خيمي
«الزمان نوع من المكان، فبدلًا من أن أقول: منذ ألف سنة حدثت تلك الحادثة، يمكنني أن أقول: إن تلك الحادثة حدثت في المكان الفلاني في الفضاء، في دورة الأرض الفلانية عند حركة الشمس الفلانية … لو كان تحقيق حركتي الأرض والشمس يمكن تعيينهما في مكان في الفضاء، فأفهم عندئذٍ من هذا القول ما أفهمه من قولي: منذ ألف سنة حدثت تلك الحادثة، بل يكون فهمي هنا أدق وإدراكي للحادثة أوضح.»
كنت أتلفظ بهذه الألفاظ بصوت أسمعه، كما هي عادتي عندما أريد أن أوضح لنفسي شيئًا غامضًا؛ لأن اللفظة عندي هي أساس المعنى، وليس المعنى أساس اللفظ.
وأنا في هذا، أحاول أن أميز بين الزمان والمكان، وإذا بالنعاس يغلبني ويكاد يتطور إلى نوم، ثم إذا بوعي العقل الظاهر ينقلب إلى أحلام العقل الباطن، ثم فترة من التردد بين الصحو والغفو ثم النوم، ولكنه لم يكن نومًا إلا في ظاهر الجسم، أما في باطن الأعصاب والدماغ فقد كانت الأفكار تتأرجح، والخواطر تترادف وتتجمع، ثم تتشتت وتتبدد، وبعد برهة فقدت الشعور بزمانها (أو بمكانها) أحسست كأني أنحدر وئيدًا إلى حيث ينقشع الظلام وينبلج الضوء ثم استنشقت أنفاس الصباح، بل كرعت منها وعببت فيها، كأني لم أذق طعم الهواء النقي منذ سنين، وهببت من فراشي وأنا أقول: «تأخرت! تأخرت» ولكني قعدت ثانيًا في الفراش عندما نظرت إلى ما حولي، فإن الغرفة لم تكن غرفتي، ولا الفراش فراشي، ونظرت إلى الحائط فوجدت معلقًا عليه نتيجة وبها هذه الأرقام ٧ فبراير ٣١٠٥.
وتأملت ما حولي فوجدت المرتبة والوسادة واللحاف كلها مصنوعة من الكاوتشوك المنفوخ، والغرفة نظيفة ناصعة، فقلت في نفسي: «لا بد أني كنت مريضًا وجاءوا بي إلى هذا المستشفى اليهودي؛ إذ لا شك في أن هذه السنة يهودية تبتدئ من موسى، وموسى جاء قبل المسيح بنحو ١٣٠٠ سنة، هؤلاء اليهود لا ينسون تاريخهم، ولكني لا أعرف لماذا أحضروني هنا، فإني لا أتذكر أني مرضت.
ثم نظرت إلى جسمي لأرى به علامة جرح أو كسر فلم أجده، فكددت ذاكرتي أبحث عن حادثة في الماضي فلم أهتدِ، فقمت من الفراش وسرت نحو النافذة، ولكني لم أخطُ خطوتين حتى صكت أذني صرخة، فالتفت إلى الوراء فرأيت فتاة تعدو وهي تقول: «النائم صحا! النائم صحا!»
ولم تمضِ دقائق حتى سمعت المستشفى كله يردد هذه العبارة: «النائم صحا!» وبعد نحو ربع ساعة سمعت الشارع كله يتجاوبها. فتحاملت إلى النافذة وأنا أكاد أقع من الضعف، وأطللت فرأيت جموعًا من الناس في هيئة غريبة يتصايحون: «النائم صحا! ها هو ذا ينظر! إنه شاحب! قد لا يعيش؛ يجب أن يرد إلى الفراش، أين الممرضات والأطباء؟» وكان الآباء يحملون الأطفال على أكتافهم لكي يروني من الزحام، وحلقت في الجو قريبًا من النافذة نحو خمسين طيارة صغيرة، ووقفت ينظر إليَّ ركابها.
