طائرة مائية … تقودهم إلى المركز
كان كل شيء يبدو أسود اللون؛ المنازل، والشجر، والحشائش. لقد غطَّت حمم البركان بدخانها كل شيء، حتى إنها كانت تبدو كمدينة للأشباح. كان «أحمد» يمشي خلف أحد الأطباء، ووراءه الشياطين، الذين كانوا يبدو عليهم الحزن.
قال الطبيب: خذوا حذركم؛ إننا أمام موقف صعب، ولا نريد أن نفقد أحدًا منكم.
تقدموا لأول المنازل التي أصابها البركان. كانت مهدمة تمامًا، في الوقت الذي كان فيه رجال الإنقاذ يقومون بمهامهم. ولم يتوقف الشياطين، دخلوا معركة الإنقاذ. بسطوا النقالات لحمل المصابين، وبسرعة كانوا يبتعدون بهم قليلًا، ثم يقومون بإسعافهم. لحظة، ووقف الطبيب ينظر لهم، فقد كانوا يعملون بمهارةٍ فائقةٍ حتى إنه ابتسم.
ظل العمل مستمرًّا.
لكن فجأة، سمع «أحمد» أحد المصابين يهمس: «جيرار»، «جيرار»، لقد انتهيت!
ظهرت الدهشة على وجه «أحمد» وهو يسمع «جيرار». قال في نفسه: هل يقصد «جيرار بل»؟ وهل هذا الرجل أحد أفراد العصابة؟
عندما انتهى من إسعافه، همس له: «جيرار بل»؟
فتح الرجل عينيه المتعبتين، ثم همس: «هل رأيته؟»
فكر «أحمد» بسرعة ثم قال: ألم يكن معك؟
قال الرجل: لا! لقد كان في المركز. ولا أدري ماذا حل به الآن؟
قال «أحمد»: وأين المركز؟ لعلنا نستطيع إنقاذه!
نظر الرجل له قليلًا، ثم أغمض عينيه، ولم ينطق.
فكر «أحمد»: هذه فرصتنا. إننا يمكن أن نُنهيَ المغامرة الآن، لو تحدث هذا الرجل. مال عليه ثم سأله: هل تتألم؟
ردَّ الرجل بعد لحظة: نعم. إنني أشعر بجحيم في جسدي.
قال «أحمد» بسرعة: وأين بقية الزملاء؟
ردَّ الرجل دون أن يفكر: إنهم هناك. في الطرف الآخر من المدينة!
«أحمد»: وأنت، كيف أصابك البركان؟
الرجل: كنت أقوم بنقل رسالة.
«أحمد»: ولماذا لم تستخدم التليفون؟
الرجل: إنها رسالة خاصة.
«أحمد»: وهل نقلتها؟
الرجل: لقد ثار البركان في نفس اللحظة التي خرجت فيها.
فهِم «أحمد» أن المركز تحت الأرض. فسأله: هل كان معك أحد؟
الرجل: نعم، كان معي زميلان. ولا أدري ماذا أصابهما الآن؟
«أحمد»: وأين «هاري»؟
مرة أخرى فتح الرجل عينيه، ونظر إلى «أحمد» طويلًا ثم قال: مَن أنت؟
«أحمد»: إنني رسول «جاك شراير».
الرجل: ومن هو «جاك شراير»؟
فهم «أحمد» بسرعة أن الرجل لا يعرف المسألة كلها، وأنه مجرد عضو عادي في العصابة.
قال بصوتٍ لا يكاد يسمع: إن هذه مسألة يعرفها الزعيم. ولا بد من الوصول إليه، لتنفيذ الاتفاق.
أغمض الرجل عينيه، ولم ينطق. نظر «أحمد» حوله، فلم يجد أثرًا للشياطين. فقد كانوا يعملون بنشاط في عملية الإنقاذ. فكَّر قليلًا: هل أعطيه حقنة منشطة، حتى أحصل على ما أريد من معلومات؟
لكنه في نفس الوقت قال لنفسه: ربما لو أفاق جيدًا، لصمَت نهائيًّا خوفًا من أن يقول أسرارًا لا يجب أن يعرفها أحد.
