العلم والفلسفة
تعبر مسرحية «دكتور فاوستوس» للكاتب كريستوفر مارلو بصورة درامية عن الإثارة والخطر المرتبطين ببزوغ نجم العلم والتفكير التأمُّلي في عصر النهضة. إن فاوستوس «منجم» علَّامة، وصل إلى أقصى حدود دراسة علم الفلك والتشريح والفلسفة. وفيما كان فاوستوس يسعى وراء قوى سحرية في الحياة للتغلب على الموت، فإنه يبيع نفسه للشيطان مفيستوفيليس. ورغم أنه يحصل على فرصة للتوبة، فإنه يرفضها. فهو مهتم أكثر بسؤال مفيستوفيليس عن موضوع «التنجيم الإلهي» المثير للجدل. وفي النهاية يُلعَن فاوستوس ويسقط إلى الجحيم؛ ولكن تفضيله للتعليم واحتقاره للدين أسر خيال العامة في أواخر عصر النهضة. ويلخص مصيره المخاوف الحديثة حول أخلاقيات التجارب العلمية. وأصبح هذا التناقض (التوق إلى المعرفة مع التساؤل: هل يمكننا أن نعرف أكثر مما ينبغي؟) بمثابة سمة للتغيرات التي طرأت على كل من العلوم المبسطة والعلوم التطبيقية التي حدثت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. فقد تغيرت علاقة الفرد بعقله وجسمه وبيئته، نتيجة التعاون العلمي المتجدد في سعيه وراء حل المشكلات بصورة عملية، وتبادل الأفكار بين الثقافات، وتأثير التكنولوجيات الجديدة.
من الكون الكبير إلى الكون الصغير
بمجرد أن باع فاوستوس روحه، طلب من مفيستوفيليس كتابًا «يمكن أن أرى فيه كل شخصيات وكواكب السماوات». وكان كتاب «حول دوران الأجرام السماوية» للكاهن والفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكوس هو الكتاب الأكثر إثارة للجدل الذي كان باستطاعة فاوستوس الرجوع إليه. طُبع كتاب كوبرنيكوس الثوري هذا للمرة الأولى في نورمبرج في مايو ١٥٤٣، فأطاح بمعتقد العصور الوسطى القائل بأن الأرض تقع في مركز الكون. وقد أظهر تصور كوبرنيكوس للسماوات أن الأرض وسائر الكواكب الأخرى المعروفة تدور حول الشمس. وقد راجع كوبرنيكوس بمهارة عمل باحثي الفلك اليونانيين والعرب الكلاسيكيين، وكان يؤكد: «إنهم لم يحققوا هدفهم الذي نأمل أن نصل إليه بقبول حقيقة أن الأرض تتحرك.»
في غضون شهر من نشر بحث كوبرنيكوس، طُبع كتاب آخر كان من شأنه أن يغير شكل مجال آخر من العلم: وهو كتاب أندرياس فيزاليوس «حول تركيب الجسم البشري». نُشر كتاب فيزاليوس في بازل في يونيو من عام ١٥٤٣، ومثَّل بداية العلم القائم على الملاحظة وعلم التشريح الحديثين. وتوضح صفحة العنوان فيزاليوس وهو يقدم درس تشريح تصويري عام منعقدًا في «مسرح»، حيث يحيط به التلاميذ والمواطنون والزملاء من الأطباء، وينظر فيزاليوس إلينا وهو يكشف بطن جثة أنثى. هذه الإيماءة تدعو القارئ لفتح الكتاب ومتابعة عالِم التشريح وهو يختزل الجسم البشري إلى الهيكل العظمي الذي يحوم حول الجسم المشرح. كشف فيزاليوس سرَّ الجسم الداخلي كخريطة معقدة من اللحم والدم والعظام، وهذا بمثابة مصدر — قد يكون لامتناهيًا — للدراسة. لقد فتح استكشافه لأسرار الجسم البشري الطريق أمام دراسة الأذن وأعضاء التناسل الأنثوية، والجهاز الوريدي في وقت لاحق من القرن السادس عشر، وكذلك أمام نظرية ويليام هارفي عن الدورة الدموية في عام ١٦٢٨.
