلادي وحياة القديس مرقص، يحرص الفنانان أيضًا على تصوير علاقة فينيسيا بالإسكندرية المعاصرة لها في أواخر القرن الخامس عشر. ونظرًا لأن الفنانين كانا قد كلفا برسم قصة من تاريخ القديس راعي فينيسيا، فإنهما يصوران القديس مرقص في محيط يتعرف عليه الكثير من أهل فينيسيا الأثرياء وذوي النفوذ. وهذه صفة معروفة عن فن وأدب عصر النهضة: إلباس العالم المعاصر لباس الماضي كوسيلة لفهم الحاضر.
الغرب يلاقي الشرق
افتتن الأخوان بيليني بكل من أساطير وحقيقة العالم الذي يقع إلى الشرق مما ينظر إليه اليوم على أنه أوروبا عصر النهضة. فلوحتهما تهتم بالطبيعة المحددة للعالم الشرقي، وعلى وجه الخصوص العادات والهندسة المعمارية وثقافة الإسكندرية العربية التي كانت واحدة من الشركاء التجاريين لفينيسيا لفترة طويلة. كما أن الأخوين بيليني لم ينبذا المماليك في مصر أو العثمانيين أو الفرس معتبرين إياهم همجيين، وإنما كانا على دراية تامة بأن هذه الثقافات تمتلك الكثير من الأمور التي كانت دويلات المدن الأوروبية ترغب فيها. وشملت هذه الأمور السلع الثمينة، والمعرفة التقنية والعلمية والفنية، فضلًا عن طرق إنجاز الأعمال التي أتت من الشرق. إن لوحة القديس مرقص في الإسكندرية تظهر كيف أن النهضة الأوروبية بدأت في تعريف نفسها لا بمواجهة الشرق، وإنما من خلال عملية تبادل مكثفة ومعقدة للأفكار والمواد.
بالفعل يبدو كما لو أن كل العالم يندفع أفواجًا إلى هنا، وكما لو أن كافة البشر قد ركَّزوا هناك كل ما لديهم من قوة للتجارة … فمن ذا الذي يمكنه أن يحصي المحلات التجارية الكثيرة المملوءة بالبضائع، حتى كادت أن تبدو كمستودعات تحتوي على الكثير من الملابس من كل صنعة: النسيج، والأقمشة المطرزة، والستائر من كل تصميم، والسجاد من كل نوع، وأوبار الجمال [البسط] من كل لون، وكل ملمس؛ والحرير من كل نوع، وهذا العدد الهائل من محلات البقالة، والتوابل والأدوية، والكثير من الشموع الجميلة! إن هذه الأشياء تخلب لب الناظر.
كانت التجارة في هذه السلع بين الشرق والغرب تتم في مختلف أنحاء البحر المتوسط لقرون عديدة، ولكن زاد حجمها بعد نهاية الحروب الصليبية. وبداية من القرن الرابع عشر، حاربت فينيسيا منافسيها مثل جنوة وفلورنسا لترسي هيمنتها على التجارة من البحر الأحمر والمحيط الهندي وانتهاءً في الإسكندرية. وتأسست المراكز التجارية والقنصليات التابعة لفينيسيا وجنوة في الإسكندرية ودمشق وحلب، بل وأبعد من ذلك. وبينما كانت أوروبا تصدر في الغالب البضائع غير المعبأة مثل المنسوجات والأخشاب والأواني الزجاجية والصابون والورق والنحاس والملح والفضة والذهب، فإنها كانت تميل إلى استيراد السلع الفاخرة والقيِّمة. وتراوحت هذه السلع من البهارات (الفلفل الأسود وجوزة الطيب والقرنفل والقرفة) والقطن والحرير والساتان والمخمل والسجاد، إلى الأفيون والخزامى وخشب الصندل والخزف الصيني والخيول وعشب الراوند والأحجار الكريمة، وكذلك الأصباغ الزاهية المستخدمة في صناعة الغزل والنسيج وفي الرسم.