مرة أخرى مال على الرجل وقال: هل اختفى الزميلان؟
فتح الرجل عينيه، ثم همس: لا أدري. ربما عادا إلى المركز، وربما انتهيا إلى الأبد.
أحمد: إننا نقوم بعميلة الإنقاذ، والإسعاف. ما اسمهما حتى نستطيع العثور عليهما؟
صمت الرجل لحظةً ثم أغمضَ عينيه، وكان قد أُغمي عليه.
هزَّه «أحمد» ثم قال: هل تريد بعض الماء؟
رد الرجل بسرعة: أرجوك، إنني أشعر بجحيم في أعماقي.
أسرع «أحمد» وأحضر بعض الماء. كان يفكر بسرعة، فالمؤكد أن أحدًا لن يعرف مكان المركز تحت هذا الجحيم الذي حدث. لكن هذا الرجل هو الفرصة الأخيرة، بدأ يصب الماء في فم الرجل الذي شرب كميةً كبيرةً من الماء، ثم قال في النهاية: لا أدري كيف أشكرك.
ردَّ «أحمد»: إننا زميلان، فكيف تشكرني؟! اسمي «جاكو». وأنت؟
همس الرجل: «ويليامز».
كاد «أحمد» أن يبتسم لكنه أخفى ابتسامته، لقد حقق خُطوة لا بأس بها. كان الرجل قد أغمض عينيه، وظل «أحمد» يتأمله، وهو يدقق كثيرًا في ملامحه.
همس له: هل تحب أن تذهب إلى المركز؟
فتح الرجل عينيه بسرعة، ثم قال: كيف؟ إن الغابة قد احترقت. ولا أدري كيف يمكن الوصول إليها أو السير داخلها.
فهم «أحمد» بسرعة أن المركز موجود داخل الغابة التي تقع خارج المدينة. فجأة، كانت يد تلمس كتف «أحمد»، ونظر خلفه. كان أحد الأطباء، في ملابسه الطبية، قال: دعه لي. يبدو أنه يعاني.
كاد الرجل أن ينطق، فقد تغيَّرَت ملامحه. راقب «أحمد» الطبيب، دون أن يُعطيَ فرصة كي يكشفه. لقد فهِمَ من حركة وجه الطبيب أنه يأمر الرجل بالسكوت.
قال «أحمد» في صوتٍ هادئٍ: هل تحتاج مساعدتي يا سيدي الدكتور؟
ابتسم الطبيب، وهو يقول: لا. يمكن أن تساعد في مكان آخر.
انصرف «أحمد» في هدوء. كان يفكر: لا بدَّ أنه أحد أفراد العصابة. إن نظرته إلى الرجل تقول شيئًا.
وقف في مكانٍ خفي يراقب الطبيب، الذي أخرج من جيبه شيئًا، ثم أعطاه للرجل. اقترب بسرعة، لكنه تراجع مرة أخرى. كان وجه الطبيب يبدو عنيفًا. فكر بسرعة: هل يرسل فراشة إلكترونية تسمع ما يقال؟ لحظة، ثم وضع يده في جيبه وأخرج الفراشة، ثم أطلقها. أخذت الفراشة طريقها حسب التوجيه، حتى نزلت بجوار الرجل. وبدأ «أحمد» يتسمَّع.
كان الصوت الطبيب يقول: ينبغي أن تبتلعها يا «ويليامز»؛ إنك سوف تدخل في غيبوبة، حتى ننقُلك من المكان، فأنت تعرف أن الموقف خطير للغاية.
لحظة، ثم جاء صوت «ويليامز» وكأنه يبكي: هل هذا صحيح يا «كلارك»؟
كلارك: نعم، مجرد غيبوبة، سوف تفقد الوعي، وفي هذه الحالة، سوف يكون سهلًا أن ننقُلك إلى المركز.
وليامز: هل هذه أوامر الزعيم؟
كلارك: طبعًا، وهل أستطيع أن أفعل هذا وحدي؟!