كانت دراسات فيزاليوس التشريحية قائمة على الملاحظة المنهجية وتحليل الواقع التجريبي. وكان هذا معناه بالنسبة لفيزاليوس سرقة أجساد المدانين والمرضى كما اعترف قائلًا: «لم أكن أخشى أن أقوم في منتصف الليل باختطاف ما كنت أتوق إليه.» وبينما كان فيزاليوس يستكشف الأسرار الميكروسكوبية للجسم البشري، استكشف كوبرنيكوس الأسرار الكونية الكبرى. وكانت لهذا دلالات عميقة؛ ففي نهاية المطاف، غير كوبرنيكوس من وجه الإدراك العلمي للزمان والمكان، وذلك بتقويض فكرة العالم المُرتَّب إلهيًّا. وبدلًا من هذا، أصبحت الأرض تصوَّر على أنها مجرد كوكب واحد في زمان الكون وفضائه الممتدين. كما صور فيزاليوس الإنسان الفرد باعتباره آلية معقدة ومركبة من الدم واللحم والعظام، والتي سيعتبرها هاملت في المسرحية التي كتبها شكسبير فيما بعد «جوهر التراب»، وسيطلق عليها الفيلسوف رينيه ديكارت «آلة متحركة».
كان الإبداع العلمي في عصر النهضة مرتبطًا بثبات بالمتطلَّبات العملية، ولا سيما في مجال الحرب أكثر من غيره من المجالات. ومثَّلت مطبوعات نيكولو تارتاليا عن الميكانيكا والديناميكا والحركة أولى الدراسات الحديثة في علم القذائف. وقد أُهدي كتابه «تساؤلات واختراعات متعددة» (١٥٤٦) إلى الملك هنري الثامن ذي الطموح العسكري، وتناول الكتاب علم القذائف وكذلك ابتكار المدفعية واستخدامها. وقد تجاوب كتاب تارتاليا مع الاختراعات الجديدة في صناعة الأسلحة والحرب وأضاف إليها وطورها، وذلك بدءًا من ابتكار استخدام البارود كوقود تفجيري في بداية القرن الرابع عشر حتى نشأة سلاح الفرسان الذي كان عاملًا حاسمًا في صراعات القرن السادس عشر. وقد أدى تأثير هذه التطورات العسكرية العلمية إلى مزيد من التطورات في مجالي التشريح والجراحة. ففي عام ١٥٤٥، نشر أمبرواز باريه — وهو من أشد المعجبين بفيزاليوس — دراسته عن الجراحة القائمة على اشتراكه في الحروب الفرنسية-الهابسبورجية في أربعينيات القرن السادس عشر. ودحض باريه المعتقد الشائع بأن جروح الطلقات النارية سامة، ورفض تضميد الجروح بالزيت المغلي، وقد كان هذا ابتكارًا عمليًّا جعله يستحق فيما بعد لقب أبي الجراحة الحديثة.
وكذلك قدمت الهندسة والرياضيات طرقًا جديدة لفهم الحركة التي تزداد تعقيدًا وغالبًا ما تكون غير مرئية للبضائع والأوراق المالية عبر الكرة الأرضية، كما أنهما سهَّلتا تطورات جديدة في تصميم السفن ومسح الأراضي ورسم الخرائط؛ الأمر الذي تنبَّأ بتعاملات تجارية أسرع من ذي قبل، والتي لم يتخيَّلها أحد في ذلك الوقت من حيث السرعة والحجم. وأصبح كتاب ريجيومونتانوس «عن المثلثات» كتابًا أساسيًّا بالنسبة لرسامي الخرائط والملاحين في القرن السادس عشر. فمعالجته المتطورة لعلم المثلثات الكروية دعت رسامي الخرائط لإنشاء كرات أرضية ومساقط خرائطية تأخذ في الاعتبار انحناء سطح الأرض. ونُشرت النسخة المطبوعة الأولى في عام ١٥٣٣ في نورمبرج موطن صناعة نماذج الكرة الأرضية المبكرة، التي ظهرت في أعقاب الإبحار الأول حول الكرة الأرضية في عام ١٥٢٢.