كان تأثير ذلك على ثقافة واستهلاك المجتمعات من فينيسيا إلى لندن تدريجيًّا ولكنه كان عميقًا؛ إذ تأثرت به مجالات الحياة كافة، من المأكل إلى الرسم. وكما تغير الاقتصاد المحلي مع هذا التدفق من السلع الغريبة، فكذلك طرأ هذا التغير على الفن والثقافة. فتوسعت لوحة ألوان الرسامين مثل الأخوين بيلِّيني من خلال إضافة أصباغ مثل الأزرق السماوي والقرمزي والأحمر الزاهي، وجميعها ألوان تم استيرادها من الشرق عن طريق فينيسيا، وزودت لوحات عصر النهضة بدرجات لوني الأزرق والأحمر التي تميزها. وقد عكست التفاصيل الرقيقة — التي أظهرت بها لوحةُ الأخوين بيليني المسماةُ «القديس مرقص» الحريرَ والمخملَ ونسيجَ الموسلين والقطنَ والقرميدَ والسجادَ، وحتى الحيوانات — وعيَ الفنانين بالكيفية التي غيرت بها هذه المبادلات مع الشرق من المشاهد والروائح والأذواق في العالم، وكذلك قدرة الفنان على إعادة إنتاجها.
وكانت أسواق الشرق بالقاهرة وحلب ودمشق أيضًا مسئولة عن تشكيل البنية المعمارية لفينيسيا في عصر النهضة. فقد وصف المؤرخ الفني الفينيسي جوزيبي فيوكو فينيسيا باعتبارها «سوقًا ضخمة». ومؤخرًا لاحظ المؤرخون المعماريون كيف أن العديد من الخصائص المعمارية للمدينة كانت قائمة على المحاكاة المباشرة للتصميم والديكور الشرقي. فسوق ريالتو بمبانيها المتراصة في خط مستقيم، والمرتبة بالتوازي مع الطرق الرئيسية؛ مماثلة بشكل مذهل لتخطيط العاصمة التجارية السورية حلب. كما أن النوافذ والأقواس والواجهات المزينة لقصر دوج وقصر دوكالي مستوحاة من المساجد والأسواق والقصور في مدن مثل القاهرة وعكا وتبريز، حيث كان تجار فينيسيا يتاجرون على مدار عدة قرون. لقد كانت فينيسيا مدينة متطورة في عصر النهضة، ليس فقط للمزيج بين التجارة والترف الجمالي، ولكن أيضًا لإعجابها بالثقافات الشرقية ومحاكاتها لها.
حسابات دائنة ومدينة
كان من بين سمات عصر النهضة ظهور أسلوب جديد للتعبير عن الثروة، وما يرتبط بذلك من استهلاك للسلع الكمالية. وقد ناقش المؤرخون الاقتصاديون والسياسيون بقوة أسباب التغيرات في الطلب والاستهلاك بداية من القرن الرابع عشر وما تلاه. ويتعارض الاعتقاد في ازدهار روح عصر النهضة مع الاعتقاد السائد بأن القرنين الرابع عشر والخامس عشر قد شهدا فترة كساد اقتصادي عميق، فانهارت الأسعار وتراجعت الأجور. وما كان لتَفَشِّي وباء الموت الأسود في عام ١٣٤٨ سوى أن زاد من حدة هذه المشكلات. ومع ذلك، فكما هو الحال في حالة الحرب، فإنه غالبًا ما يكون من بين تبعات انتشار المرض والموت على نطاق واسع؛ إحداث تغيير اجتماعي جذري واضطرابات، وكان هذا هو حال أوروبا في أعقاب الطاعون. وبالإضافة إلى المرض، عصفت الحروب بالمنطقة. فكان هناك الصراع الإسلامي المسيحي في إسبانيا وشمال أفريقيا (١٢٩١–١٣٤١)، والحروب التي دارت رحاها بين فينيسيا وجنوة (١٢٩١–١٢٩٩، ١٣٥٠–١٣٥٥، ١٣٧٨–١٣٨١)، وحرب المائة عام التي طالت شمال أوروبا كله (١٣٣٦–١٤٥٣)، والتي أثرت جميعها سلبًا على التجارة والزراعة، وخلقت نمطًا متكررًا من التضخم والانكماش. وكان من بين تبعات كل هذا الموتِ والمرضِ والحروبِ التركيزُ على الحياة الحضرية، وتراكم الثروة في يد نخبة صغيرة شديدة الثراء.
