نصوص الحركة الإنسانية
في نوفمبر عام ١٤٦٦، وجد جورج من تريبيزوند — وهو أحد ألمع الباحثين الإنسانيين في القرن الخامس عشر — نفسه قابعًا في أحد سجون روما بناءً على أوامر البابا بولس الثاني. منذ وصول جورج إلى فينيسيا كباحث يتحدث اللغة اليونانية قبل ٥٠ عامًا، كان قد أثبت مكانته كممارس بارع للفنون الفكرية والتعليمية الجديدة في ذلك العصر، مستوحيًا أفكاره من المؤلِّفين الكلاسيكيين من اليونان وروما. وسرعان ما سطع نجم جورج — مستخدمًا مهاراته في اللغتين اليونانية واللاتينية — بنشر كتب دراسية عن علم البلاغة والمنطق، علاوة على شروحات وترجمات لمؤلفات أرسطو وأفلاطون.
وبحلول عام ١٤٥٠، كان جورج قد أصبح سكرتيرًا باباويًّا، ومحاضرًا بارزًا في منهج الإنسانيات الجديد المشهور باسم الدراسات الإنسانية، وذلك في ستوديو رومانو تحت رعاية البابا نيكولاس الخامس. ولكن بدأ الباحثون الأصغر سنًّا في مجال الإنسانيات في نقد ترجمات جورج. وفي عام ١٤٦٥، توجَّه جورج إلى عاصمة محمد الفاتح الجديدة إسطنبول؛ القسطنطينية فيما سبق. ونظرًا لأن جورج كان على دراية باهتمامات محمد الفاتح الدراسية، فقد كتب مقدمة لعالِم الجغرافيا اليوناني الكلاسيكي بطليموس وأهداها إلى السلطان، «معتقدًا أنه لا شيء أفضل في الحياة الحالية من خدمة ملك حكيم، وإنسان يتفلسف بخصوص المسائل الكبرى». كما أهدى جورج مقارنته بين أرسطو وأفلاطون إلى السلطان، وعاد إلى روما لصياغة سلسلة من الخطابات إلى محمد الفاتح، زاعمًا أنه «لم يشهد التاريخ من قبل ولن يشهد إنسانًا آخر منحه الله فرصة أعظم للسيطرة المنفردة على العالم». وفي خطاباته وإهداءاته البلاغية المؤثرة، كان من الواضح أن جورج يرى محمدًا الفاتح راعيًا مناسبًا لمهاراته الأكاديمية. وبمجرد أن علم البابا بمغازلة جورج الفكرية للسلطان، لم يَرُق له ذلك وقام بسَجنه. لكن مدة سجنه كانت وجيزة، وبعد مهمة محددة له في بودابست عاد جورج إلى روما ليجد كتبه عن البلاغة والجدل تنتعش من جديد نتيجة توزيعها عبر اختراع جديد: ألا وهو آلة الطباعة.
يتناول هذا الفصل ظهور أحد أكثر المصطلحات الفلسفية تعقيدًا وإثارة للجدل؛ ألا وهو الحركة الإنسانية في عصر النهضة، وعلاقته الوثيقة بأحد أهم التطورات التكنولوجية في العالم قبل الحديث؛ اختراع آلة الطباعة. كان الشيء الذي وحَّد بين هذين التطورين هو الكتب. ففي بداية القرن الخامس عشر، كانت معرفة القراءة والكتابة والإلمام بالكتب حكرًا على صفوة عالمية ضئيلة مركَّزة في المراكز الحضرية مثل القسطنطينية وبغداد وروما وفينيسيا. وبنهاية القرن السادس عشر، أحدثت الحركة الإنسانية وآلة الطباعة ثورة في تصورات الصفوة وعامة الناس بخصوص القراءة والكتابة ومكانة المعرفة المنقولة من خلال الكتب المطبوعة، والتي صارت مُركَّزة بدرجة أكثر حصرية في شمال أوروبا.
تمتد سيرة حياة جورج من تريبيزوند على مدار فترة حاسمة بالنسبة لكلٍّ من النظريات الفكرية وتاريخ الكتب. ففي ذلك الوقت، طوَّر جيل كامل من المثقَّفين طريقة جديدة للتعلم مأخوذة عن المؤلفين الكلاسيكيين الإغريق والرومان، يطلق عليها الدراسات الإنسانية. وأطلق هؤلاء الباحثون على أنفسهم «الإنسانيون»، واشتركوا في مهمة هائلة لفهم وترجمة ونشر وتعليم نصوص الماضي كوسيلة لفهم وتغيير حاضرهم. وبالتدريج حلَّت الحركة الإنسانية في عصر النهضة مكان التقليد الدراسي في العصور الوسطى الذي انبثقت منه. وبطريقة منظمة، عُزِّزت دراسة الأعمال الكلاسيكية بصفتها مفتاح خلق الفرد الناجح المهذب المتحضر، الذي استخدم هذه المهارات للنجاح في سياق عالم الحياة اليومية في السياسة والتجارة والدين.
يكمن نجاح الحركة الإنسانية في زعمها بتقديم أمرين لأتباعها: الأول هو أنها عززت الاعتقاد القائل بأن التفوق في الكلاسيكيات يجعلك إنسانًا أفضل وأكثر «إنسانية»، وقادرًا على التفكير في المشكلات المعنوية والأخلاقية التي كان يواجهها الفرد فيما يتعلق بعالمه الاجتماعي. أما الأمر الثاني فهو أنها أقنعت الطلاب والموظفين بأن دراسة النصوص الكلاسيكية قدمت المهارات العملية المطلوبة لمهنة مستقبلية، مثل السفير أو المحامي أو الكاهن أو السكرتير، في إطار طبقات من الإدارة البيروقراطية، التي بدأت في الظهور في أوروبا خلال القرن الخامس عشر. وكان يُنظر إلى التدريب في الترجمة وكتابة الخطابات والخطابة العامة على يد الإنسانيين باعتباره تعليمًا رائجًا بدرجة عالية بالنسبة لمن أرادوا الانضمام إلى طبقات الصفوة الاجتماعية.
