عشاء من السمك … قبل المعركة
جلس الشياطين حول خريطة صغيرة ﻟ «شيلي»، بسطها «أحمد». مد يده ثم أشار إلى مياه المحيط قائلًا: هنا توجد عدة جزر في غرب «شيلي»، وهي تقع عند خط عرض ٢٥ وخط طول ٨٠، وهي جزر «سان امبروزيو» و«سان فيلكس». إنني أعتقد أن مركز العصابة سوف يكون في واحدة منها، وهذا سوف تبينه لنا إشارات الفراشة. هذه الجزر منعزلة وصغيرة بما يكفي لأن تكون مكانًا ملائمًا لأغراض العصابة.
صمت لحظة ثم أضاف: لقد فكَّرَت العصابة بطريقة جيدة، فعندما ثار البركان كان لا بد أن يتمَّ نقلُ الخبيرَين من «إيكيكي» إلى مكان آخر، وإلا فقدوا ١٥ مليون دولار، في نفس الوقت، فالعصابة تضمن ألا تقع في أي خُدعة يمكن أن تدبَّر لها، وهي تضع هذا في حسابها دائمًا. إن السيد «جاك شراير» لا يعرف ماذا تم الآن، ومع هذا فهو كان يتصور أنه يستطيع بفريقه أن يسترد الخبيرَين الآن. نحن لا يهمُّنا أن يصل فريق «شراير» إلى «إيكيكي»، كما أننا لا نخشى أن تقضيَ عليه العصابة؛ لأنه لن يجد شيئًا الآن على الأقل.
كان لنش الشياطين ينطلق بسرعة كبيرة تكاد تتعادل مع سرعة الطائرة المائية التي ركبها «كلارك». وعندما كانت شاشة الرادار في اللنش تسجل نقطًا حمراء متتالية كانت خمس ساعات قد انقضت.
فهمس «مصباح»: لقد نزلت الطائرة على الأرض.
اتجهت أعين الشياطين إلى شاشة الرادار، التي سجلت الآن نقطة ثابتة.
قال «أحمد»: هذا شيء رائع، واضح أن الطائرة نزلَت في «سان فيلكس».
سكت قليلًا، ثم قال: إنني أقترح أن ننتظر حتى يهبط الليل، ولا تكون تحركاتنا مكشوفة.
قال «باسم»: أقترح أن ندور حول الجزيرة، لنرى موقفنا جيدًا، ثم نضع خطتنا.
كان هذا اقتراحًا طيبًا، ولذلك ألغى «فهد» عمل جهاز التوجيه، وجلس إلى عجلة القيادة ليقوم بالمهمة، فقد ظهرت جزر «سان فيلكس» أمامهم. كان الوقت يقترب من الغروب، وكان هناك ضباب خفيف يُغلِّف كل شيء، فيبدو وكأنه لوحة قديمة مرسومة.
جلس الشياطين يراقبون الجزيرة بمنظار مكبر. كان بعض الرجال والنساء يعملون في جمع شباك الصيد. فعلَّق «فهد»: يبدو أن العمل هنا يقوم على صيد الأسماك وهذا شيء طيب، إن ذلك يعطينا فرصة أن نكون بين أهالي الجزيرة.
قال «خالد»: لاحظ أن أمامنا مجموعة جزر صغيرة متناثرة، ولا أظن أن العصابة سوف تعمل بين الناس، إلا إذا كان الناس يعملون معها، أو في خدمتها.
فجأة ظهرت الطائرة، كانت تقف على سطح جزيرة صغيرة، من بين مجموعة جزر «سان فيلكس».
قال «مصباح»: المؤكد أن المركز هنا، وأقترح أن نقترب الآن منها.
قال «أحمد»: سوف ننزل في جزيرة أخرى، فكما ترون، إن المسافات بين الجزر ليست بعيدة. سوف نكون بين الصيادين، ثم ننطلق ليلًا إلى جزيرة العصابة.
وافق الشياطين على فكرة «أحمد»، وبسرعة، كان «فهد» يتجه إلى جزيرة الصيادين، حتى توقف على شاطئها. كان هناك بعض الصيادين يقفون على الشاطئ وهم يتأملون لنش الشياطين.
خرج «أحمد» وألقى عليهم التحية، ثم قال مبتسمًا: هل نجد لديكم طعامًا؟
رد أحدهم بصوتٍ مُرحِّب: نعم، يمكنكم أن تكونوا ضيوفنا.
سأل أحدهم: ما هي أخبار المدينة هناك؟
ردَّ «أحمد»: يبدو أنها سيئة وإن كانت حمم البركان قد بدأت تخف.
في لحظة، كان الشياطين قد غادروا اللنش، فلقيهم الرجال بالترحاب، واصطحبوهم إلى أحد البيوت. كان بيتًا بسيطًا من البوص والخشب، أما على الأرض فكان هناك بعض الوسائد المتناثرة، فوق القش.