وكما هو الحال في معظم فترات التاريخ، فحيث يواجه بعض الناس الكساد وتدهور الأحوال، يرى البعض الآخر الفرصة والثروة. فقد استفادت دول مثل فينيسيا من الطلب المتزايد على السلع الكمالية، وطورت وسائل جديدة لنقل كميات أكبر من البضائع. فتدريجيًّا حلت السفن الثقيلة ذات القيعان المستديرة والصواري محل القوارب الأقدم والسفن الصغيرة التي تعمل بالمجاديف. وأصبحت هذه السفن الكبيرة تستخدم في نقل البضائع الضخمة مثل الخشب والحبوب والملح والأسماك والحديد بين موانئ شمال أوروبا. وكانت هذه السفن قادرة على نقل أكثر من ٣٠٠ «برميل» من البضائع (البرميل الواحد يساوى ٩٠٠ لتر)؛ أي ما يزيد عن ثلاثة أضعاف حمولة السفن القديمة. وبنهاية القرن الخامس عشر، تم بناء المركب الشراعي ذي الصواري الثلاث بناءً على تصاميم عربية، وكانت حمولته تصل إلى ٤٠٠ برميل من البضائع، وكان أسرع بكثير من السفن القديمة.
وهكذا، مع ازدياد حجم البضائع وسرعة توزيعها، تغيرت كذلك سبل إتمام الصفقات التجارية. وبينما تبدو لنا تعقيداتُ تحقيق التوازن بين الواردات والصادرات لكل من السلع العالمية الأساسية والكمالية وحساب الائتمان والربح وسعر الفائدة؛ مألوفةً للغاية بالنسبة لنا اليوم؛ فإنه من السهل أن نرى لماذا غالبًا ما يشار إلى عصر النهضة بأنه كان مهد الرأسمالية الحديثة. فكما كان التجار الأوروبيون المسيحيون يتاجرون في السلع غير العادية القادمة من الشرق، فإنهم قاموا أيضًا بإدخال طرق ممارسة الأعمال التجارية العربية والإسلامية من خلال زياراتهم للأسواق والمراكز التجارية في جميع أنحاء شمال أفريقيا والشرق الأوسط وبلاد فارس.
ففي القرن الثالث عشر، قام تاجر من بيزا يدعى ليوناردو بيزان — والمعروف باسم فيبوناتشي — باستخدام معرفته التجارية بالطرق العربية لحساب الربح والخسارة في إدخال الأرقام الهندية-العربية إلى التجارة الأوروبية. فأوضح فيبوناتشي طبيعة الأرقام الهندية-العربية من «٠» إلى «٩»، واستخدام الفاصلة العشرية، وتطبيقها على المسائل التجارية العملية التي تشمل الجمع والطرح والضرب والقسمة، وقياس الأوزان والمقاييس، بالإضافة إلى المقايضة وتحصيل الفوائد وتبادل العملات. وبينما قد تبدو هذه الأمور بديهية اليوم، فإنه يجدر بنا أن نتذكر أن علامات الجمع (+) والطرح (−) والضرب (×) لم تكن معروفة في أوروبا قبل القرن الخامس عشر.
وهذا النوع من الممارسة التجارية العربية الذي استعاره فيبوناتشي اعتمد على تطورات عربية سابقة في الرياضيات وعلم الهندسة. فعلى سبيل المثال، تم اعتماد المبادئ الأساسية لعلم الجبر من مصطلح عربي للتعويض يسمى الجبر. وفي حوالي عام ٨٢٥م، قام عالم الفلك الفارسي أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي بتأليف كتاب تضمن قواعد حسابية للنظام العشري سماه «كتاب الجبر والمقابلة». وأصبحت الترجمة اللاتينية لاسمه أساسًا لمزيد من الدراسة لواحد من أهم الموضوعات الرياضية الحديثة: الخوارزمية.