يبدو هذا منفصلًا بدرجة كبيرة عن الصورة الرومانسية المثالية عن الإنسانيين الذين ينقذون كتب الثقافة الكلاسيكية العظيمة، ويستلهمون حكمتهم في خلق مجتمع متمدن، لكن هذه هي الحقيقة. فالحركة الإنسانية في عصر النهضة كان لها هدف براجماتي يتمثل في توفير إطار عمل للتقدم المهني، ولا سيما إعداد الرجال للحكم. ويرتكز تعليم الإنسانيات الحديثة على النموذج نفسه (المصطلح نفسه مشتق من التعبير اللاتيني: الدراسات الإنسانية). فهو يعد بنفس الفوائد، ويحتفظ بالعيوب نفسها — وإن كان هذا محل جدل. فيعتمد على افتراض أن الدراسة غير المهنية للفنون الحرة تجعلك شخصًا أكثر تحضرًا، وتمنحك المهارات اللغوية والبلاغية المطلوبة للنجاح في بيئة العمل. ولكن تظل هناك توترات كامنة في هذا الافتراض، وهي توترات يمكن تعقب آثارها إلى الحركة الإنسانية في عصر النهضة.
يمكن تتبع الكثير من هذه الصراعات في الحياة المهنية لجورج من تريبيزوند؛ إذ إنها تكشف أن تطور الحركة الإنسانية في عصر النهضة كان مهمة عملية شاقة فكريًّا، تتضمن فحص النصوص الكلاسيكية وترجمتها وتحريرها ونشرها وتعليمها. ويوحي دمج جورج لمجالات الكتابة والترجمة والتعليم بأن نجاح الحركة الإنسانية كان يتحقق بصفة أساسية في إطار الفصول الدراسية كإعداد عملي للتوظيف. وأُدخلت مناهج وأساليب جديدة لتدريس المهارات المطلوبة من التعليم الإنساني، والتي تتطلب براعة فائقة. لقد كانت الحركة الإنسانية تعتمد على خلق مجتمع أكاديمي لتدريس ونشر أفكارها، ولكن أعضاءها كانوا يتصارعون كذلك حول طبيعة تطور الحركة الإنسانية واتجاهها؛ مما أدى إلى النزاعات القاسية والتنافسات المريرة التي عانى منها جورج، والتي عرَّضت حياته المهنية للخطر. وقامت الحركة الإنسانية بتسويق مهاراتها للصفوة الحاكمة التي تم إقناعها بتقدير الخبرة اللغوية والبلاغية والإدارية التي كان يوفرها التعليم الإنساني.
ومع ذلك، كان هذا الترويج للحركة الإنسانية يواجه غالبًا المشكلات، مثلما اكتشف جورج أثناء محاولته تحويل ولائه الفكري ومهاراته الإنسانية من راعٍ ذي نفوذ (البابا بولس الثاني) إلى آخر (محمد الفاتح). ونتيجة ذلك، ركَّزت الحركة الإنسانية جهودها على نشر طريقتها من خلال الفصول الدراسية، والوسيلة الثورية المتمثِّلة في آلة الطباعة. فقد أتاح التحالف بين الطباعة والحركة الإنسانية للباحثين توزيع نسخ موحدة لمطبوعاتهم بأعداد هائلة تَفُوق بكثير الإمكانات الإنتاجية لنسخ المخطوطات. وتَمَثَّل تأثير هذا الاتحاد في نهضة لاحقة في معرفة القراءة والكتابة وفي المدارس، مما تمخض عنه تأكيد غير مسبوق على التعليم كأداة للحياة المجتمعية.
محترفو الإقناع
تبدأ قصة الحركة الإنسانية في عصر النهضة بالكاتب والباحث الإيطالي في القرن الرابع عشر بيترارك. كان بيترارك وثيق الصلة بالمقر البابوي في أفينيون في فرنسا حيث كان والده يعمل موثقًا عامًّا — وهو باحث ماهر في فن إدارة المجموعة الهائلة من الوثائق الصادرة عن الشئون الباباوية. وقد اعتمد بيترارك على هذه التقاليد الدراسية في اهتمامه بالسمات البلاغية والأسلوبية الخاصة بمجموعة من الكتَّاب الرومان الكلاسيكيين المُهمَلين، لا سيما شيشرون وليفي وفيرجيل. وبدأ يجمع نصوصًا مثل كتاب ليفي «تاريخ روما»، ويقارن أجزاءً من مخطوطات مختلفة، ويصحح الأخطاء اللغوية، ويحاكي أسلوبها في كتابة صيغة للغة اللاتينية أكثر طلاقة من الناحية اللغوية، وأكثر إقناعًا من الناحية البلاغية.
إن تنوع أسلوب الفلاسفة في الحياة والغايات المتعارضة تمامًا التي يعملون من أجلها، تجعلني أُومن أنهم دائمًا ما كانوا يفكرون بصورة مختلفة عن الخطباء. فجهود الخطباء موجهة ناحية الحصول على استحسان الجمهور، أما الفلاسفة فيجاهدون — إن لم تكن تصريحاتهم زائفة — لمعرفة أنفسهم، وإعادة الروح إلى نفسها، واحتقار المجد الأجوف.
كان مخطط الحركة الإنسانية لبيترارك كما يلي: توحيد السعي الفلسفي للحقيقة الفردية، والقدرة العملية على العمل بفعالية في المجتمع من خلال استخدام البلاغة والإقناع. وللحصول على التوازن المثالي، يحتاج الفرد المتحضر إلى تدريب صارم في علوم الدراسات الإنسانية؛ أي قواعد اللغة والبلاغة والشِّعر والتاريخ والفلسفة الأخلاقية.
