نظرية المعرفة
كثيرًا ما تعرف الفلسفة بأنها نظرية «الكون والمعرفة»، فعلم ما بعد الطبيعة يبحث في حقيقة الكون وأصله، أما ما يبحث في المعرفة نفسها (العلم بالشيء)؛ أعني حقيقتها ومنبعها وحدودها التي تقف عندها، فيكون فرعًا آخر من الفلسفة يسمى «نظرية المعرفة» أو «إبستمولوجيا». وقد وَجَّه فلاسفة اليونان الأولون نظرهم للبحث في حقائق الأشياء وطبائعها، وهذا التفلسف والنظر الذي يفوق أنظار السذج والعامة وآراءهم تدرج بالمفكرين الذين يبحثون عن الحقائق إلى البحث في مسألة أخرى؛ وهي: لماذا يختلف نظري إلى الأشياء عن أنظار غيري من الناس؟ ولماذا تختلف نظرياتي المبنية على البحث عن الأفكار الشائعة بين العامة؟ إني أعرف أن الناس على باطل وأني على حق، وأن هناك عالمًا من الأشياء خارجًا عني يعرفه عقلي، فكيف تدخل المعرفة بهذه الأشياء في عقلي فتثير أفكارًا تولد عالمًا من الأشياء في داخله؟ كيف حصلت هذه المعرفة؟ ولِمَ يفكر الناس على خلاف ما أفكر؟ أين منبع الحقيقة التي حصلتها؟ أين أصل المعرفة وحدودها التي تقف عندها؟ وما حقيقتها وطبيعتها؟ هذه الأبحاث أدت إلى الشك في صحة المعرفة وفي الوثوق بها، وجاش في النفس هذا السؤال: هل يمكن بحال أن نعرف الحقيقة، وأن نجد مقياسًا صحيحًا عامًّا نقيس به الأشياء لنعرف صحيحها من باطلها؟ قد كان العقل البشري في أول الأمر يميل إلى العمل والسير في الحياة من غير أن يسأل نفسه سؤالًا كهذا، حتى إذا وقع في الخطأ ورأى آراء تناقض آراءه اعتراه الشك ولم يعد يثق بما يرى، وبعد أن كان الفكر يشتغل بالأشياء الخارجية توجه للبحث في نفسه هو، باحثًا عن نصيبه من الصحة فسأل: ما المعرفة؟ وما علاقتها بالحقيقة؟ هل المعرفة ممكنة؟ وهل يستطيع العقل البشري الوصول إليها؟ وإذا كان كذلك فكيف الوصول؟ هذه أسئلة وأبحاث توجه إليها العقل الإنساني الشائق إلى أن يعرف، بعد أن بحث أبحاثه فيما بعد الطبيعة.
قال «بولسن»: إن الفلسفة ابتدأت في جميع أماكنها بالبحث فيما بعد الطبيعة، فكان البحث في شكل العالم وتكوِّنه وأصله، وفي طبيعة الكون، وماهية الروح وعلاقتها بالبدن؛ هو موضوع الفلسفة الأولى، وبعد أن استغرقت هذه الأبحاث زمنًا طويلًا اتجه الفكر للبحث في المعرفة وإمكانها، ورأى العقل البشري ضرورة النظر فيما إذا كان من الممكن بحال حل هذه المسائل، ومن هذا النظر نتجت «نظرية المعرفة»، من هذا يفهم أن البحث في صحة معرفة الأشياء وحدودها وعلاقتها بحقائق الأشياء هو موضوع ما يسمى نظرية المعرفة، أو إبستمولوجيا.
- (١)
ما المعرفة؟ وهو سؤال عن نفس المعرفة.
- (٢)
بِمَ أحصِّل المعرفة؟ وهو سؤال عن أصل المعرفة ومنبعها.
- (٣)
هل يمكن تحصيل المعرفة؟ وهو سؤال عن صحة المعرفة وحدودها.
وعلى هذا المذهب تكون كل معرفة — ولو كانت فكرًا عميقًا أو «لَقَانة» — ترجع إلى الإدراك الحسي، فمذهب الحاسيين أو التجربيين إذًا هو المذهب القائل بأن التجربة هي المنبع الوحيد للمعرفة، أو على الأقل أساسها، وأن كل معرفة تنبع من التجربة، والتجربة نوعان: فإما أن تكون مستقاة من الحواس الظاهرة، وإما من الباطنة، فإدراك الأشياء الخارجية يسمى إحساسًا، وإدراك الأشياء الباطنية يسمى تأملًا، والإدراك بنوعيه باب ينفذ منه ضوء المعرفة «إلى حجرة الفهم المظلمة».