جلس الشياطين، فقال صاحب البيت: من أين أنتم؟
أجاب «أحمد» بسرعة: إننا من «سنتياجو»، كنا نشترك في عمليات الإنقاذ في «إيكيكي».
سأل الرجل: هل الإصابات عالية؟
رد «أحمد»: بعض الشيء، لكن حركة الإنقاذ كانت نشيطة بما يكفي، بجوار أن ثورة البركان هذه المرة لم تكن كبيرة.
قال الرجل: لقد وصلتنا حرارة البركان، وشاهدناه.
كان الرجل متقدمًا في السن، فأخذ يحكي لهم عن ثورات البراكين، وقال إنه أصلًا من «إيكيكي»، لكنه رحل منذ سنوات طويلة عنها، إلى هذه الجزيرة، حيث يعيش هو وأولاده الذين كبروا الآن، بجوار أن هناك عائلات أخرى نزحت هي الأخرى. كان حديث الرجل رقيقًا ومفيدًا في نفس الوقت، فقد استطاع الشياطين أن يُلموا بطبيعة المكان. بعد قليل دخل بعض الصبية، يحملون الطعام، المكون من الأسماك المشوية والخبز. في نفس اللحظة، انصرف الرجل ومن معه، وهو يقول: أرجو أن ينال إعجابكم.
لكنه عند الباب توقَّف وهو يسأل: هل تبيتون الليلة معنا؟
كانت هذه فرصة، فقد كان «أحمد» يفكر في هذه المسألة، فأجاب بسرعة: نتمنى أن نجد مكانًا لنا … ربما لعدة أيام.
قال الرجل: إن لدينا بيتًا، يستأجره بعض الذين يصلون هنا لقضاء الوقت.
رد «أحمد» بسرعة: لا بأس، فليكن لنا.
انصرف الرجل، فقال «فهد»: إن هذه رحلة طيبة.
ابتسم «مصباح» وهو يقول: مغامرة بالسمك المشوي.
ضحك الشياطين، ثم انهمكوا في أكل السمك، وعندما انتهَوا صفَّق «أحمد» بيديه، فظهر الرجل والصبية.
رفع الصبية الطعام، وقال الرجل: هل تصحبونني إلى بيتكم؟
كان البيت عبارة عن حجرة واسعة فقط، مفروشة بالقش والوسائد أيضًا.
أبدى الشياطين إعجابهم بالمكان فقال الرجل: إذا احتجتم شيئًا، فليصفق أحدكم.
أخرج «أحمد» مجموعة من الأوراق المالية، قدَّم نصفها للرجل، الذي نظر إليها بدهشة، وهو يقول: هذا مبلغ كبير.
رد «أحمد» مبتسمًا: أرجو أن تقبله، إننا سعداء أن نكون معكم هنا.
أخذ الرجل الأوراق المالية شاكرًا، ثم انصرف، إلا أن «أحمد» أسرع إليه ووقفا معًا خارج البيت الخشبي. كان المساء رقيقًا، ومن بعيد كانت تظهر في الأفق في اتجاه «إيكيكي» تلك الأضواء الحمراء، التي تشير إلى حمم البركان.
قال «أحمد»: هل هذه الجزر مهجورة؟
أجاب الرجل: لا يسكنها سوى الصيادين.
قال «أحمد»: لقد رأينا طائرة تقف فوق إحداها.
قال الرجل: نعم، لقد استأجرها السيد «بوتشيني» من أصحابها، فتركوها وتفرَّقوا بين الجزر. إنه يأتي إليها في بعض الأحيان، هو وبعض الرجال.
أحمد: منذ متى يأتي السيد «بوتشيني»؟
الرجل: منذ عدة سنوات.
أحمد: وهل يذهب إليها أحد من أهلها؟
الرجل: لا … لا ينزل فيها إلا السيد «بوتشيني» ورجاله.
ظل «أحمد» يتحدث إلى الرجل، حتى عرَف كلَّ ما يريده، وعندما انصرف كان الليل يلفُّ كلَّ شيء في البيت الخشبي، حيث كان الشياطين ينتظرون «أحمد». التفوا حوله، فشرح لهم كل ما دار بينه وبين الرجل، ثم قال في النهاية: الآن، علينا أن نتحرك.
في هدوء استعد الشياطين. إن خطتهم أن يصلوا إلى جزيرة السيد «بوتشيني» سباحةً، فالظلام كفيل بأن يكون ستارًا طيبًا لهم. وعندما يصلون إلى هناك، تكون حركتهم تبعًا للظروف.
عندما بدءوا التحرك، ابتسم «خالد» قائلًا: إن تدريبات المدرب خرجت عن طبيعتها، فلم يكن أحد يدري أننا سوف نكون في جزيرة «بوتشيني»، وكان المفروض أن نقف على قمة جبال «الأنديز»، لنقفز في المحيط الهادي.