كان هذا منطقًا عبقريًّا منح الإنسانيين الأوائل قوة وهيبة أعظم من تلك التي تمتع بها أسلافهم من الباحثين. كانت الفلسفة المدرسية (السكولاستية) في العصور الوسطى تدرب الطلاب على اللغة اللاتينية وعلى كتابة الخطابات والفلسفة، لكن معلميها ومفكريها كانوا تابعين للسلطات (أي الكنيسة في المعتاد) التي كانوا يعملون لصالحها. وقد منح تعريف شيشرون للإنساني المتحضر — أنه ذلك الإنسان القادر على التفلسف في الأمور الإنسانية، بينما يقوم أيضًا بتدريب الصفوة على مهارات الخطابة العامة والإقناع — الحركةَ الإنسانيةَ وممارسيها استقلالية أكبر «لبيع» أفكارهم للمؤسسات الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك، لم تكن الحركة الإنسانية حركة سياسية صريحة مطلقًا، وذلك على الرغم من أن بعض ممارسيها كانوا سعداء للغاية بالسماح للأيديولوجيات السياسية بتبني نهجها حيثما وأينما كان ذلك مفيدًا. فقد وصف الإنسانيون أنفسهم بأنهم خطباء وعلماء بلاغة ومعلمو أسلوب، وليسوا ساسة. وغالبًا ما يكون من الخطأ دراسة موضوع الكتابات الإنسانية بقيمته الظاهرية فحسب؛ فمثل هذه الكتابات كانت تدريبات رسمية راقية في الأسلوب والبلاغة، وكانت تحتفي غالبًا بالدفاع الجدلي في صالح وضد موضوع معين. ويكمن انتصار الحركة الإنسانية في قدرتها على استخدام مهاراتها في البلاغة والخطابة والجدل لإقناع مجموعة من الرعاة السياسيين المحتملين بفائدة خدماتها، سواءٌ أكانوا جمهوريين أم ملكيين.
عودة إلى لوحة الرسم
بحلول منتصف القرن الخامس عشر، كانت ممارسة الحركة الإنسانية تنتشر في المدارس والجامعات والبلاط الملكي. وقد رفع تأكيدها على البلاغة واللغة من مكانة الكِتاب كأداة مادية وفكرية. وكانت مراجعات الحركة الإنسانية، بخصوص كيفية الحديث والترجمة والقراءة وحتى كتابة اللغة اللاتينية، تركِّز بالإجماع على الكتاب بصفته الأداة المثالية المحمولة التي يمكن من خلالها نشر هذه الأفكار. ولكن كيف كانت هذه المثل الإنسانية تعمل في مجال الممارسة العملية؟ يظهر أحد الأمثلة الواضحة بصفة خاصة على الفجوة بين نظرية الحركة الإنسانية وممارستها في الفصول الدراسية من الحياة المهنية لأحد أكثر المعلمين الإنسانيين احترامًا؛ وهو جوارينو جواريني من فيرونا (١٣٧٤–١٤٦٠). كان جوارينو موظفًا لدى عائلة إيستي في فيرارا، حيث كان يحاضر بصفته أستاذًا للبلاغة منذ عام ١٤٣٦.
هل هناك هدف أفضل لأفكارنا وجهودنا من الفنون والمبادئ والدراسات التي نصل بها إلى القدرة على إرشاد أنفسنا وعائلاتنا ومراكزنا السياسية وتنظيمها والتحكم فيها [؟] … ولهذا استمروا كما بدأتم أيها الشباب والسادة العظماء، واعملوا على هذه الدراسات التي بدأها شيشرون، والتي تملأ مدينتنا بالأمل الراسخ فيكم، والتي تجلب لكم الشرف والسعادة.
هذه الرؤية نشرتها مجموعة من المعلمين والباحثين المدربين على فن البلاغة والإقناع؛ ولا عجب في أنها حازت القبول بسهولة في زمانها، ولا تزال تؤثر في طلبة العلوم الإنسانية اليوم.
ومع ذلك، لم يُنتج فصل جوارينو الدراسي بالضرورة مواطني الصفوة من الإنسانيين كما وعد. فقد كان تعليمه يتضمن استغراقًا شديدًا في قواعد اللغة والبلاغة، استنادًا إلى تسجيل الملاحظات بإتقان واستظهار النصوص والتكرار الشفوي والمحاكاة البلاغية في دائرة لانهائية فيما يبدو من التدريبات الأساسية. ولم يكن هناك متسع من الوقت للمزيد من التأمل الفلسفي في طبيعة النصوص قيد التحليل، وتكشف ملاحظات التلاميذ في المحاضرات عن استيعاب أساسي وحسب للطرق الجديدة في التحدث والكتابة التي كان الإنسانيون مثل جوارينو يرون أنها أساس التعليم الإنساني. وهذه الدروس الأولية في اللغة والبلاغة أعدت التلاميذ لتولي الوظائف في المناصب القانونية والسياسية والدينية، رغم أن هذا كان بعيدًا للغاية عن المستويات الراقية التي وعد بها جوارينو في محاضراته الافتتاحية.
مهما كان قرار الحاكم ينبغي قبوله بعقلٍ هادئ وسعادة؛ لأن من باستطاعتهم هذا يكونون محبوبين لدى الحكام، ويتمتعون بالرفاهية هم وأقرباؤهم، وينالون تقديرًا بأرقى المنازل.
بالنسبة لمعظم طلاب الحركة الإنسانية، كانت التأكيدات البلاغية للحركة الإنسانية بخصوص مفهوم جديد عن الفرد تؤدي في الواقع إلى التوظيف في هيئات الطبقة البيروقراطية الناشئة. وكان جوارينو يضمن أن الإذعان السياسي يتوافق مع المهارات العملية المطلوبة لمثل هذه المناصب. وكان هذا يضمن الرعاية المستمرة من جانب الصفوة للمدارس والجامعات التي تنشر مُثُل الحركة الإنسانية.
مكان المرأة هو بيت مؤيد الحركة الإنسانية
شئون البيت الصغرى أتركها لرعاية زوجتي … فبالكاد سننال الاحترام لو أننا تركنا زوجاتنا تشغلن أنفسهن وسط الرجال في السوق أمام أعين الناس. كما يبدو من المهين إلى حدٍّ ما بالنسبة لي البقاء ساكتًا في البيت بين النساء، عندما تكون لديَّ شئون ذكورية أقوم بها وسط الرجال والإخوة المواطنين، والأجانب من ذوي الشأن الرفيع.