اعتمدت المراكز التجارية في فينيسيا وفلورنسا وجنوة الأساليب الجديدة التي قدمها فيبوناتشي؛ حيث أدركوا أن هناك حاجة لوسائل جديدة لتتبع المعاملات التجارية الدولية التي تزداد تعقيدًا. فقد كان سداد قيمة السلع غالبًا ما يتم بسبائك من الفضة أو الذهب، ولكن مع زيادة المبيعات وارتباط أكثر من شخصين في الصفقة التجارية الواحدة، أصبحت هناك حاجة إلى طرق تجارية جديدة. وكانت الكمبيالة واحدة من أهم الابتكارات في هذا المجال، حيث كانت نوعًا مبكرًا من الأوراق المالية. وكانت الكمبيالة هي سلف الشيك بشكله الحديث، ونشأت من المصطلح العربي الذي كان يستخدم في العصور الوسطى «الصك». فأنت الآن عندما تقوم بتحرير شيك، تعتمد على الجدارة الائتمانية لك في أحد البنوك؛ فيقبل البنك هذا الشيك عندما يقدمه حامله للسداد، وبالمثل، كان التاجر في القرن الرابع عشر يدفع قيمة شحنة من البضائع عن طريق كمبيالة معتمدة من قبل عائلة تجارية قوية تقبل الكمبيالة عندما تقدم إليها، سواءٌ في تاريخ لاحق محدد أو عند تسليم البضائع. وسرعان ما تحول أفراد عائلات التجار التي كانت تضمن هذه المعاملات الورقية إلى مصرفيين وتجار في نفس الوقت. وقام التجار، الذين تحولوا إلى مصرفيين، بكسب المال عن طريق فرض رسوم الفائدة على هذه المعاملات على أساس مقدار الوقت الذي يستغرقه سداد الكمبيالة، وكذلك من خلال التلاعب بسعر الصرف بين العملات الدولية المختلفة.
كانت الكنيسة في القرون الوسطى لا تزال تحرم الربا، الذي يُعرف بأنه تقاضي فائدة ما على قرض. فالمعتقدات الدينية لكل من المسيحية والإسلام تحرم الربا رسميًّا، ولكن في الممارسة العملية وجدت ثغرات في كلتا الثقافتين على حد سواء لتحقيق أقصى قدر من الربح المالي، واستطاع التجار المصرفيون تمويه تقاضي الفائدة عن طريق إقراض المال بإحدى العملات ثم تحصيله بعملة مختلفة. وتبع هذه العملية وضع سعر صرف يسمح للتاجر المصرفي بتحقيق ربح من خلال نسبة مئوية من المبلغ الأصلي؛ وبهذا يحتفظ المصرفي بأموال بعض التجار «كوديعة»، على أن يوفر بذلك «ائتمانًا» كافيًا يمكن التجار الآخرين من قبول كمبيالات التجار الذين يودعون المال لديه، على اعتبار أن تلك الكمبيالات شكل من أشكال النقود في حد ذاتها. وكان هناك حل آخر يتمثل في توظيف التجار اليهود للتعامل مع معاملات القروض، والقيام بدور الوساطة التجارية بين أتباع الديانتين، وذلك لسبب بسيط هو أن اليهود لم يكن لديهم أي حظر ديني رسمي ضد الربا. ومن هذا الحدث التاريخي نشأت الصورة النمطية المعادية للسامية ضد اليهود، ونزعتهم المزعومة نحو التمويل الدولي، وكان ذلك نتيجة مباشرة لنفاق بعض المسيحيين وبعض المسلمين.
وقد وضعت الثروة المتراكمة ومكانة التجار المصرفيين أسس السلطة السياسية والإبداع الفني الذي كان من أبرز سمات عصر النهضة الأوروبية. وكانت أسرة ميديتشي، التي هيمنت على الساحة السياسية والثقافية في فلورنسا طوال القرن الخامس عشر، قد بدأت كتجار مصرفيين. وفي عام ١٣٩٧، أنشأ جوفاني دي بيتشي دي ميديتشي «مصرف ميديتشي» في مدينة فلورنسا، الذي سرعان ما أتقن فن القيد المزدوج في مسك الدفاتر والمحاسبة والإيداع والتحويل المصرفي والتأمين البحري وتداول الكمبيالات. كما أصبح مصرف ميديتشي «المصرف الخادم للرب»، وذلك عن طريق تحويل الأموال البابوية في جميع أنحاء أوروبا. وبحلول عام ١٤٢٩، قال الباحث في العلوم الإنسانية والمستشار الفلورنسي بوجيو براشيوليني بأن «المال ضروري كالأواصر التي تحفظ كيان الدولة»، وأنه «مفيد للغاية، بالنسبة للرفاهية العامة وللحياة المدنية». وبعد أن درس تأثير التجارة والتبادل التجاري على المدن حق له أن يحتفي «بالعديد من المنازل الرائعة والفيلات المتميزة والكنائس والأعمدة والمستشفيات التي تم بناؤها في عصرنا» بالأموال التي جمعتها عائلة ميديتشي.