قال «لوك» في رسالته (العقل البشري): «لنفرض أن العقل صحيفة بيضاء خالية من أية كتابة وأي معنى، فكيف استعدَّت لأن تتلقى ما يلقى إليها؟ ومن أين لها ذلك المستودع العظيم الذي نقشه عليها خيال الإنسان الواسع نقشًا متنوعًا إلى أنواع لا تحد؟ ومن أين لها كل مواد الفهم والمعرفة؟ عن كل هذه الأسئلة أجيب بكلمة واحدة وهي: «من التجربة»؛ فمنها استقينا كل ما عرفنا، ومنها نستمد المعرفة؛ فملاحظتنا — سواء كانت ملاحظة محسوسات خارجية أو ملاحظة عمليات العقل الباطنية، وبعبارة أخرى سواء أكانت إدراكًا بالحس الخارجي أو تأملًا فكريًّا — هي التي تزود عقلنا بكل أدوات التفكير، ومن هذين الينبوعين تنبع كل أفكارنا … وكل أفكار يمكن أن تكون … وهما — على ما أعرف — المنفذان اللذان ينفذ منهما الضوء إلى تلك الحجرة المظلمة؛ إذ يظهر لي أن العقل كحجرة صغيرة حرمت من كل النوافذ إلا فتحات صغيرة تدخل منها صور المحسوسات الخارجية أو الآراء المتعلقة بها.» وقال: «لهذا كان أول مقدرة للعقل هو أن يكون صالحًا للانفعال؛ إما بواسطة الحواس التي تدرك الأشياء الخارجية، وإما بالعمليات التي يعملها العقل عند التأمل في هذه الأشياء، وهذه أول خطوة يخطوها الإنسان لاستكشاف أي شيء، والأساس الذي تنبني عليه كل الآراء التي يحصلها في هذا العالم، فكل الأفكار الراقية الجليلة التي تفوق السحاب رفعة وتعلو علو السماء إنما أصلها الحواس، يسبح العقل مسافات بعيدة ويفكر ويتأمل تأملات رفيعة، وهو في كل هذا لا يخرج قِيدَ ذرة عما أمدته به الحواس أو التأمل (الفصل الأول من الجزء الثاني).» من هذا يعلم أن الحاسيين أو التجربيين يرون أن ما يمكن أن يجرب هو وحده الذي يمكن أن يعرف، وأن أداة المعرفة الصحيحة هو الإدراك بالحس، ومدركاتنا عند التجربيين ناشئة من قوة الإدراك بالحس، أما قوة الفكر فقابلة في الغالب لما يرد عليها لا فاعلة. (انظر فلكنبرج ص٣١٨).
إنما شغل العقليون والتجربيون أنفسهم بمسألة المعرفة، فذهب الأولون إلى أنها تحصل بواسطة العقل المحض، وبه وحده يحصل العلم بالأشياء، أما بواسطة الإدراك بالحس فمستحيل أن يحصل ذلك، والتجربيون ينكرون تحصيل المعرفة بالعقل المحض، ولكن لم يتعرض أحد المذهبين لمسألة إمكان المعرفة، فكلاهما وثق بالعقل البشري ثقة تامة واعتقد بقدرته على معرفة الأشياء.
ولكن لما كان هذا الموثوق بالعقل وبقدرته على تحصيل الحقائق قد تزلزل بنظرية التجربيين؛ كانت النتيجة أن ضعفت الثقة بالعقل أولًا، وتلا ذلك تعريضه للنقد والامتحان، وظهرت هذه المسألة: هل تمكن المعرفة؟ وإذا أمكنت فإلى أي نقطة تمتد؟ وما حدودها؟ والعقليون والتجربيون لم يبحثا في هذه المسألة، بل آمنا بأن لنا قدرة على معرفة الأشياء؛ إما بواسطة الإدراك بالحس، وإما بواسطة التفكير، وبأن الأشياء في الحقيقة هي كما ندركها، ويسمى هذان المذهبان مذهب اليقين؛ نظرًا لتيقنهما بإمكان المعرفة.
ويعارض مذهب اليقين مذهبان آخران يكونان نظامين من نظم الفلسفة، ويتعلقان بمسألة إمكان المعرفة وحدودها: أحدهما مذهب الشك، والآخر مذهب النقد، فمذهب الشك يشك فحسب، وينكر إمكان المعرفة وقدرة الإنسان عليها، ويمسك عن إبداء أي رأي، ويقابله مذهب النقد؛ فهو لا بد من أن ينكر ببساطة، ويشك من غير تعليل، ينقد ويبحث في كيف نشأت المعرفة كما يبحث في حدودها.
رأى النقاد — أصحاب مذهب النقد — أنفسهم أمام مسألتين لا تحل ثانيتهما إلا بحل أولاهما، فقبل أن يبحثوا في منبع المعرفة وأصلها قالوا: يجب أن نبحث في حدود المعرفة ويقام البرهان على إمكانها، وبعد أن تعرف الشروط التي بها تحصل المعرفة يمكن للإنسان أن يعرف ما يمكن إدراكه بهذه الشروط. (فلكنبرج ٣٢٢).
وإنا نذكر كلمة مجملة في تاريخ نشوء نظرية المعرفة (إبستمولوجيا)، ففي عصر الفلسفة القديمة كان السوفسطائيون أول من أثار البحث في المعرفة، ومهدوا السبيل للعقليين والتجربيين، وفيها بحث الإيليون وأفلاطون وأرسطو، وفيها بحث الرواقيون والشكاك والأبيقوريون، وفي العصور الحديثة كانت هذه المسألة في مقدمة المسائل عند البريطانيين وغيرهم من الممالك الأوروبية في القرن السابع عشر، فكان للعقليين نفوذ كبير في ممالك أوروبا غير بريطانيا بما وضعه ديكارت ١٦٥٠، وسبينوزا ١٦٧٧، وليبنتز ١٧١٦، وولف ١٧٥٤. أما الباحثون البريطانيون: بيكون ١٦٢٦، وهوبز ١٦٧٩، ولا سيما جون لوك ١٦٣٢–١٧٠٤ فكانوا تجربيين، وقد أدت أبحاث لوك التجربية إلى مذهب الشك الذي وضعه هيوم ١٧٧٦ في إنجلترا، كما أن بحث هيوم كان باعثًا قويًّا «لكانت» على أن يرقى مذهبه النقدي، وكما قيل: «ينبهه من نومه اليقيني.»