إن ذلك الرجل البليغ خارج البيت يقف على طرف النقيض مع زوجته الصامتة داخل البيت، والتي تبقى «محبوسة في البيت». فتدريبها الوحيد يكمن في إدارة البيت، ولضمان محافظة الزوجة الناجحة على البيت، فإن الزوج يكشف كل محتوياته لها مع استثناء واحد، «كتبي وسجلاتي» فقط تبقى محفوظة في مكان آمن، و«هذه ليس فقط لا تستطيع زوجتي قراءتها، وإنما لا تستطيع حتى أن تضع يدها عليها». وقد أبدى ألبيرتي القلق من فكرة وجود «نساء جريئات ومُقدِمات يحاولن بجد شديد معرفة الأشياء خارج البيت، ومعرفة اهتمامات أزواجهن، واهتمامات الرجال بصفة عامة».
وقد أَثَّر موقف ألبيرتي على ردود فعل الإنسانيين على سيدات الصفوة اللائي تحدين دورهن المحدد، وسعين لأن يكون لهن رسالة في التعليم الإنساني. فلم يرفضوا تمامًا سعي النساء للتعلم، لكنهم كانوا مصممين على ألا يتجاوز الأمر هذا الحد. ففي خطاب كُتب في عام ١٤٠٥ تقريبًا، حذر ليوناردو بروني — بحسب هانز بارون البطل العظيم للحركة الإنسانية المدنية — من أن دراسة النساء للهندسة والحساب والبلاغة أمر خطير؛ لأنه «لو أن المرأة حركت ذراعها أثناء الحديث، أو رفعت نبرة حديثها بقوة أكبر، فسوف تبدو مجنونة بصورة خطيرة، وسوف يتطلب الأمر كبح جماحها». فكان بإمكان النساء تعلم رعاية النباتات وقواعد الذوق واللياقة والمهارات المنزلية، لكن المهارة الرسمية في الموضوعات التطبيقية التي تؤدي إلى الظهور العام والمهني فلم يكن مرحبًا بها.
رغم هذا العداء، حاولت بعض النساء المتعلمات الحصول بصعوبة على مهن أكاديمية. فقد أكدت الكاتبة الفرنسية كريستين دي بيزان في «كتاب مدينة السيدات» (١٤٠٤-١٤٠٥)، على أن «من يلومون النساء حسدًا هم الرجال الأشرار الذين رأوا وأدركوا أن هناك نساءً كثيرات يتمتعن بذكاء أكبر، وبسلوك أرقى منهم». وفي ثلاثينيات القرن الخامس عشر، ردَّت إيزوتا نوجارولا من فيرونا على الهجمات المتعلقة بثرثرة النساء باقتراح أن «النساء لسن يفقن الرجال في الثرثرة، ولكنهن في الواقع يتفوقن على الرجال في الفصاحة والفضيلة».
ومع ذلك، كانت ترد مثل هذه الهجمات في المنشورات وفي الأحاديث العامة باعتبارها أحداثًا جديدة أكثر من كونها أنشطة مهنية. ففي عام ١٤٣٨، افترى مؤلف كتيبات مجهول على إيزوتا لمحاولتها «التعبير عن رأيها»، وخلط بين معرفتها وبين العلاقات الجنسية المتعددة، قائلًا باحتجاج باستخدام تورية جائرة: إن «المرأة طليقة اللسان لا تكون عفيفة على الإطلاق». وفور عبور المرأة الخط الفاصل بين مكانة التلميذة النجيبة إلى مكانة الخطيبة أمام جموع الجمهور، كان ردُّ فعل أنصار الحركة الإنسانية إما معاقبتها لعدوانيتها الجنسية، أو إرباك وتسفيه الحوار الفكري للمرأة باعتباره مجرد تبادلات غزلية بين المحبين.
لم تخلق الحركة الإنسانية في عصر النهضة بالضرورة فرصًا جديدة للنساء. لقد كانت تشجع تعليم المرأة كزينة اجتماعية، وكهدف في حدِّ ذاته، وليس كوسيلة للخروج من البيت إلى ساحات الجماهير. وكان المعلمون والتلاميذ الإنسانيون من الذكور يجاهدون بشق الأنفس للحصول على مناصب مهنية ومكانة اجتماعية. فكان احتمال أن تحقق النساء هذا الحضور العام تهديدًا واضحًا، ومصدر إحراج محتمل، وأمرًا لا يطاق بالنسبة للرجال. ومع ذلك، فإن فن خطابة الحركة الإنسانية في عصر النهضة قد أثنى على فضائل التعليم والفصاحة، وكلما كان الأمر ممكنًا كانت النساء تحاول الاستفادة من الفرص التي تتيحها هذه التطورات. فإذا كانت النساء قد حظين بعصر نهضة، ففي الغالب كان هذا رغمًا عن إرادة نظرائهن من الذكور من الإنسانيين.
آلة الطباعة: ثورة في التواصل
في منتصف ستينيات القرن الخامس عشر، كتب ألبيرتي أنه «يطري بكل حماسة على المخترع الألماني الذي جعل من الممكن مؤخرًا لثلاثة رجال أن ينتجوا أكثر من مائتي نسخة من نص أصلي معين في مائة يوم، وذلك من خلال صنع بصمات محددة للحروف، حيث تنتج كل ضغطة صفحة واحدة في تنسيق كبير». لقد كان اختراع الحروف المطبوعة المتحركة في ألمانيا في عام ١٤٥٠ تقريبًا أهم ابتكار تكنولوجي وثقافي في عصر النهضة. وسرعان ما أدركت الحركة الإنسانية الإمكانات العملية للاستفادة من وسيلة للإنتاج بالجملة، كما يشير ألبيرتي، لكن التأثير الثوري للطباعة كان في أبرز صوره في شمال أوروبا.
نشأ اختراع الطباعة من تعاون تجاري وتكنولوجي في مدينة ماينز في خمسينيات القرن الخامس عشر بين يوهان جوتنبرج، ويوهان فوست، وبيتر شوفر: كان جوتنبرج صائغًا، وقد استخدم خبرته لصبِّ الحروف المعدنية المتحركة للطباعة؛ وكان شوفر ناسخًا وخطاطًا، وقد استخدم مهاراته في نسخ المخطوطات لتصميم وتركيب وإعداد النص المطبوع؛ أما فوست فكان مصدر التمويل. وكانت عملية الطباعة عملية تعاونية، وكانت بصفة أساسية عملًا تجاريًّا يديره المنظمون بهدف الربح. ومن خلال الاعتماد على الاختراعات الشرقية الأقدم المتمثلة في الكليشيهات الخشبية والورق، طبع جوتنبرج وفريقه كتابًا مقدسًا باللغة اللاتينية في عام ١٤٥٥، وفي عام ١٤٥٧ أصدر طبعة من سفر المزامير.