الشرق يلتقي بالغرب
شكلت التجارة الدولية والممارسات المالية الجديدة ملامح ما كان يصنعه الناس وما يستهلكونه طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ففي عام ١٤٥٣، انتهت حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا. وكانت إحدى نتائج السلام تكثيف التجارة بين شمال وجنوب أوروبا. وعلى الطرف الآخر من أوروبا شهد عام ١٤٥٣ حدثًا تاريخيًّا آخر لا يقل أهمية عن انتهاء الحرب؛ حيث قامت الإمبراطورية العثمانية الإسلامية بغزو القسطنطينية. وقد شكل سقوطها في يد القوات العثمانية تحولًا حاسمًا في القوة السياسية الدولية؛ إذ أكد ذلك على مكانة الإمبراطورية العثمانية كواحدة من أقوى الإمبراطوريات في أوروبا، ولاعب أساسي في تشكيل الفن والثقافة اللاحقين في عصر النهضة.
ففي ربيع عام ١٤٥٣، ضرب أكثر من ١٠٠ ألف جندي حصارًا على القسطنطينية، وفي مايو من العام نفسه، استولى السلطان محمد الفاتح الثاني على المدينة. فنظرًا لأن القسطنطينية كانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، فإنها كانت من آخر الروابط بين عالم روما الكلاسيكية وإيطاليا القرن الخامس عشر. كانت بمثابة قناة لاسترداد الجزء الأكبر من تعاليم الثقافة الكلاسيكية، ويرجع الفضل في ذلك أساسًا لرعاية السلطان محمد؛ فقد قاده ارتباطه بالطموحات السياسية وانجذابه نحو الأذواق الثقافية لنظرائه الإيطاليين إلى توظيف متخصصين إيطاليين في الإنسانيات، ليقوموا «بالقراءة على السلطان يوميًّا من أعمال المؤرخين القدماء مثل ليريتيوس وهيرودوت وليفي وكوينتس كورتيوس، ومن سجلات البابوات، وملوك لومبارد»، فإذا كان عصر النهضة قد تضمن إحياء المُثُل والمبادئ الكلاسيكية، فإن محمدًا الفاتح كان واحدًا من أنصارها. فمكتبته التي لا يزال الكثير منها محفوظًا في قصر الباب العالي (أو طوب قابي سراي) في إسطنبول، تفوَّقت على مثيلتها التي كانت في حوزة آل ميديتشي وسفورزا في إيطاليا، واحتوت مكتبته نسخًا من جغرافيا بطليموس، وإلياذة هوميروس، وغيرها من النصوص الإغريقية والعبرية والعربية. لقد كان يقارن صراحة إنجازاته الإمبراطورية بإنجازات الإسكندر الأكبر، وكان يرى نفسه قيصرًا جديدًا، يتمتع بالقدرة على غزو روما، وتوحيد الديانات الكتابية الكبرى الثلاث: المسيحية والإسلام واليهودية.
على غرار العديد من قادة عصر النهضة الآخرين ممن لهم تطلعات إلى السلطة الإمبراطورية، استخدم محمد الفاتح العلم والفن والهندسة المعمارية ليزيد من مطالباته بسلطة سياسية مطلقة. فشرع في تنفيذ برنامج طموح للبناء تضمَّن إعادة التجار اليهود والمسيحيين والحرفيين ليسكنوا في المدينة، وأسس البازار الكبير الذي رسخ المكانة الرفيعة للمدينة كمركز تجارة دولي، كما غيَّر اسم المدينة إلى إسطنبول، وقام بتجديد كنيسة آيا صوفيا، وحوَّلها إلى أول مسجد سلطاني بالمدينة، وفي الوقت نفسه تعاقد مع مهندسين معماريين إيطاليين للمساعدة في بناء قصره الإمبراطوري الجديد، قصر الباب العالي. وكان الأسلوب المعماري الدولي الجديد — الذي كان قائمًا على الأنماط الكلاسيكية والإسلامية والإيطالية المعاصرة — يهدف إلى إنتاج ما أطلق عليه معلق عثماني «قصر يتفوق على ما دونه من القصور، ويكون أكثر روعة من جميع القصور السابقة من حيث المظهر والحجم والتكلفة والجمال». وسيصبح هذا الطراز العالمي الذي ولد في عصر النهضة محل تقدير لدى كل من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وهو ما أكده سفير فينيسيا، الذي أشاد بقصر الباب العالي باعتباره «القصر الأكثر جمالًا، والأكثر تنعمًا بوسائل الراحة، والأكثر إعجازًا في العالم». وعلى غرار الكثير من المباني والأعمال الفنية في عصر النهضة، كان قصر الباب العالي عملًا إبداعيًّا أصيلًا، ورمزًا سياسيًّا من الطراز الأول في الوقت نفسه. ولا يمكن فصل الدافعَيْنِ بعضهما عن بعض، فقد كانت تلك هي السمة المميزة لعصر النهضة.
