نقد ومراجعة
كانت معارف الإنسان إلى ظهور «أرسطوطاليس» واحدة، كلها أدب، فلم يكن فاصل بين الأدب والعلم؛ لأن الأديب وهو رجل الخيال كان أيضًا عالمًا، وكان العالم وهو رجل الحقيقة أديبًا خياليًّا، فلما جاء أرسطوطاليس وشرع في تأليف «التاريخ الطبيعي» نزع فيه نزعة علمية قائمة على الشرط والتجربة؛ فميز بذلك بين العلم والأدب، وظهرت بعده مدرسة الإسكندرية، وكانت قيمة العلم فيها والعناية به أكبر من قيمة الأدب، وجاء العرب ولم يكن أدبهم مما يغري النفس بالخيال؛ إذ كان عماده الألفاظ وما يلحق النفس من الطرب لرنينها؛ فاندفعت منهم جماعة كبيرة نحو العلم التجريبي.
فلما كانت النهضة الأوروبية الحديثة عاد الأوروبيون إلى الإغريق القدماء، عن سبيل العرب، فنزعوا نزعة علمية عن العرب ونزعة أخرى أدبية عن الإغريق، وبيان الفرق بين العلم والأدب يحتاج إلى بعض التفصيل؛ فالعلم موضوعي والأدب ذاتي، والعلم يبحث قطعة من المعدن، أو مرضًا من الأمراض، أو نجمًا أو نباتًا، وهو بعيد عنه لا ينظر لعلاقته به ولا يبالي بمنفعة هذا البحث أو ضرره للإنسان، فقد يهتدي العالم في بحثه إلى سم من أوحى السموم، فلا يدخل في بحثه أن هذا السم يمكن أن يستعمل في الحرب لقتل العدو، ويمكن أن يُكتشف عن سبيله سم آخر لقتل النوع البشري كله، وقد يهتدي إلى اختراع آله فلا يبالي بعدد العمال الذين يُستغنى عنهم باستعمال هذه الآلة؛ لأنه لا يعنى بعلاقة العالم الذي يبحث فيه الإنسان، وإنما كل عنايته بالعلم نفسه، يبحث فيه وهو غريب عنه بعيد عن منفعته أو ضرره، فإذا رأيت عالمًا يبحث في توفير الوقود، أو زيادة كفاية الآلة في العمل، ألفيته مشغولًا بهذه الأشياء دون أي اعتبار لتأثيرها في العامل الواقف أمام هذه الآلة، وما ينشأ بينه وبين صاحب الآلة من العلاقة الجديدة لهذا الفرق الجديد في الوقود أو العمل.
وهذا بخلاف الأديب، فإنه يبالي بالإنسان لا بالأشياء، فهو لا يمارس الأدب لذاته، كما يمارس العالم العلم لذاته، وإنما هو يزاول أدبه لعلاقته بالإنسان؛ وهو بذلك خيالي يبحث في الدين والأخلاق والشرائع، فالأدب بطبيعته إصلاحي موضوعه الإنسان، والعلم لا يمكن أن يكون إصلاحيًّا أو إفساديًّا؛ لأن موضوعه الأشياء فقط، والأديب يعكس جميع المعارف في ذهنه لكي يعرف منها أيها مفيد للإنسان فيزاوله، وأما ما لم يكن كذلك فلا يفكر فيه ولا يكترث له، حتى العالم وهو يبحث في شيء إنساني، ينظر إليه كأنه «شيء» مستقل عن الإنسان، فالألماس زينة المرأة «كربون»، والحمى ناشئة عن «مكروب».
وفي كلمة «سقراط» ما يدل على روح الأديب، فقد قال: «أنت تعرف أن الأشجار في الحقول لا تعلمني شيئًا، وإنما أنا أتعلم وأنتفع من الناس في السوق.»