أتاحت الابتكارات العلمية في الرياضيات والفلك والهندسة الفرصة أمام السفر والتجارة عبر مسافات بعيدة في اتجاه الشرق والغرب، والتي كانت تزداد طموحًا، وهو ما خلق في حدِّ ذاته فرصًا جديدة وكذلك مشكلات جديدة. فمقابلة بشر ونباتات وحيوانات ومعادن جديدة عبر أرجاء أفريقيا وجنوب شرق آسيا والأمريكتين؛ وسَّعت مدارك مجالات علم الوظائف وعلم النبات وعلم الحيوان وعلم المعادن في أوروبا وأعادت تعريفها. وكانت هذه التطورات غالبًا ما تتميز ببعد تجاري تحديدًا. فتناول كتاب جورجيوس أجريكولا «حول المعادن» — الذي نُشر للمرة الأولى في عام ١٥٥٦ — «استخراج المعادن الخام» و«صهر المعادن»، و«فصل الفضة عن الذهب والرصاص عن الذهب والفضة»، و«صناعة الملح والصودا وحجر الشبِّ والزَّاج والكبريت والقار والزجاج». وقد أحدث دمج علم الكيمياء وعلم المعادن وملاحظات وتجارب أجريكولا عن تجمعات التعدين في جنوب ألمانيا ثورة في تقنيات التعدين، ولعب دورًا أساسيًّا في الزيادة الهائلة في إنتاج فضة العالم الجديد وتصديرها في النصف الثاني من القرن السادس عشر.
وسرعان ما أدرك التجار والممولون أن الاستثمار في العلم يمكن أن يكون عملًا مربحًا. ففي عام ١٥١٩، كتب الإنساني الألماني أولريخ فون هوتن دراسة عن نبات الجياك؛ وهو عقار سحري جديد مستخرج من نبات في الأمريكتين كان يُعتقد أنه يشفي من مرض الزهري. وقد أهدى هوتن كتابه إلى رئيس أساقفة ماينز، وكتب يقول: «أتمنى أن تكون نيافتكم قد أفلتُّم من مرض الزهري، ولكن في حالة الإصابة به (لا قدر الله، لكن لا أحد يعلم) سيكون من دواعي سروري أن أعالجكم وأشفيكم.» وكان يُعتقد (اعتقادًا خاطئًا) أن مرض الزهري قد بدأ في العالم الجديد وعاد إلى أوروبا مع كولومبس في عام ١٤٩٣، وأن الأصل الجغرافي للمرض ينبغي أن يوفر العلاج. وأطلقت عائلة فوجر الألمانية التجارية، التي فرضت احتكارًا على استيراد العقار، حملة لتأييد الجياك، وفتحت سلسلة من المستشفيات لتوفير العقار حصريًّا. وعندما ارتفع سعر العقار واتضح عدم فعاليته، نشر الطبيب والخيميائي السويسري باراسيلسوس سلسلة من الهجمات على العقار، رافضًا إياه باعتباره خدعة تجارية، ونصح باستخدام الزئبق في العلاج، وإن كان الأكثر ألمًا.