وبينما أنا مشغول بهذا المنظر، وإذا بيد توضع على كتفي، فالتفت ووجدت رجلًا نحيفًا، طويل الوجه ضخم الرأس، عليه ملامح البنات، يقول لي بصوت عذب: «هل لك أن تعود إلى الفراش؟! أنت ما زلت ضعيفًا.»
وكان في ألفاظه حلاوة وإغراء، فعدت إلى الفراش، واضطجعت، فقعد على كرسي بجانب سريري، وأخذ يجس نبضي ويفحص لساني ويتحسس أجزاء في جسمي، ثم قال: «يبدو لي أنك قد عوفيت، ولكن يحسن عقد مجلس من الأطباء للإقرار على شأنك.»
فقلت: «ماذا كانت علتي، ومتى يسمح لي بالعودة إلى البيت؟» فضحك ضحكة طويلة دون القهقهة، وقال: «يظهر أنك تجهل كل شيء. لقد مضي عليك هنا ١١٨٠ سنة، إن حادثتك غريبة؛ فقد أصبت سنة ١٩٢٥ بفالج في الدماغ، فذهب عنك وعيك، وبقيت سائر أعضاء جسمك تعمل كما لو كنت صاحيًا، كنا نغذيك وأنت نائم حتى ذهب عنك الفالج فصحوت الآن، لقد نمت ١١٨٠ سنة.»
ولكن هذا الكلام لم يجز إلى عقلي، ورأيت من العبث أن أجادل هذا الرجل، فتجاهلت كل ما قاله وقلت بثبات وعزم: «أريد أن أرى عائلتي.»
فعاد إلى ضحكته التي تراءت لي هذه المرة أنها سخيفة جدًّا، وتبدت على وجهه عندئذٍ ملامح الوغد الذي يتعلل لحبسي وإيهامي أوهامًا كاذبة، فقلت وصوتي يتهدج بما يهيج في نفسي من الغيظ: «إذا لم أذهب إلى عائلتي فأنا أقفز من هذه النافذة وأنتحر، وأنت المسئول!»
فعلت وجهه حمرة الاضطراب، وقام يتلطف ويسري عني ويقول: «ستخرج قريبًا بعد استفتاء المجلس، لا تخشَ شيئًا، كلنا يحب لك الخير والراحة، لا تخشَ شيئًا، انظر قد حضر بعض الأعضاء.»
فنظرت إلى الباب فإذا بخمسة أو ستة أشخاص يسيرون نحو غرفتي، وتأملتهم عندما دخلوا فوجدت فيهم اثنتين من النساء، وأخذوا جميعهم يفحصونني، وأقروا على أن صحتي جيدة، وأذنوا لي في الخروج بعد تناول الطعام.
فقدم لي طبق من فواكه مختلفة لا أعرف أسماءها، ولم يقدم لي شيء مطبوخ، فقلت: «هذا لا يقيتني، أرجوكم أن تحضروا لي لحمًا وخبزًا؛ فإني أشعر بالجوع الشديد.»
فلاطفني أحدهم وأخبرني بأن في هذه الفواكه ما يزيد على حاجة جسمي من الغذاء، وفيها طعوم مختلفة حلوة وملحة، ثم رتبها لي فأكلت أولى الأثمار فكانت تشبه في طعمها اللحم، ثم أكلت شيئًا من الجوز، وكان يسيل دهنًا، ثم تناولت ثمرة جميلة اللون ذكية الرائحة قريبة في الطعم من الكمثرى، وأحسست بالشبع والري من هذا الطعام اللذيذ.
ثم انفض المجلس وبقي الشخص الأول، فقال لي: «والآن هل تريد أن تخرج إلى المدينة؟»
فقلت: «أجل، هذا ما أريد.» فناولني سراويل ومعطفًا لبستها وخرجت معه.