كان شوفر يعتبر أن الطباعة ببساطة هي «فن الكتابة اصطناعيًّا دون استخدام القصب أو القلم». وفي البداية، لم تحظ الوسيلة الجديدة بأهميتها الخاصة. فالكثير من الكتب المبكرة المطبوعة كانت تستخدم الناسخين المدربين في زخرفة المخطوطات لمحاكاة المظهر الفريد للمخطوطات. وتوحي الزخرفة الوافرة لهذه الكتب نصف المرسومة ونصف المطبوعة بأنها كانت بمثابة سلع ثمينة في حدِّ ذاتها، وتحظى بتقدير شديد لمظهرها بقدر تقديرها لمحتواها. وقد استثمر الرعاة الأثرياء، مثل إيزابيلا من عائلة إيستي ومحمد الفاتح، في هذا النوع من الكتب المطبوعة الذي بقي إلى جانب مخطوطاتهما التقليدية.
وبحلول عام ١٤٨٠، تمَّ تأسيس المطابع بنجاح في كل المدن الرئيسية في ألمانيا وفرنسا وهولندا وإنجلترا وإسبانيا والمجر وبولندا. وبحلول عام ١٥٠٠، أشارت التقديرات إلى أن هذه المطابع قد طبعت ما بين ٦–١٥ مليون كتاب في ٤٠ ألف طبعة مختلفة، وهو عدد أكبر من الكتب التي أُنتجت منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية. كما أن الأرقام التي شهدها القرن السادس عشر كانت أكثر إثارة للدهشة: ففي إنجلترا وحدها طُبعت ١٠ آلاف طبعة، ونُشِرَ على الأقل ١٥٠ مليون كتاب لسكان أوروبا الذين كان عددهم أقل من ٨٠ مليون نسمة.
كانت نتيجة هذا التوزيع الضخم من المطبوعات اندلاع ثورة في المعرفة والتواصل أثَّرت على المجتمع بكافة شرائحه. فالسرعة والكمية التي كانت الكتب تُوزع بهما تشير إلى أن الطباعة خلقت مجموعات جديدة من القراء المتلهِّفين لاستهلاك المواد المتنوعة التي تخرجها المطابع. كما أن سهولة الوصول إلى الكتب المطبوعة وتكلفتها المنخفضة نسبيًّا كانت تعني أن عددًا أكبر من الناس من أي وقت مضى صار بإمكانهم الوصول إلى الكتب. ولقد كانت الطباعة عملًا مربحًا. ومع ازدياد أعداد من يتحدثون ويكتبون باللغات العامية الأوروبية — أي الألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والإنجليزية — أصبحت المطابع تنشر بصورة متزايدة مؤلفات بهذه اللغات بدلًا من اللاتينية واليونانية، اللتين كانتا تروقان لجمهور أقل. وبالتدريج، أصبحت هذه اللغات العامية لغات قياسية؛ فأصبحت الوسيلة الأساسية للتواصل القانوني والسياسي والأدبي في معظم الدول الأوروبية. أما وفرة الكتب المطبوعة بلغة الحياة اليومية فأسهم في صوغ صورة مجتمع قومي بين أولئك الذين يتشاركون لغة عامية واحدة. وقد أدى هذا في نهاية المطاف بالأفراد إلى أن يُعرِّفوا أنفسهم بأنهم ينتمون إلى أمة بدلًا من دين أو حاكم، وهو ما كان له نتائج عميقة بالنسبة للسلطة الدينية، وذلك مع تآكل السلطة المطلقة للكنيسة الكاثوليكية، وصعود نموذج أكثر علمانية من البروتستانتية.
تغلغلت الطباعة في كل جوانب الحياة العامة والخاصة. فقد كانت المطابع في البداية تصدر الكتب الدينية — كالكتاب المقدس وكتب الصلوات والعظات وكتب التعليم المسيحي — لكنها بالتدريج تحوَّلت إلى إنتاج كتب دنيوية أكثر، مثل: الروايات الرومانسية، وقصص الرحلات، والكتيبات، والنشرات، وكتب السلوك التي تقدم النصائح بخصوص كل شيء؛ من الدواء إلى واجبات الزوجة. وبحلول ثلاثينيات القرن السادس عشر، كانت الكتيبات المطبوعة تباع بسعر رغيف الخبز، بينما كانت نسخة من العهد الجديد تكلف أجرة عامل في اليوم الواحد. وتدريجيًّا تحوَّلت الثقافة القائمة على التواصل من خلال الاستماع والنظر والتحدث إلى ثقافة تتفاعل من خلال القراءة والكتابة. وبدلًا من التركيز على القصور أو الكنائس، بدأت ثقافة أدبية في الظهور حول آلة الطباعة شبه المستقلة. وصار جدول أعمالها يتحدد من خلال الطلب والأرباح بدلًا من الالتزام بالقواعد الدينية أو الأيديولوجية السياسية. لقد حوَّلت دور الطباعة الإبداع الفكري والثقافي إلى مغامرة تعاونية؛ حيث كان أصحاب المطابع والتجار والمعلمون والناسخون والمترجمون والفنانون والكتَّاب؛ يساهمون بمهاراتهم ومواردهم في خلق المنتج النهائي. وشبَّه أحد مؤرخي الطباعة مطبعة ألدوس مانوتيوس الفينيسية، التي تعود إلى أواخر القرن الخامس عشر، بمصنع للعمل الشاق ومأوى ومعهد أبحاث معًا. فقد خلقت المطابع، مثل مطبعة مانوتيوس، مجتمعًا عالميًّا من أصحاب المطابع والممولين والكتَّاب، مع ظهور فرص للتوسع في أسواق جديدة.