رفض باراسيلسوس الاعتقاد الكلاسيكي في نظرية الأخلاط؛ التي كانت تؤمن بالاحتفاظ بالتوازن بين سوائل الجسم الأربعة الأساسية: الدم والصفراء والبلغم والسوداء. وبدلًا من هذا، تبنى نهجًا كيميائيًّا في الطب، مؤكدًا على أن المكونات الأساسية للطبيعة يمكن ملاءمتها مع أمراض معينة؛ الأمر الذي قاده لاستخدام عناصر مثل الحديد والكبريت والزئبق في معالجته لأمراض مثل الزهري. وبالاعتماد على العالم العملي الجديد القائم على التجربة والخطأ، بالإضافة إلى مجال الكيمياء، اصطدم باراسيلسوس بالسلطات المؤسسية والمالية. فقد ردَّت عائلة فوجر على عمله على مرض الزهري والزئبق باستخدام نفوذها المالي لحظر مطبوعاته، والسخرية من مصداقيته العلمية. وقد تنبأت مثل هذه الصراعات بظهور صناعة الصيدلة الحديثة، وعالم الأدوية التجارية.
العلم القادم من الشرق
حصل علم عصر النهضة أيضًا على قوة دافعة إضافية من الانتقال المتزايد للمعرفة بين الشرق والغرب. فقد حُفِظت الكثير من النصوص اليونانية العلمية الكلاسيكية في الترجمات العربية والفارسية والعبرية، وروجعت في أماكن مثل توليدو في إسبانيا، وأكاديمية العلوم التي تأسست في بغداد في القرن التاسع. وقد لعبت المراكز التعليمية الإسلامية دورًا أساسيًّا في دفع التطورات العلمية القائمة على المعرفة اليونانية والابتكارات العربية قدمًا، ولا سيما في مجالي الطب والفلك. ففي أربعينيات القرن الثاني عشر، كتب هوجو سانتالا — وهو مترجم لاتيني للنصوص العربية — قائلًا: «سيكون من المفيد لنا محاكاة العرب بصفة خاصة؛ لأنهم بالضبط كما كان معلمونا وكما كان الرواد.»
وقد أثرت الدراسات العربية للطب مباشرة على نشر المعرفة في الغرب. فالباحث العربي ابن سينا من القرن العاشر درس الأبحاث الطبية اليونانية لجالينوس وأرسطو أثناء تأليف كتابه الموسوعي «القانون في الطب». وقد عرَّف الطب بأنه: «العلم الذي نتعلم من خلاله الحالات المختلفة للجسم البشري — عندما يكون صحيحًا وعندما يكون سقيمًا — والذي به نحافظ على الصحة، وبه كذلك نستعيدها بعد السقم.» تُرجم كتاب «القانون في الطب» إلى اللاتينية في توليدو في القرن الثاني عشر على يد جيرارد من كريمونا. وطبع من هذه الترجمة أكثر من ٣٠ طبعة في إيطاليا في الفترة ما بين ١٥٠٠ و١٥٥٠، في الوقت الذي صار فيه كتاب ابن سينا نصًّا طبيًّا أساسيًّا في الجامعات في جميع أرجاء أوروبا. وفي عام ١٥٢٧، نشر الطبيب الفينيسي أندريا ألباجو طبعة جديدة من كتاب «القانون في الطب» تستند إلى خبرته كطبيب يعمل لصالح قنصلية فينيسيا في دمشق. وكان ألباجو قد درس كتابات الطبيب السوري ابن النفيس (١٢١٣–١٢٨٨)، الذي أثَّر بحثه عن حركة الدم في الرئتين على الدراسات الأوروبية عن الدورة الدموية في القرن السادس عشر. كما أدان فيزاليوس الأطباء الأكاديميين الذين كانوا يُمضون وقتهم في «نقد غير ذي جدوى لابن سينا وبقية الكتاب العرب». إذ إنه كان شديد الاقتناع بأهمية الطب العربي، حتى إنه بدأ في تعلم اللغة العربية بنفسه، كما كتب شروحًا لمدح علوم المداواة والمواد الطبية التي استخدمها الرازي. وفي عام ١٥٣١، قام أوتو برونفيلز — الذي يُطلق عليه «أبو علم النبات» — بتحرير طبعة من المواد الطبية التي استخدمها ابن سرابيون (سرابيون الأصغر) من القرن التاسع، والتي كان لها تأثير حاسم على فهمه الخاص لعلم النبات.