وما أشد ما كانت دهشتي عندما رأيتني في مدينة غريبة يتزاحم أهلها لرؤيتي، وكانوا كلهم يشبهون رفيقي، طوال الأجسام ضخام الرءوس نحيفي الأبدان، لا يختلف الرجل عن المرأة إلا في أن له شاربين دقيقين، أما اللحية فكنت أرى شعرات في مكانها أو لا أرى شيئًا، وكانت أفواههم صغيرة، وبعد أن اختلطت بهم عرفت أن ليس لهم أسنان في الفك الأسفل، أما أسنان الفك الأعلى فلم يبقَ منها إلا أعجازها، وأخبرني هذا الشخص الذي كُلف بمرافقتي عن أشياء كثيرة خاصة بي وبالمدينة التي نسير فيها، فحكى لي أني عشت عيشة نباتية، وأنا مسطح على فراشي دون أن أعي، وكيف أن هذه المعيشة كانت سببًا في أن أعمر هذا العمر الطويل؛ لأني صرت بمثابة الشجرة لا أجهد إلا أقل الجهد، وكيف ربت أموالي حتى صرت الآن من أغنى الناس. ففي سنة ١٩٢٥ كنت أملك ٥٠ فدانًا، ولم يكن ينفق عليَّ بعد الفالج إلا ريع عشرة فدادين، وما تبقى من الريع يتوافر باسمي، حتى إن أولادي لم يرثوا شيئًا مني لا هم ولا أحفادهم، وعلى الرغم من مقاضاتهم لي لم تستطع محكمة أن تقر على موتي؛ فتراكمت أموالي بهذه الطريقة، ثم قص عليَّ تاريخ مصر في الألف السنة الماضية، وكيف حدثت فيها ثورات اشتراكية، وكيف أخفقت التجارب الأولى للحكومة ثم انتهت بالنظام الحاضر، وأخذني في اليوم الأول لخروجي من المستشفى وأراني بعض مناظر مصر أيام كنت أعيش فيها قبل أن أمرض، فعرض عليَّ جملة أشرطة سينما فوتوغرافية، ورأيت بلادي كما كنت أعرفها، ثم عرض عليَّ أشرطة أخرى من المائة السنة التالية، ثم الثالثة، وهلمَّ جرَّا، إلى أن أبلغني مناظر «خيمي» أي: مصر في عصره.
وكان قد استقر في ذهني الآن أن ما رواه لي عن مرضي صحيح، وقد كنت في حياتي السابقة أعرف شيئًا عن نظرية التطور، بل أدعو إلى الإيمان بها، فلم يكن من الصعب إذن أن أستضيء بضوئها في الظروف الحاضرة، ولكن علمي بهذه النظرية أسقط كرامتي بعض الشيء، فإني كنت أنظر إلى نفسي كأني متأخر عن هؤلاء الناس نحو ١٢٠٠ سنة، وكأني بينهم بمثابة إنسان متحجر حي، والحق أنهم كانوا ينظرون إليَّ — على الرغم من تأدبهم — هذه النظرة المهينة؛ فقد كنت أرى عيونهم تثبت في وجهي، وتتفحص هيئة دماغي، وكان صبيانهم يتجرءون أحيانًا على لمس لحيتي، ويتعجبون من خشونتها كما كانوا يصرحون أحيانًا أخرى بتعجبهم من صغر رأسي.