ابتسم الشياطين لكلمات «خالد»، ثم تسربوا الواحد بعد الآخر خلف «أحمد» الذي كان يمشي في المقدمة. كان كل شيء هادئًا، وكانت مياه المحيط تضرب شاطئ الجزيرة الصغيرة في وداعة. نزل «أحمد» في الماء الذي لم يكن باردًا وخلفه نزل «خالد» ثم «قيس» و«فهد» و«مصباح».
كانوا يسبحون بلا صوت، ولم تكن الجزيرة التي يسكنها «بوتشيني» الآن بعيدة، كانت تحتاج إلى نصف ساعة من السباحة فقط، ليصلوا إلى هناك. شعر الشياطين بكثير من الانتعاش، لهذه السباحة الهادئة، لكن سعادتهم كانت تتحقق كلما اقتربوا من لحظة المواجهة. انقضى الوقت، وأصبحت الجزيرة في متناول أيديهم.
خرج «أحمد» من الماء، وتلفَّت حوله في حذر، لم يكن هناك أيُّ ضوء يصدر من أي مكان، لكن ضوء البركان البعيد كان يكشف ما يشبه الأشباح، مبنًى متوسط الحجم يبدو أسودَ كئيبًا، وصمت يزيد المكان بالغموض والوحشة.
تقدم الشياطين في حذر، لكن فجأة، ارتفع صوت لرجل غير مرئي، قال الصوت: من هناك؟
أشار «أحمد» إلى الشياطين فتوقفوا، تحدث إليهم بلغة الإشارة، وهو يرد على الصوت: «كلارك».
مرت لحظة، ثم قال الصوت: السيد «كلارك»!
عرف الشياطين مصدر الصوت، فنفذوا الخُطَّة تبعًا لإشارات «أحمد» الذي رد: نعم.
قال الصوت مرة أخرى: انتظر مكانك … إنني قادم.
تحفز «أحمد»، فكر بسرعة: هل يمكن أن يكتشفه الرجل، قبل أن يصلَ إليه؟ وهل يستطيع الشياطين أن ينهوا الموقف، قبل أن تحدث أي حركة؟
انتظر لحظة، في الوقت الذي كان الرجل قد ظهر وهو يقترب في حذر. فجأة سدد الرجل ضوءًا قويًّا في عيني «أحمد» حتى إنه فقد القدرة على الرؤية، في نفس الوقت الذي تبعه صوت انطلاق من مسدس، إلا أن «أحمد» كان قد استعد لهذه اللحظة، فقد أسرع بالانبطاح على الأرض، حتى إن الطلقة مرت بجواره مباشرة، وقبل أن يفكر في النهوض كانت طلقة أخرى قد انطلقت، فظل في مكانه، لكنه فجأة، شاهد أشباحًا تتحرك خارجةً من المبنى المظلم، فعرَف أنهم رجال العصابة. زحف بسرعة في اتجاه الشياطين الذين كانوا قد انقضُّوا على الرجل.
وفي دقائق، كانت المعركة قد بدأت.
قفز «أحمد» في اتجاه الرجال وهو يضرب أحدهم بقدمه، في الوقت الذي لكَم فيه آخر لكمة قوية، وعندما شمل المعركة بنظرة سريعة، عرف أن الشياطين قد سيطروا على الموقف. أسرع في اتجاه المبنى، ولم يكد يصل إلى هناك، حتى كان الشياطين خلفه مباشرة.
كانت بوابة حديدية مغلقة نصف إغلاق، فكر بسرعة: هل يقف خلفها حارس؟
التقط حجرًا صغيرًا من الأرض، ثم دحرجه إلى الداخل. فجأة دوَّت طلقة، فعرَف أن خلف البوابة حراسًا آخرين. نظر إلى المبنى بسرعة، كان يبدو كالحصون القديمة، ليس له سوى هذه البوابة، فقال في نفسه: لا توجد سوى قنابل الدخان.
وبسرعة دحرج قنبلة دخان إلى الداخل، ولم تمضِ لحظة، حتى كان الرجال يخرجون جريًا. كانت فرصة سانحة للشياطين، فقد تلقَّوا الواحد بعد الآخر بلا جهد. وعندما توقَّف مجيء الرجال، أسرع «أحمد» يخطو خطوة واحدة إلى الداخل، ثم أشار إلى الشياطين. كانت هناك ساحة واسعة، ثم باب في الصدر، ولا شيء آخر. قفز إلى حيث الباب الذي كان مغلقًا، وأخرج «فهد» جهاز الأشعة، وثبَّته على فُوَّهة مسدسه ثم ضغط الزناد فانطلقَت الأشعة، ولم تمضِ نصف دقيقة حتى كان الباب قد انفتح على مِصراعَيه. وما كاد الشياطين يتقدَّمون، حتى كانت الطلقات تنهمر كالمطر.