ولكن جاء «أرسطوطاليس» فقسم المعارف قسمين:
المعارف الخارجية التي لا يمكن لجميع الناس أن يتناولوها، وهذه هي الأدب بفروعه، وأساسه التجارب الإنسانية، ثم المعارف الداخلية وموضوعها الأشياء ودرسها وهي العلم، والأولى هي معارف العامة، أما الثانية فهي معارف الخاصة.
ونحن للآن نجري على هذا التقسيم، فلأي فرد من العامة أن يتكلم أو يكتب ما شاء عن الدين أو الأخلاق أو الشعر أو القصص أو العمران أو الاقتصاد، ولكن ليس له أن يكتب عن الكيمياء أو الطب أو الهندسة.
وقد قلنا: إن النهضة الأوروبية الحديثة نزعت نزعة علمية، وهي لا تزال كذلك للآن، وليس شك في أن كبار العلماء في كل وقت كانوا من كبار الأدباء؛ لأن الذهن الكبير يأبى أن يرضى بأن يكون مخزنًا تذخر فيه المعارف بلا غاية أو قصد، وإذا قلت: «الغاية في العلم»، فقد قلبت العلم إلى أدب؛ لأنك عندئذٍ لا تكتفي بأن تقول: إن الألماس كربون، بل تُضطَر أن تتساءل: هل هو جميل؟ وهل هو جدير بنفقة استنباطه؟ وهل من المصلحة العمرانية أن تلبسه طبقة دون طبقة من الناس؟ ثم أيهما أجمل وأنفع لبني الإنسان: أن يتجه نظرهم نحو جمال الوجه أو جمال الصنعة، أي: أن تكون الأصابع جميلة في ذاتها أو مجملة بالألماس؟
لذلك كان ولا يزال كبار الأدباء علماء، وكبار العلماء أدباء، وحسبنا أن نذكر «أرسطوطاليس» الذي كان يؤلف عن أصول البلاغة والتاريخ الطبيعي، أو «دافنشي» الذي كان يمارس ويخترع الطيارات، أو «جيته» الذي كان يشتغل بالتشريح وبتأليف القصص والشعر، ولكن جمهور العلماء الآن طائفة خاصة بعيدة عن طائفة الأدباء، وهذا البُعد بينهما وانفصال الواحدة عن الأخرى، قد أثر أثره في الهيئة الاجتماعية التي نعيش فيها.
وذلك لأن الأدب بجميع فروعه لا يحيا ويزكو إلا إذا قام على أساس العلم، والعلم نفسه معارف جوفاء لا غاية لها إلا إذا هضمها الأديب ومثلها في ذهنه؛ ومن هنا انفصل الأدب والعلم كلاهما عن الحياة، فالأديب الآن — سواء أكان رجل دين أو تصوير أو قصص أو شعر أو غير ذلك من فنون الأدب — يبحث مثلًا عن السعادة المنزلية، وهو لا يدري شيئًا عن مادة البناء أو أنواع النبات الذي يستطرف للزينة أو هندسة التهوية الصحية أو تطهير المدن أو غير ذلك مما يعرفه العالم ويختص به، ولكن العالم أيضًا، وهو يعرف هذه الأشياء، يجهل عنصر الجمال في المنزل؛ فيبنيه كأنه يبني سجنًا أو مصنعًا.
وخلاصة ما تقدم كله أن أحلام الفلاسفة يعتورها في جملتها نقص عظيم، وهي أنها نتاج أفكار الأدباء أو أفكار العلماء، وقلما نجد أديبًا عالمًا، مثل أفلاطون أو ولز أو هدسون، يحاول أن يجمع بين الأدب والعلم في تخيل طوباه، والحقيقة أن الإنسان في زماننا الحاضر يشق عليه أن يجمع بين الاثنين إلا إذا قنع من العلم بالتطرف من فروعه المختلفة دون الإمعان فيها؛ وعلة ذلك أن العلم قد تقدم وصارت الإحاطة بأحد فروعه تستغرق الحياة بأجمعها، فإما أن يطول العمر حتى يبلغ مائتي عام أو ثلاثمائة وإما نقنع بقليل الدرس منه.