كما أسهمت التعاملات العلمية بين الشرق والغرب في نظرية كوبرنيكوس عن طبيعة النظام الشمسي المتمركز حول الشمس. وتأسَّس واحد من أهم مراكز الفلك والرياضيات العربية في مرصد مراغة في بلاد فارس في منتصف القرن الثالث عشر. وكانت الشخصية البارزة فيه هي نصير الدين الطوسي (١٢٠١–١٢٧٤) الذي أدخل كتابه في علم الفلك الذي يحمل اسم «تذكرة في علم الحياة» تعديلات على عمل بطليموس المتناقض عن حركة الأجرام السماوية. وأدت مراجعة الطوسي الأكثر أهمية لعمل بطليموس إلى نشأة «مزدوجة الطوسي». وتنص هذه النظرية على أن الحركة الخطية يمكن اشتقاقها من الحركة الدائرية المنتظمة التي صورها الطوسي باستخدام جسم كروي يدور داخل جسم كروي آخر له ضعف نصف القطر. وقد أدرك مؤرخو الفلك أن كوبرنيكوس قد أعاد إنتاج مزدوجة الطوسي في كتابه «حول دوران الأجرام السماوية»، وأن النظرية كانت أساسية في تعريف رؤيته عن النظام الشمسي المتمركز حول الشمس. ولم يكن أحد يبحث عن التأثير العربي على العلم في عصر النهضة؛ لأن الافتراض العام كان أنه لا يوجد أي تأثير.
فن العلم
ربطت الطباعة بين الفن والعلم كما لم يحدث من قبل، وكان ألبريشت دورر من بين من استفادوا من هذا الوضع. فسرعان ما أتقن بورر التقنية الجديدة للنقش على الكليشيهات النحاسية، وسافر إلى إيطاليا كي «يتعلم أسرار فن الرسم المنظوري». وكان يعتقد أن «الفن الجديد ينبغي أن يكون قائمًا على العلم، ولا سيما الرياضيات بصفتها أكثر العلوم دقة ومنطقية واستدلالية من ناحية الرسوم البيانية». وفي عام ١٥٢٥، نشر دراسة عن الهندسة والرسم المنظوري عنوانها: «دورة تدريبية في فن القياس بالبوصلة والمسطرة»، وذلك كي «يستفيد منها ليس فقط الرسامون، ولكن أيضًا الصائغون والنحاتون والبنَّائون والنجَّارون، وكل من يعتمدون على القياس».
كان من بين الشخصيات المبكرة المؤثرة على مهنة دورر ذلك الشخص الذي جسَّد العلاقات بين الفن والعلم في عصر النهضة: إنه ليوناردو دافنشي. زعم لوكا باتشولي أن ليوناردو كان «الشخصية الأفضل والأكثر كفاءة بين جميع الفنانين والرسامين المنظوريين والمعماريين والموسيقيين؛ شخصية مُنحت كل كمال»، حيث استخدم استغراقه في العلم لتسويق مهاراته كنحَّات ومسَّاح ومهندس عسكري ورسَّام تشريحي. وقد جعلت قدرة ليوناردو على دمج المهارات الفنية بالقدرة العلمية العملية من خدماته محل تقدير شديد من جانب العديد من الرعاة النافذين.
لديَّ تصميمات لجسور خفيفة، وقوية، وسهلة الحمل … لديَّ طرق لتدمير كل حصن … سوف أصنع المدافع والهاون والمعدات الحربية الخفيفة … ويمكنني صناعة المجانيق والمقاذف والأدوات الأخرى … وأعتقد أنني يمكنني تلبية كامل الرغبات في مجال العمارة، وفي بناء المباني العامة والخاصة … كما يمكنني كذلك نحت التماثيل بالرخام والبرونز والصلصال.