كما غيَّرت الطباعة كذلك طريقة فهم ونقل المعرفة نفسها. فالمخطوطة وسيلة فريدة وغير قابلة لإعادة الإنتاج، لكن الطباعة — بما تتمتع به من تنسيق ونوع قياسيين — قدمت إمكانية إعادة الإنتاج المطابق بأعداد هائلة. وكان هذا يعني أن اثنين من القراء تفصلهما مسافات هائلة، يمكنهما مناقشة ومقارنة كتب متطابقة وصولًا إلى كلمة معينة في صفحة محددة. ومع إدخال تقنيات ترقيم الصفحات المتناسق والفهارس والترتيب الأبجدي والببليوجرافيا (التي كانت جميعها أمورًا غير واردة في المخطوطات)، كانت المعرفة نفسها تُقدم في شكل جديد ببطء. فأصبحت الثقافة النصية علمًا تراكميًّا، فيما صار بإمكان الدارسين جمع مخطوطات كتاب «السياسات» الذي كتبه أرسطو — مثلًا — وإصدار طبعة معيارية موثوقة قائمة على مقارنة لكل النسخ المتاحة. وقد أدى هذا إلى نشأة ظاهرة الطبعات الجديدة والمنقَّحة. فقد أدرك الناشرون إمكانية دمج الاكتشافات والتصحيحات في الأعمال المجمعة لأحد المؤلِّفين؛ وعلاوة على أن هذا كان صارمًا من الناحية الفكرية، فإنه كان أيضًا مربحًا للغاية من الناحية التجارية، حيث كان من الممكن تشجيع الأفراد لشراء طبعة جديدة من كتاب يمتلكونه أساسًا. أما الكتب المرجعية والموسوعات الرائدة المتعلقة بموضوعات مثل اللغة والقانون، فقامت بإعادة تصنيف المعرفة وفقًا لمناهج جديدة من الترتيب الأبجدي والزمني.
لم تكن آلة الطباعة تنشر النصوص المكتوبة فحسب؛ فجزء من التأثير الثوري للطباعة كان ابتكار ما أسماه ويليام أيفنز «التعبير التصويري القابل للتكرار بدقة». فباستخدام الكليشيهات الخشبية، ثم تقنية النقش على الكليشيهات النحاسية الأكثر تطورًا، أتاحت الطباعة إمكانية النشر الإجمالي للصور القياسية للخرائط والجداول العلمية والرسومات والمخططات المعمارية والرسومات الطبية والرسوم الكرتونية والصور الدينية. وفيما يتعلق بأحد طرفي السلم الاجتماعي، كانت الصور المطبوعة اللافتة للنظر لها تأثير ضخم على الأميين، لا سيما عند استخدامها للأغراض الدينية. أما بالنسبة للطرف الآخر، فإن الصور المعاد إنتاجها بدقة أحدثت ثورة في دراسة موضوعات مثل: الجغرافيا والفلك وعلم النبات والتشريح والرياضيات. كما أشعل اختراع الطباعة فتيل ثورة اتصالات من شأن تأثيرها أن يمتد لقرون، ويمكن تشبيهها فقط بتطور الإنترنت وثورة تكنولوجيا المعلومات.
آلة طباعة الحركة الإنسانية
سرعان ما أدرك أنصار الحركة الإنسانية قوة آلة الطباعة لنشر رسالتهم الخاصة. فاستخدم الإنساني الأشهر في شمال أوروبا دسيدريوس إراسموس من روتردام (١٤٦٦–١٥٣٦) آلة الطباعة كوسيلة لتوزيع نسخته الخاصة من الحركة الإنسانية، وأثناء ذلك كان يلقب نفسه عن قصد بصفة «أمير الحركة الإنسانية». وردًّا من إراسموس على المزاعم القائلة بأن الإنسانيين المبكرين كانوا أكثر اهتمامًا بالكتَّاب الوثنيين الكلاسيكيين من اهتمامهم بالمسيحية؛ فقد شرع في ترجمة الكتاب المقدس وتقديم شروح له، وصلت إلى ذروتها في طبعته من العهد الجديد باللغة اليونانية بترجمة لاتينية افتتاحية (١٥١٦). وفي كتابه «منهج شيشرون» (١٥٢٨)، عارض إراسموس الإنسانيين الإيطاليين الذين اعتبروا رؤيته الخاصة عن الحركة الإنسانية في أوروبا الشمالية «بربرية». وسخر من صفاء البلاغة اللاتينية للإنسانيين التابعين لمنهج شيشرون، مؤكدًا على أن «الاهتمام الأول للإنسانيين التابعين لمنهج شيشرون كان ينبغي أن يكون فهم أسرار الدين المسيحي، وتقليب صفحات الكتب المقدسة بنفس الحماس الكبير الذي كرسه شيشرون لكتابات الفلاسفة».
سعى إراسموس جاهدًا لدمج نسخته عن التعليم الأخلاقي المُلهَم من الكلاسيكيات مع «فلسفة المسيح»، وهي فلسفة تركز على المسيح وتؤكد على الإيمان الشخصي. وكان إنتاجه الوافر الهائل يشمل الترجمات والشروح على الأعمال الكلاسيكية (بما فيها سينيكا وبلوتارخ)، ومجموعات الأمثال اللاتينية، وأطروحات عن اللغة والتعليم، وخطابات وفيرة إلى الأصدقاء وأصحاب المطابع والباحثين والحكام في جميع أنحاء أوروبا. أما كتابه الأوسع انتشارًا اليوم فهو كتابه الساخر «إطراء على الحماقة» (١٥١١)، وهو «هجاء لاذع» وقاسٍ بصفة خاصة في هجومه على فساد ورضا الكنيسة عن ذاتها، والتي يصفها الكتاب بأنها تؤمن بأن «تعليم الناس مهمة شاقة، والصلاة مملة، والدموع ضعيفة وأنثوية، والفقر مهين، والوداعة شائنة».
كانت معظم طاقة إراسموس الفكرية الهائلة تسير في اتجاه تأسيس مجتمع دراسي، ومنهج تعليمي ثابت تقف في مركزه كتاباته المطبوعة، ومكانته بصفته «المثقف» المطلق. وقد كانت آلة الطباعة عنصرًا أساسيًّا في مسيرة إراسموس الفكرية، وصولًا إلى توزيع صورته. ففي عام ١٥٢٦، وافق دورر على تنفيذ نقش تصويري له. فاستخدم إراسموس ودورر هذه التقنية الجديدة في الطباعة لتوزيع صورة تذكارية قوية للباحث الإنساني وهو في غرفة مكتبه يكتب الخطابات وهو محاط بكتبه المطبوعة التي تمثل — كما يوحي نقش دورر اليوناني — سمعة إراسموس الخالدة: «إن أعماله ستقدم صورة أفضل عنه.»
