تطور الأحلام
قد يكون من القحة أن تخبر فتاة عن تأويل ما رأت فيما يرى النائم من أمير بهي الطلعة وسيم القدقد حياها وحاول أن يقبِّل يديها أو فمها، فإن في التأويل الصحيح اتهامًا لعقلها الباطن، الذي ينطلق وقت النوم، ويفرج لشهوات الجسم ما قيد منها العقل وقت الصحو.
والأحلام — سواءٌ أكانت من رؤى اليقظة أم من رؤى النوم — دليل على شهوات أو رغبات لا يحققها الوعي أو اليقظة التامة.
وقد يكون أسد للمؤرخ وأجدى عليه، إذا هو نصب نفسه لدرس تاريخ أمة ما، أن يعمد إلى خرافاتها التي تتكشف فيها أحلامها، فيدرسها ويعرف منها تلك الشهوات والنوازع التي كانت تعتلج بها نفوس أبنائها، فسرد تاريخ الفراعنة مثلًا بما فيه من حروب وأسرى وانتصارات ونحو ذلك، قد يكون أقل جدوى في معرفة تاريخ الأمة من تحليل قصة خرافية واحدة كانت تتحدث بها العامة في سمرهم؛ لأن في هذه الأحدوثة تتجسم رغبات هؤلاء العامة، وهي تمثل ما كانت تشتهيه نفوسهم، وهي أصدق في وصف أحوالهم من الأكاذيب التي كان الفراعنة يكتبونها أحيانًا عن أنفسهم قبل وفاتهم.
وقد كانت أول «طوبى» فكر فيها الإنسان من الطوبيات الخرافية التي دخلت في صلب الدين، فإن المصري القديم مثلًا، عندما وجد أن إصلاح الحال في الدنيا من المحال، وأن قوى الاستبداد متألبة عليه، وأنه يُسخَّر طول النهار فيكدح في وهج الشمس، أخذ يحلم بنعيم يراه بعد الموت، فهو يكدح هنا ويتهضمه الولاة الظلمة ويصدمون فيه شهوات نفسه، وعلى ذلك فهو يرى في نعيم الآخرة ميزانًا منصوبًا لمعاقبة هؤلاء الظلمة، ويرى الهناء والراحة في ظلال الأشجار التي تتغلغل بينها جداول الماء، وهو في هذا الخيال الحلو لم يختلف عن الجائع أو العطشان الذي لا يرى في نومه سوى الموائد مبسوطة، والشراب مصفًّى، إلا من حيث إن حلمه قد صار حلم الأمة بأسرها، وخرجت رواية الفرد إلى رواية المجموع.
ثم جاء الفيلسوف فرسم طوباه لهذا العالم، لا يعبأ بما بعد الموت ولا يبالي بمصير الرمم، ولكن الفيلسوف من ذوي الأحلام الأرضية، لفرط اعتماده على الحقائق الملموسة، عني بالمادة أكثر مما عني بالمبدأ، وبالوسيلة أكثر من الغاية؛ ولذلك كثيرًا ما تتصفح الحلم فتتساءل عندما تبلغ خاتمته: هل هذه هي السعادة والرقي، أو هل هذه ما نتعوض منهما … وهل نحن بإزاء الأصل أم بإزاء البدل؟
ثم قد نتساءل أيضًا: لماذا لم يتحقق حلم من هذه الأحلام مع مضي مئات السنين على بعضها؟
وهنا نرى ميزة الأديان على أحلام الفلاسفة ومن دونهم من المفكرين، فإن الدين قبل أن يعد بطوبى العالم الآخر كان يطلب من الفرد أن يغير بالإيمان قلبه، وأن تتبدل نفسه نفسًا أخرى هي نفس المؤمن المرتاح إلى إيمانه الراضي به، بدلًا من نفسه السابقة، نفس الكافر الذي توسوس إليها الشكوك، وكان هذا الإيمان وحده كافيًا لأن ييسر على المؤمن كل تغيير يراه في طرق المعاش والاجتماع والزواج ونظام الحكومة وغير ذلك، ونقول بعبارة أخرى: إن الدين كان يحاول تغيير المجتمع بعد أن يبلغ قلب الفرد فيغيره، بل يخلقه من جديد. وكان لذلك ينجح في تحقيق غرضه؛ لأن أداة تحقيق هذا الغرض هو الفرد، فإذا لم يكن هو قد تغير، فكيف نطلب منه أن يغير طرق مجتمعه؟
وهذا هو الفرق بين الأديان وبين أحلام الفلاسفة؛ فالأديان جعلت تبديل الوسط رهنًا بتبديل الفرد، فاستطاعت أن توجد هيئته الاجتماعية مسلمة أو مسيحية أو يهودية، ولكن طوبيات الفلاسفة — وخاصة في القرن التاسع عشر — لم تبالِ بالفرد أقل مبالاة، وإنما عنيت بالوسط.