طرح لودوفيكو علم ليوناردو الفائق في المجال العسكري جانبًا، وكلَّفه بدلًا من ذلك بإنشاء نصب تذكاري فروسي ضخم زعم ليوناردو أنه «سيكون تجسيدًا للمجد الخالد والشرف الأبدي … لعائلة سفورزا الشهيرة». وتبيِّن مخططات ليوناردو عن النِّسَب وقالب صبِّ الحصان كيف أنه استخدم كافة مهاراته في الهيدروليكا والتشريح والتصميم لتصميم تمثال يجسد المجد المدني لعائلة سفورزا.
وعلى غرار معظم مشروعاته الطموحة من الناحية التقنية، فإن حصان ليوناردو لم يُشيد قط. فقد انتقل ليوناردو إلى مكان آخر، وبحلول عام ١٥٠٤ كان في خضم مفاوضات مع السلطان العثماني بايزيد الثاني لبناء جسر بطول ٣٥٠ مترًا فوق البوسفور. فكتب ليوناردو إلى بايزيد قائلًا: «سوف أقيمه مرتفعًا مثل القنطرة حتى تتمكن السفينة منشورة الأشرعة من الإبحار تحته.» وعندما استاء بايزيد من تصميمات ليوناردو غير الواقعية، استبعده وبدأ مفاوضاته مع مايكل أنجلو. وكان من أكبر أخطاء ليوناردو في التقدير هو عدم تقديم أفكاره للطباعة. ونتيجة ذلك — وعلى خلاف دورر — لم يترك ليوناردو أي ابتكارات ملموسة للأجيال اللاحقة. فظلَّ شخصية لامعة لكنها غامضة، إلى أن أنقذه والتر باتر من السقوط في بئر النسيان في القرن التاسع عشر.
الفلسفة الطبيعية
كان يعتبر أنه من العدل والتقوى أن العقل البشري — الذي يتلقى كل شيء من الله — يجب أن يعيد إليه كل شيء. ومن ثم، لو كرَّسنا أنفسنا للفلسفة الأخلاقية، فإنه يحثنا على تنقية روحنا حتى تصبح في نهاية المطاف صافية، مما يمكنها من رؤية النور الإلهي، وعبادة الله.
كان هذا المنهج الأفلاطوني يتمتع بميزتين واضحتين عن الفكر الأرسطي؛ الأولى هي أنه كان من الممكن ملاءمتها بصورة أسهل بكثير في الإيمان المسيحي في خلود الروح والعبادة الفردية لله الذي كان سائدًا في القرن الخامس عشر. والميزة الثانية هي أنها عرَّفت التفكير الفلسفي بصفته أثمن ممتلكات المرء. لقد رفعت نسخة فيتشينو من الأفلاطونية بمهارة من مستوى مهنته كفيلسوف، كما أن رفضه للسياسة وتفضيله للتأمل الصوفي كان يلائم الفلسفة السياسية لراعي فيتشينو؛ وهو حاكم فلورنسا كوزيمو ميديتشي الذي عيَّن فيتشينو رئيسًا لأكاديميته الفلسفية في عام ١٤٦٣.