لقد حفز ذلك التسابق الدولي بين الدول والإمبراطوريات الشرقية الغربية جيلًا جديدًا كاملًا من المفكرين والكتاب والفنانين في عصر النهضة. وقدم العديد منهم خدماتهم لمحمد الفاتح، بما في ذلك الرسام الفينيسي جنتيلي بيلِّيني الذي رسم صورة لمحمد الفاتح لا تزال معلقة في المتحف الوطني في لندن. وقد عاد بيلِّيني إلى فينيسيا محملًا بالهدايا من محمد الفاتح، و«سلسلة مشغولة على الطريقة التركية، تساوي في الوزن ٢٥٠ كراونًا من الذهب». وفي لوحة «القديس مرقص يعظ في الإسكندرية»، عند سفح منبر القديس مرقص رسم جنتيلي بيليني نفسه، حيث تدلت حول عنقه السلسلة التي أهداها له محمد الفاتح. لقد عرض بيليني بفخر ثمار رعاية محمد الفاتح له، واستخدم خبراته في إسطنبول ليضيف تفاصيل مميزة لتصويره للإسكندرية.
ما تشير إليه هذه المبادلات والمنافسات هو أنه لم تكن هناك حواجز جغرافية أو سياسية واضحة بين الشرق والغرب في عصر النهضة. ولقد كان ذلك الاعتقاد الذي ظهر في القرن التاسع عشر بالفصل الثقافي والسياسي المطلق بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي هو ما طمس التبادل السهل للتجارة والأفكار بين هاتين الثقافتين. لقد انغمس الجانبان في كثير من الأحيان في صراعات دينية وعسكرية مع بعضهما البعض، ومع ذلك فقد استمر التبادل المادي والتجاري بينهما، رغم تلك الصراعات، وتمخَّض عن بيئة خصبة للإنجازات الثقافية في كلا الجانبين. كما أدى تراثهم الثقافي المشترك من الماضي الكلاسيكي التنافسي إلى تحقيق إنجازات جديدة نقول عنها الآن عصر النهضة.
رياح التغيير
بدلًا من قطع التواصل الثقافي بين الشرق والغرب، قامت الإمبراطورية العثمانية فور السيطرة على القسطنطينية بفرض ضريبة على هذه المبادلات. فقد فرضت السلطات العثمانية ضريبة على طرق التجارة البرية إلى بلاد فارس وآسيا الوسطى والصين، لكن هذا أدى إلى إيجاد وسائل جديدة لممارسة الأعمال التجارية. فقد حفز انتهاء حرب المائة عام تبادلًا تجاريًّا أكبر بين شمال وجنوب أوروبا، مما تمخض عنه زيادة الطلب على السلع غير العادية من الشرق. وهذا بدوره أدى إلى زيادة حجم التبادل التجاري، كما أدى إلى سعي الدول الأوروبية المسيحية لإيجاد طرق للتحايل على الرسوم الجمركية الباهظة. وكان ثمن معظم البضائع الشرقية يُسدد بسبائك الذهب والفضة الأوروبية. وعندما بدأت المناجم في وسط أوروبا في النضوب وبدأت التعريفات الجمركية في الازدياد، ظهرت الحاجة لمصادر جديدة للعائدات؛ وقد أدى هذا مباشرة إلى زيادة الاستكشاف الجغرافي والاكتشافات.