ففي القرن التاسع عشر نجد صيحات إصلاحية عديدة أعلاها نبرة هي صيحة الإصلاح الاقتصادي، ولكن منها أيضًا ما كان يدعو إلى إصلاح الحكومة أو التربية أو نحو ذلك من ملابسات الوسط الذي يعيش فيه الإنسان، وكلها خالية من شرطين أساسيين لنجاح أية دعاية:
- الشرط الأول: أن الغاية لم تكن واضحة، هل هي الصحة أو الجمال أو حسن الإدارة أو كثرة المال، وهب أن هذه الأشياء كانت — هي أو بعضها — غاية ذوي الأحلام من الفلاسفة، فهل كانت تؤدي إلى السعادة والرقي؟
- الشرط الثاني: أنها كانت خلوًا من إيجاد أية وسيلة لتغيير الفرد، فإن الأديان غيرت قلوب الناس، وتمكنت بذلك من إنفاذ ما حسبته إصلاحًا، ولكن الطوبويين لم يغيروا شيئًا من قلوب الناس تمهيدًا لقبولهم برامجهم.
وجمهور الناس في كل أمة ليسوا عامة فقط، بل أوباش، يميلون إلى القرد أكثر مما يميلون إلى السبرمان؛ ومن هنا تلك السهولة التي يملك بها زمامهم خطيب مفوه أو طاغية ماكر أو ولي أبله؛ لأن هؤلاء يخاطبون عواطفهم التي تستجيب إلى خطابهم، أما الفيلسوف الذي يخاطب فيهم عقولهم فلا يجد فيهم ملبيًا، والعواطف أقدح وأرسخ في طبيعتها من العقل، وهي إذا طمت بنا طغت على العقل.
وعلى ذلك نقول: إن الطوبيات الأرضية لن يفلح أصحابها في تحقيقها ما لم يغيروا نفوس الأفراد، وليس هذا بالشيء العظيم كما يتصور القارئ؛ فقد استطاع الدين أن يغير قلوبهم، فلمَ لا تغير اليوجنية عقولهم بمنع البله والضعفاء من التناسل، حتى يرتقي الإنسان جيلًا بعد جيل، فيتمشى رقي الوسط مع رقي الإنسان نفسه؟
- (١)
طوبى العامة التي نراها في أحاديثهم القديمة والحديثة، وهي سلواهم تكمل لهم ما نقصهم من حقائق الحياة.
- (٢)
طوبى الأديان، وهي في الحقيقة طوبيان: واحدة في العالم الآخر، وهي ترمي إلى تغيير نفس المؤمن بوعده بالمكافأة، فإذا تغيرت النفوس وقبلت الإيمان لم تعارض في الطوبى الأرضية التي يرسمها الدين لنظام الحياة على الأرض.
- (٣)
طوبى الفلاسفة: وهي لا يمكن تحقيقها ما لم يكن غرضها واحدًا، وهو السعادة والرقي، أو الحياة الطيبة التي تعمل لراحة الفرد وهنائه وارتقاء الأجيال، وما لم تحارَب البلاهة في الأمم بمنع البله والمضعوفين من التناسل.