مرت لحظة سكون. فهم «أحمد» أن «وليامز» قد ابتلع ما أعطاه له «كلارك»، وأنه سوف يفقد حياته. إنهم يتخلصون منه، خوفًا من أن يُعطيَ أيَّ معلومات.
قال «أحمد» لنفسه: إن هذه فرصة طيبة. فإذا كنت قد فقدت «وليامز»، فإن «كلارك» سوف يكون الدليل.
عاد إلى الاستماع مرة أخرى، وعيناه ترقبان الطبيب، الذي كان يبدو على وجهه جمود غير عادي. فجأة تحرَّك الطبيب، فعرَف «أحمد» أن «ويليامز» قد انتهى. استعاد الفراشة بسرعة وبدأت مراقبته ﻟ «كلارك». فكر: لا بد من استدعاء الشياطين لمراقبة «كلارك» أو حتى بعضهم؛ فهذه فرصة لن تتكرر.
أرسل رسالة شفرية للشياطين، يحدد فيها نقطة اللقاء، في الوقت الذي ظلت عيناه على «كلارك». كان رجل العصابة يتقدم وسط الأنقاض في خفة نادرة. ولم يكن ذلك يلفت نظر أحد، فقد ظنه الجميع أحد أطباء الإنقاذ. بعد لحظات، كان «باسم» و«فهد» يظهران أمام «أحمد»، الذي حكى لهما كل شيء بسرعة.
اتجه كل منهما إلى اتجاه حسب إرشادات «أحمد». كانوا الثلاثة يشكلون نصف دائرة، تتحرك حول «كلارك» الذي كان يتلفَّت حوله بين لحظة وأخرى. لكنه لم يكن يستطيع أن يراهم، فهم يتقدمون حسب خطة محددة.
اتجه «كلارك» نحو الغابة خارج مدينة «إيكيكي»، وكان يبدو واضحًا بين الأشجار التي غطاها السواد. لكنه فجأة انحرف إلى اليمين، بعيدًا عن الغابة، ومشى بمحاذاتها، وفي اتجاه المحيط.
فكر «أحمد»: هل يكون مركز العصابة في قاع المحيط؟ أو أنه فوق إحدى الجزر؟
فجأة توقف «كلارك»، وأخرج من مِعطَفه شيئًا رفَعه إلى فمه وبدأ يتحدث. أسرع «أحمد» فاستعمل جهاز الاستقبال الذي يحمله. أخذ يدير المؤشر بحثًا عن الموجة التي يتحدث عليها «كلارك». لحظة، ثم اتسعت عيناه دهشة. لقد التقط «الموجة» وبدأ يسمع.
سمع «أحمد»: البركان يتحدث، تم كل شيء، أين العصفوران؟
لحظة، ثم جاء صوت يرد: المركز يتحدث، تم كل شيء، طار العصفوران من «إيكيكي»، إنهما الآن في العش ١. انتهى.
فهم «أحمد» ما أشار إليه الحديث؛ إن العصفورين هما الخبيران، وقد انتقلا من «إيكيكي» إلى مكان آخر. إن الطريق الوحيد إليهما الآن هو «كلارك» نفسه. فكَّر «أحمد»: من الضروري رصد تحركات «كلارك» جيدًا، حتى لا يُفلِت. فجأة، ظهرت سيارة إسعاف. قال «أحمد» في نفسه؛ إن هذه سيارة ليست عادية. ووجودها هنا يعني شيئًا آخر. لا بدَّ أنها خُدعة. انتظر قليلًا، اقتربت سيارة الإسعاف من «كلارك»، حتى توقفت بجواره. أسرع «أحمد» فأطلق فراشة إلكترونية في اتجاه السيارة، وعندما تحركت بعد أن ركبها «كلارك» كان واضحًا أنها تتجه خارج مدينة «إيكيكي» في اتجاه الجنوب. ظلت السيارة في طريقها حتى اختفت. في نفس الوقت، كان «أحمد» قد ضغط زرًّا في جهاز الاستقبال، فتحرك المؤشر، الذي كان يستقبل إشارات الفراشة الإلكترونية.