ولكن يجب أن نعرف أن تقدُّم العلوم — بحيث لا تتمشى مع الآداب — يؤذي الناس ولا يفيدهم، فإذا عرف الناس مثلًا علم الكيمياء، وما هي الغازات القاتلة التي تفنى منها الجيوش أو المدن في ساعة، دون أن يكون لهم مع ذلك خيال راق أو عقيدة سامية، في مستقبل الإنسان أو معنى مهذب للجمال كان عملهم بالكيمياء ضربًا من أذى النفس الذي يجب أن يحتاط الناس منه.
وحضارتنا الراهنة هي حضارة العلم المنفصل عن الأدب، أي: حضارة الصناعة القائمة على إدمان الاختراع الآلي إلى أقصى حد.
ولكن الصناعات مهما أوتيت من رقي إنْ هي إلا وسيلة وسبب من وسائل الحياة وأسبابها؛ ولذلك ما زلنا نحن على رقينا الصناعي الحاضر نتساءل: أينا أصح نظرًا للحياة والسعادة وتقدير الجمال والرقي، نحن أم المصريون القدماء أم الإغريق القدماء؟
فإذا أردنا أن نشرع في تخيل أخيلة صحيحة يمكن تحقيقها، يجب قبل كل شيء أن نصل ما افترق من العلم والأدب، ولا عبرة بتأخير الأدب في هذه الحالة، فإن تقدمه وحده لا فائدة فيه، إنما يجب أن نذكر أن العلم إنما ارتقى وحده لانفصاله عن الحياة، أو بعبارة أصح نقول: إنه ارتقى لأنه حين تجرد من العامل الشخصي وصار موضوعه الأشياء دون الناس، انطلق من جميع القيود التي يضعها ذوو السلطان الحكومي أو المالي أو الديني على فنون الأدب، كما هو الواقع الآن في معاملتهم للبحث الديني أو العمراني، فلن يرقى الأدب حتى ينطلق هو أيضًا من هذه القيود، بحيث يجوز عمل التجربة العمرانية كما تعمل التجربة الكيميائية، ويجوز ابتكار العقيدة الدينية كما يجوز اختراع أية آلة للصناعة، فإذا تخيل الأديب خياله ورسم طوباه، لم يكن ذلك لمجرد اللذة أو التسلية، وإنما هو يبنى على قواعد العلم، بحيث يصير خياله عمليًّا تتيسر تجربته في مدينة أو قرية أو قطر.
ومعظم ما وضع من الطوبيات في القرن التاسع عشر عني فيه أكثر مما يجب بالنظام الاقتصادي للأمة، وكان هذا طبيعيًّا للانقلاب الاقتصادي الكبير الذي حدث في القرن الماضي بانتشار الآلات، ولكن النظام الاقتصادي ليس كل شيء.
وهو أيضًا لا يمكن حله ما لم تحل إلى جانبه مسائل أخرى؛ لأن الاعتماد على حل مسائل الحياة بتنظيم عمل الآلات هو حل علمي موضوعي ناقص؛ لأن الحياة تحتاج أيضًا إلى حل أدبي فيه الاعتبار الديني والثقافي والأخلاقي، ولن يكون ذلك حتى يكون الأديب عالمًا أو العالم أديبًا.
وبعبارة أخرى نقول: إن الأمة التي ترقى فيها مركبة كالأتومبيل مرة كل عام باختراع أداة جديدة لا تعتبر أنها سائرة نحو الحضارة الصحيحة ما لم يرتق دينها وينقح على الأقل مرة في العام أيضًا.
والحضارة التي تعنى بمكتشفات العلم لن تكون حضارة صحيحة ما لم تُعنَ بمكتشفات الأدب، والأمة التي تجرب طريقة جديدة لمزج الأصباغ لن تكون حياتها صحيحة ما لم تجرب إلى ذلك طريقة جديدة للمعيشة بين الأفراد، بحيث يساوي رقيها العمراني رقيها الصناعي.