كان إراسموس يقدر كذلك أن الحركة الإنسانية بحاجة — علاوة على إصلاح التعليم والدين — إلى الفوز بحظوة السلطة السياسية. لذا في عام ١٥١٦ ألَّف كتابه «تعليم الأمير المسيحي» وأهداه إلى أمير هابسبورج — الإمبراطور تشارلز الخامس المرتقب. وكان الكتاب بمثابة دليل إرشادي للأمير الصغير حول كيفية ممارسة «الحكم المطلق على الرعايا الأحرار بكامل إرادتهم»، والحاجة للتعليم والإرشاد من جانب البارعين في الفلسفة والبلاغة؛ أي إن إراسموس كان يسعى للحصول على منصب عام بصفته المستشار الشخصي للأمير الصغير، ومرشدًا في العلاقات العامة. ورغم أن تشارلز قَبِلَ الكتاب بلباقة، لم يكن هناك أي منصب وشيك.
فما كان من إراسموس إلا أن أرسل نسخة أخرى من كتاب «تعليم الأمير المسيحي» إلى منافس تشارلز السياسي وهو الملك هنري الثامن. وفي إهدائه الذي كتبه في عام ١٥١٧، أثنى إراسموس على هنري كملك تمكن من «تخصيص جزء من وقتك لقراءة الكتب»، الأمر الذي أكد إراسموس على أنه جعل هنري «إنسانًا أفضل وملكًا أفضل». وقد حاول إراسموس إقناع هنري بأن السعي وراء تحقيق الحركة الإنسانية هو أفضل طريقة لإدارة مملكته، مشيرًا إلى أن هذا سيجعله إنسانًا أفضل، وسيتيح المهارات المطلوبة لتحقيق غاياته السياسية. ومن المهم أن إراسموس كان يشعر أنه من الملائم إهداء النص نفسه لكلٍّ من تشارلز الخامس وهنري الثامن؛ إذ إنه كان يفترض أن كلا الحاكمين سيفهمان أنه قادر على استخدام مهاراته البلاغية لصياغة أي حجج سياسية يحتاجان إليها.
سياسات الحركة الإنسانية
شهد جيل إراسموس إنتاج اثنين من أكثر الكتب المؤثرة في تاريخ النظرية السياسية والحركة الإنسانية: كتاب «الأمير» (١٥١٣) من تأليف نيكولو مكيافيلي، وكتاب «يوتوبيا» (١٥١٦) من تأليف توماس مور. واليوم يُقرأ الكتابان بصفتهما من الكلاسيكيات الخالدة عن كيفية الحفاظ على السلطة السياسية وخلق المجتمعات المثالية. كما أنهما منتجان محددان تمخضت عنهما خبرة الكاتبين عن العلاقة بين الحركة الإنسانية والسياسة في النصف الأول من القرن السادس عشر.
وضع مكيافيلي كتابه في أعقاب انهيار جمهورية فلورنسا في ١٥١٢، وعودة عائلة ميديتشي للسلطة. كان مكيافيلي قد خدم الجمهورية لمدة ١٤ عامًا قبل طرده، وسجنه لفترة وجيزة على يد عائلة ميديتشي العائدة إلى الحكم. وكان الهدف من كتاب «الأمير» هو الاعتماد على خبراته السياسية «في مناقشة حكم الأمير ولصياغة القوانين المتعلقة به». وما حدث لاحقًا كان وصفًا مدمرًا لكيفية حصول الحكام على السلطة واحتفاظهم بها. واختتم مكيافيلي كتابه بأنه لو أن اقتراحاته «وُضعت في حيز التنفيذ بمهارة، فسوف ترسخ أواصر حكم الحاكم الجديد، وسوف تجعل سلطته آمنة أكثر سريعًا». وقد أنتجت خلفية مكيافيلي المشتملة على التدريب الإنساني والخبرة السياسية المباشرة سلسلة من الآراء الشائنة التي كانت مستلهمة من المؤلفين الكلاسيكيين، وكذلك الأحداث السياسية المعاصرة. فيقول: «يجب أن يكون الحاكم الذي يرغب في الحفاظ على حكمه مستعدًّا للتصرف بصورة لا أخلاقية»، كما يجب عليه أن «يكون منافقًا ومدعيًا كبيرًا»، ومستعدًّا «للتصرف بغدر وبقسوة وبلا إنسانية، ويتجاهل مبادئ الدين» بهدف الحفاظ على السلطة السياسية.
كان كتاب مكيافيلي محاولة للحصول على وظيفة سياسية (أو في حالة مكيافيلي العودة مرة أخرى إلى وظيفة سياسية). وقد أُهدي كتاب «الأمير» إلى جوليانو دي ميديتشي الحاكم المطلق الجديد لفلورنسا، كما أشار المؤلف إلى كتابه بصفته «علامة على استعدادي لخدمتك». كما صرَّح مكيافيلي في خطاباته عن «رغبتي في أن يبدأ حكام عائلة ميديتشي هؤلاء في استخدامي». وكان كتاب «الأمير» بمثابة محاولة مكيافيلي لتقديم النصح لعائلة ميديتشي حول كيفية التمسك بالسلطة السياسية المطلقة. لقد كان مكيافيلي يصل بالحركة الإنسانية في عصر النهضة إلى نهايتها السياسية المنطقية بتزويد حاكمه الجديد بالوصف المتاح الأكثر إقناعًا وواقعية عن كيفية الحفاظ على السلطة. لقد كانت إنسانية مكيافيلي مهيئة للترويج لأي أيديولوجية سياسية تملك زمام التحكم؛ سواءٌ أكانت استبدادية أم ديموقراطية. أما مأساة مكيافيلي فكانت تتمثل في عدم اقتناع عائلة ميديتشي بتأكيداته على الولاء. ولم يحصل قط على أي منصب سياسي رفيع المستوى مرة أخرى، وظل كتاب «الأمير» بلا طباعة حتى مات في عام ١٥٢٧.