سرعان ما وسَّع الفلاسفة اللاحقون الأفلاطونية المحدثة التي قدمها فيتشينو ونقَّحوها. ففي مقدمة كتاب «الاستنتاجات» (١٤٨٦)، حاول جوفاني بيكو ديلا ميراندولا خَلْق ما أسماه «التناغم بين أفلاطون وأرسطو»، في محاولة لتوحيد الفلسفة الكلاسيكية مع المسيحية. واعتمد بيكو على النصوص اليهودية والعربية الصوفية (وقد بدأ تعلم اللغة العربية تقديرًا لأهمية الفلسفة العربية) لتأسيس الفلسفة الطبيعية باعتبارها أفضل طريقة للبحث الميتافيزيقي. وزعم أن «الفلسفة الطبيعية سوف تهدئ الصراع واختلافات الرأي التي تعكِّر صفو الروح وتشتتها وتجرحها». ولسوء الحظ، تعرَّض كتاب بيكو «الاستنتاجات» للتحقيق من جانب لجنة باباوية أدانت بعض فرضياته باعتبارها هرطقة. أما الباحثون اللاحقون في عصر النهضة فكانوا أكثر اهتمامًا بملاحظات بيكو الافتتاحية في كتاب «الاستنتاجات»، حيث اعتبروا أنها تقدم رؤية جديدة للشخصية الفردية. واستنادًا إلى ما قدمه أفلاطون، أكد بيكو في مقدمته أن الإنسان «صانع وصائغ نفسه»، حيث يتمتع بحرية «أن يمتلك ما يتمناه، وأن يكون ما يريده». وبالنسبة لكتَّاب القرن التاسع عشر — مثل والتر باتر — أصبحت مقدمة بيكو التصريح الكلاسيكي عن الفردية ومولد إنسان النهضة، وفي عام ١٨٨٢، أُعطيت عنوانها الإنجليزي: «خطبة عن كرامة الإنسان»، تلك العبارة التي لم يستخدمها بيكو نفسه قط.
استمر كلٌّ من أفلاطون وأرسطو في التأثير على الفن والأدب والفلسفة والعلم في القرن السادس عشر بشكل هائل. وقد ألهمت الأفلاطونية المحدثة العمل الفني والأدبي لشخصيات متنوعة مثل مايكل أنجلو وإراسموس وسبنسر، بينما ظلَّت الأرسطية كيانًا متنوعًا من الأعمال بدرجة تكفي لدعوة العلماء والفلاسفة لمراجعتها وفقًا لعالمهم المتَّسع. ومع ذلك، ومع اقتراب نهاية ذلك القرن، كانت المنزلة الفكرية الرائدة لكلا الفيلسوفين تتآكل ببطء دون شك. فقد أدى اكتشاف أمريكا إلى أن يدرك مونتين في عام ١٥٨٠ أن عمل أرسطو وأفلاطون «لا يمكن أن ينطبق على هذه الأراضي الجديدة». كما أدى دحض جاليليو لنظريات أرسطو الخاصة بالحركة والسرعة وطبيعة الكون في بدايات القرن السابع عشر إلى استنتاج مفاده: «إنني أشك بقوة في أن أرسطو قد أجرى أي اختبار قائم على التجربة.»
منطق جديد يعلم الاختراع والحكم بواسطة الاستقراء (مثل اكتشاف أن القياس المنطقي غير صالح لعلوم الطبيعة)، ومن ثم يجعل الفلسفة والعلوم معًا أكثر صحة ونشاطًا.
لقد قدَّم بيكون رؤية جديدة تمامًا للمعرفة العلمية قائمة على التجميع الدقيق للبيانات الطبيعية استنادًا على الملاحظة والتجربة والاستقراء؛ أي استنتاج المبادئ النظرية العامة من حقائق معينة. وقد ظلَّت المهمة الهائلة لإصلاح تصنيف العلوم الطبيعية غير مكتملة حتى موته، لكنها اصطدمت بالافتراضات الكلاسيكية التي كان يوقِّرها الباحثون في عصر النهضة، وبشرت بقدوم العلم التجريبي الذي تبنته الجمعية الملكية في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر. وفي عام ١٦٢٦، أكمل بيكون كتابه «أطلانتس الجديدة»؛ وهي عالم يوتوبي يستند إلى يوتوبيا أفلاطون، ولكن لم يعد مواطنو هذا العالم الأكثر احترامًا وتبجيلًا هم الفلاسفة بل العلماء التجريبيون. كان هذا تحولًا من شأنه أن يؤثر على العلم الحديث وانفصاله عن الفلسفة.