أشار «أحمد» إلى «باسم» و«فهد»، فاقتربا منه، قال عندما وصلا إليه: لا بد أن نتحرك خلفه وبسرعة حتى لا يُفلِت منَّا. ثم نقل إليهما ما سمعه من حديث «كلارك» مع مركز العصابة.
وفي دقائق كانوا قد وصلوا إلى حيث عمليات الإنقاذ؛ حيث كان يعمل «خالد» و«مصباح». بحثوا عنهما حتى وجدوهما. وفي لمح البصر كان الشياطين يركبون إحدى سيارات الإنقاذ التي انطلقت في الاتجاه الذي حدَّده مؤشر الجهاز.
قال «أحمد»: لقد نقلت العصابة «جيرار بل» و«هاري لاكس» إلى مكان آخر، غير معلوم لدينا الآن. وأعتقد أن هذا المكان سيكون داخل المحيط الهادي. إنني أقترح أن تتحدث إلى عميل رقم «صفر» لإرسال لنش يكون بجوارنا.
رد «فهد»: إنني أضيف شيئًا، فمن الضروري أن تكون سيارتنا جاهزة أيضًا، فقد يكون مركز العصابة هنا على الأرض.
اتخذ الشياطين قرارهم بناءً على اقتراح «أحمد» و«فهد»، فأسرع «أحمد» يتحدث إلى عميل رقم «صفر». فجأة ظهرت سيارة «كلارك» أمامهم. كانت تبطئ سرعتها، حتى توقَّفت، فتوقف الشياطين.
مرت دقائق ثم سمع «أحمد» من خلال الجهاز: الصقر في الطريق. نقل الجملة التي سمعها إلى الشياطين.
فقال «مصباح»: أعتقد أن الصقر يعني طائرة.
قال «باسم»: كيف تنزل طائرة في هذا المكان؟
فجأة سمعوا صوت طائرة، فتعلَّقَت أبصارُهم بمصدرِ الصوت. ظهرت طائرة في اتجاه الأفق، كانت تطير فوق سطح الماء.
فقال «أحمد»: إنها طائرة مائية، وهي صغيرة كما نعرف، بجوار أنها تهبط فوق سطح الماء.
ظلت الطائرة تقترب، حتى نزلَت قريبًا من الشاطئ. وعندما توقفت تمامًا، فتح بابها، ثم ظهر منها أحد الرجال وبين يديه ما يشبه الحقيبة الصغيرة. لحظة، ثم تحولت الحقيبة إلى قارب صغير، فهم الشياطين أنه قارب نجاة يتم نفخه. ركب الرجل القارب، ثم أخذ يُجدِّف بيدَيه في اتجاه الشاطئ، في الوقت الذي نزل فيه «كلارك» من السيارة. أسرع «أحمد» يستعيد الفراشة الإلكترونية من السيارة ويوجهها إلى الطائرة. اقترب القارب من الشاطئ، حتى توقَّف عنده، فنزل فيه «كلارك»، وبدأ يعود مرة أخرى إلى الطائرة.
كان الشياطين يراقبون ما يحدث، في الوقت الذي قال فيه «أحمد»: لقد تحدد الآن كل شيء. إننا نقترب من لحظة المواجهة.
وصل القارب إلى الطائرة، فقفز «كلارك» إليها، ثم تبعه الآخر، الذي جذب القارب، وأعاده إلى شكل الحقيبة الصغيرة، وعندما أغلق باب الطائرة، اندفعت فوق سطح الماء في سرعة، ثم بدأت تأخذ طريقها في اتجاه الغرب. وعندما تحولت إلى نقطة عند الأفق، كان لنش الشياطين قد وصل عندهم. توقف اللنش على الشاطئ مباشرة، فغادروا السيارة إليه. كان لنشًا من النوع الموجه، الذي لا يحتاج إلى سائق. وعندما استقروا فيه، ضبط «أحمد» جهاز التوجيه في اللنش على جهاز استقبال إشارات الفراشة، فانطلق في الاتجاه المطلوب … إلى حيث يقع مركز العصابة.