أما كتاب توماس مور المعنون «يوتوبيا: عن أفضل دولة في الكومنولث وجزيرة يوتوبيا الجديدة»، فكان وثيق الصلة كذلك بالحياة المهنية لمؤلفه. فقد ترجم مور — وهو من أقرب أصدقاء إراسموس وطالب موهوب في القانون واللغة اليونانية — أعمال لوقيان وكتب الشِّعر باللغتين الإنجليزية واللاتينية. وفي عام ١٥١٧، انضم إلى مجلس هنري الثامن السياسي، وأصبح رئيس مجلس اللوردات في ١٥٢٩، وكان يكتب الكثير من كتيبات الدعاية السياسية واللاهوتية الخاصة بهنري الثامن أثناء تلك الفترة. وكان مور تجسيدًا لرؤية شيشرون عن الإنساني المثقف؛ وهو الشخص القادر على توفيق التأمل الفلسفي الخاص مع الخطابة العامة، والاشتراك في العالم المدني للسياسة والدبلوماسية.
يتخلل فعل الموازنة الدقيقة هذا كتاب يوتوبيا. فقد كُتب هذا الكتاب في صيغة حوار لاتيني بين أشخاص مثقفين، وذلك في محاكاة مباشرة لأطروحة أفلاطون الأنيقة عن الدولة المثالية: «الجمهورية». ويستهل الكتاب بتقديم مور نفسه في مدينة أنتويرب بصفته الممثل الدبلوماسي لهنري الثامن، ثم يقدمه صديقه إلى رافاييل هيثلوداي، وهو مغامر عاد مؤخرًا من جزيرة يوتوبيا. ويقدم هيثلوداي وصفًا تفصيليًّا عن «كومنولث» يوتوبيا المثالي، حيث «كل الأشياء خاضعة للملكية المشتركة»، و«لا يوجد متسوِّلون»، والطلاق والقتل الرحيم والصحة العامة أمور مُسلَّم بها.
هل كان مور يؤمن برؤيته الخيالية عن المجتمع المثالي؟ هناك أسباب متعددة للاعتقاد بأنه كان متناقضًا فيما يتعلق باليوتوبيا. فكلمة «يوتوبيا» في حد ذاتها تورية واختراع لغوي من اللغة اليونانية معناه «المكان المحظوظ» وأيضًا «اللامكان». كما أن اسم هيثلوداي معناه «الخبير في الهراء». وكان مور يرى أن الكثير من «قوانين وعادات» يوتوبيا «سخيفة حقًّا»، لكنه اعترف «أنه في كومنولث يوتوبيا هناك الكثير من السمات الموجودة في مجتمعاتنا التي أحبها أكثر مما أتوقع أن أراها». وهذه موافقات مشروطة بشدة لمجتمعه الخيالي.
وعلى مدار صفحات الكتاب، يرفض مور الموافقة على الموضوعات السياسية المثيرة للنزاع التي يناقشها أو رفضها، بدءًا من الملكية الخاصة والسلطة الدينية، وحتى المناصب العامة والتأمل الفلسفي. ولم يكن هذا بسبب أنه لم يستطع التوصل إلى قرار: فمن الناحية السياسية، لم يشأ أن يعتقد أحد أنه يساند موقفًا محددًا. وبصفته مستشارًا سياسيًّا ماهرًا، اضطر مور لاستعراض مهاراته البلاغية في تبرير التصريحات والمعتقدات المتنافرة أو المتناقضة بالتبادل في خدمة الدولة. وتمثل يوتوبيا لوحة يمكنه أن يناقش فيها مجموعة من الموضوعات وثيقة الصلة بعالمه الخاص. ولو تعرَّض تحليله للدراسة والتقييم، كان بإمكانه دائمًا الإشارة إلى أنه دافع عن الموقف المعاكس، أو القول بأن يوتوبيا في نهاية الأمر وببساطة فكرة مختلقة: فهي غير موجودة.
ويمثل كتاب «يوتوبيا» إعلانًا عن قدرة مور على الحديث بفصاحة في سلسلة من الموضوعات المثيرة للنزاع التي أثَّرت على صاحب العمل الذي كان مور يعمل لديه، وهي أمور كان من المتوقع أن يقدم مور الاستشارة حولها. وعلى خلاف مكيافيلي، كتب مور «يوتوبيا» في أوج حياته العامة، وكان عليه أن يكون أكثر حذرًا وأكثر مرونة من الناحية السياسية في تفكيره؛ ولهذا فإن رسالة وأسلوب «يوتوبيا» متناقضان بهذه الصورة؛ ولذلك فقد استطاع مكيافيلي، الذي كان دون عملٍ آنذاك، أن يقدم وصفًا للسياسة والسلطة أقل غموضًا بكثير وأكثر واقعية على المستوى السياسي في كتابه «الأمير». أما رفض مور المصادقة على طلاق هنري فكان سوء تقدير سياسي على أساس الدين أكثر من كونه موقفًا أخلاقيًّا مرتبطًا بالمبادئ، وهو ما أدى إلى إعدام مور. ويوضح كلٌّ من كتاب مور «يوتوبيا» وكتاب مكيافيلي «الأمير» الانتهازية السياسية للإنسانيين في عصر النهضة.
ومن بيترارك إلى مور، كانت الحركة الإنسانية في عصر النهضة تخدم بمرونة من كان يبدو من المناسب والمفيد اتِّباعه سياسيًّا. ولهذا فإن العديد من الفلسفات السياسية الحديثة ادَّعت أن كتبًا مثل «الأمير» و«يوتوبيا» تبرر مطالبها الشخصية للقوة والسلطة. ولا تزال الحركة الإنسانية في عصر النهضة لها تأثير فعال على الحركات الإنسانية الحديثة، لكن الحركة الإنسانية — كما أكد هذا الفصل — ليست احتفاءً مثاليًّا بالمشاعر الإنسانية كما كانت تزعم في الغالب، ولكنها في جوهرها براجماتية إلى حد بعيد. إن ميراث الحركة الإنسانية في عصر النهضة أكثر تناقضًا مما يعتقد الكثيرون، ويرجع ذلك — جزئيًّا — إلى أن لغتها لا تزال شديدة الإغراء.