لعدة قرون، كان الذهب ينتقل إلى أوروبا عبر شمال أفريقيا وطرق القوافل عبر الصحراء الكبرى. فكان الذهب المستخرج من المناجم في السودان يُنقل على طول هذه الطرق إلى تونس والقاهرة والإسكندرية، حيث كان يبادله التجار الإيطاليون بالسلع الأوروبية. ومن بداية القرن الخامس عشر أدركت الإمبراطورية البرتغالية والتجار أن السفر بالطرق البحرية على طول الساحل الأفريقي يمكن أن يوصلهم إلى أسواق الذهب والتوابل في مصادرها الأصلية، مع تجنب الضرائب المفروضة على طرق التجارة البرية خلال الأراضي العثمانية. وقد تطلب مثل هذا المشروع الطموح تنظيمًا ورأس مال. وبحلول منتصف القرن الخامس عشر، كان التجار من ألمانيا وفلورنسا وجنوة وفينيسيا يسيرون رحلات بحرية برتغالية على طول ساحل غرب أفريقيا، ويقدمون نسبة مئوية من الأرباح للملك البرتغالي.
كان للواردات الأفريقية، من ذهب وفلفل وقماش وعبيد، التي تدفقت إلى أوروبا — جنبًا إلى جنب مع البضائع المستوردة من الشرق — أثرُها في غرس بذور التفاهم العالمي في أوائل العصر الحديث. ففي عام ١٤٩٢، عشية رحلة كولومبوس الأولى إلى العالم الجديد، ابتكر تاجر القماش الألماني مارتن بيهايم شيئًا جسَّد اندماج الاقتصاد العالمي مع الابتكار الفني الذي أصبح سمة متزايدة لذلك الوقت؛ وكان هذا الشيء هو أول مجسم معروف للكرة الأرضية. واحتوت كرة بيهايم على أسماء أكثر من ١١٠٠ من الأماكن، وعلى أكثر من ٤٨ تمثيلًا مصغرًا للملوك والحكام، كما احتوت أيضًا على بعض الأساطير التي تصف البضائع والممارسات التجارية وطرق التجارة. وقد كانت هذه الكرة هي الخريطة التجارية للعالم في عصر النهضة، والتي صنعها شخص كان تاجرًا وجغرافيًّا. وقد سجَّل بيهايم تجاربه التجارية الخاصة في غرب أفريقيا بين عامي ١٤٨٢ و١٤٨٤، وأعطت تلك التجارب بعض المؤشرات على دوافعه للقيام بتلك الرحلات. فقد أبحر «مع مختلف السلع والبضائع للبيع والمقايضة»، بما في ذلك الخيول «لتقديمها الى الملوك المغاربة»، وكذلك «أمثلة مختلفة من التوابل لعرضها على الأندلسيين لكي يفهموا ما نريد من بلادهم». وكانت التوابل والذهب والعبيد هي السلع الأساسية التي قامت عليها نشأة أول صورة عالمية حقيقية للعالم في عصر النهضة.
لم تكن مثل هذه التأثيرات الثقافية والتجارية في اتجاه واحد فقط؛ فقد أشار مؤرخ برتغالي إلى أنه «كان الرجال في سيراليون شديدي الذكاء، وكانوا يصنعون أشياء جميلة للغاية مثل الملاعق والملاحات ومقابض الخناجر»، وهذه إشارة مباشرة إلى «الأعمال العاجية الأفروبرتغالية»، وكانت هذه الأعمال الفنية التي نحتها فنانون أفارقة من سيراليون ونيجيريا، تدمج الأسلوب الأفريقي مع التصميمات الأوروبية لإنشاء أغراض هجينة فريدة من نوعها لكل من الثقافتين. وكانت الملاحات وأبواق الصيد بصفة خاصة أمثلة شائعة لهذه المنحوتات، وكانت تمتلكها شخصيات شهيرة مثل ألبريشت دورر، وعائلة ميديتشي. وإحدى الملاحات المذهلة بوجه خاص، والتي يرجع تاريخها إلى وقت مبكر من القرن السادس عشر، كانت تصور أربع شخصيات برتغالية يحملون سلة تبحر عليها سفينة برتغالية، ولإضافة لمسة من الفكاهة على النحت يظهر بحَّار من منصة المراقبة في السفينة. ومن الواضح أنه تم رسم تفاصيل الملابس والأسلحة وحبال الأشرعة بناءً على مراقبة مفصَّلة، ولقاءات مع البحارة البرتغاليين. ويعتقد الباحثون أنه تم تصميم هذه المنحوتات للتصدير إلى أوروبا. وقد أثَّرت ملامح هذه المنحوتات المطرَّزة والمضفرة والملتوية برقة بشكل كبير في فن العمارة في البرتغال في القرن السادس عشر، حين بدأت البرتغال في تشييد معالم تذكارية تحتفي بقوتها التجارية في أفريقيا والشرق الأقصى.