وعدت عند الأصيل إلى غرفتي فوجدت ممرضتي التي قدت لي طعامًا من الفاكهة أيضًا، وأخذت في الحديث معها، وكان قد غادرَنا رفيقي، وشعرت ونحن في وحدتنا بالغرفة بشعور عائلي بيني وبين هذه الفتاة، وقد عرفت منها أنها عنيت بتمريضي نحو ثلاثين سنة، وكان هذا وحده كافيًا لأن أدل عليها بحق الصحبة القديمة والعِشرة الطويلة. ثم قصت عليَّ حالي أيام مرضي، ولم تكن القصة طويلة؛ إذ كانت تتلخص في أني كنت في سبات حال بعض الحيوانات وقت تَشَتِّيهَا، حين تتحجر وتنام ثلاثة أو أربعة شهور لا تأكل فيها، ويقتصر نشاط جسمها على التنفس مع دورة دموية بطيئة جدًّا، ولما رأى الأطباء أني سأموت لا محالة إذا لم أتغذَّ صاروا يحقنون عروقي بمواد مغذية نحو مرة كل شهر تقريبًا، فكانت الحقنة تمسك رمقي، واتبع الأطباء هذه الطريقة معي وجعلوني أعجوبة الدهر، حتى قيل لي: إنه قد أُلفت كتب في حالتي هذه وتعليلها بجملة علل، وآخر ما ظنه بعضهم أني أختلف عن سائر الناس في تركيب بعض الغدد الصماء، وقد ارتأى بعضهم تشريحي بعد موتي، ولكني أخلفت ظنهم إذ صحوت.
وكانت الفتاة تخاطبي بصوت جميل فيه بحة مستملحة، وكانت طويلة، ضخمة الرأس، لا يكاد يكون لها صدر يشبه صدور النساء البارزة، وكانت تلبس لبس بني عصرها، فالساقان والذراعان والرأس عارية، والحذاء بلا جورب، وليس على جسمها من الملابس سوى قطعة من نسيج واسع متخلخل أشبه شيء بالكاوتش يغطي ما بين العنق والساقين، وكان الرجال والنساء سواءً في ذلك، أما شعر الرأس فكان يرخى حتى يغطي الوجه والقفا.
وألفت هذه الفتاة التي عرفت أن اسمها «راديوم»، وشعرت منها كأنها قد ألفتني، وكان في نظرتها لي شيء يحببها إليَّ؛ إذ لم أكن أرى في عينيها ذلك الاحتقار الذي كنت أراه في سائر أهل «خيمي» عندما كانوا يتفرسون في هيئة رأسي وكونها دون رءوسهم في الحجم. وكانت تشرح لي كل شيء خاص بأحوالهم ومعاشهم ونظامهم، وكنت كل يوم يزيد ارتباطي بها وتعويلي عليها، حتى كنت أقف في جانبها كالطفل في جانب أمه.
وشرحت لي غذاءهم فوجدت أنهم لا يعرفون الطبخ ولا يذبحون الحيوان؛ لأنهم قد استنبتوا من الأثمار فواكه مختلفة، منها ما ينفع غذاءً، ومنها ما يستعمل دواءً، وبعض غذائهم كالنشا والسكر كانوا يستخرجونه من الجماد، أي: بالتركيب الكيماوي، وكانت الزراعة في أيدي ناس خبراء، لكلٍّ منهم معمل يستولد فيه البذور الجديدة ويقايس فيه الأغذية المختلفة مع طعومها الحلوة والمزيزة والملحة، ولم تكن عنايتهم بالأثمار من حيث الغذاء فقط، فقد كانوا يلتفتون أيضًا إلى الأرج واللون، بحيث لا يقعد الإنسان إلى طعام حتى يرى ما يغذو العين والخياشيم كما يرى من الطعم ما يلذ اللسان.
وكانت مساكنهم في غاية العجب، وبعضها مؤلف من طبقات، يحتوي المسكن على نحو مائتي نفس تقريبًا من أولئك الناس الذين يميلون إلى الألفة والاجتماع، بينما كانت هناك منازل منفردة بين الحقول يعيش فيها المغرمون بالعزلة أو المُنْكَبُّونَ على درس موضوع خاص يستغرق كل وقتهم ويصرفون إليه جميع قواهم. وكانت حياتهم تسهل على الإنسان الانفراد؛ لأنه كان يجد في وحدته كل ملاذ الاجتماع؛ إذ كان يجد في غرفته جهازًا للتليفون الأثيري، فيسمع من الخطب والمحاضرات والأخبار ما يشاء ليلًا أو نهارًا، وكان إذا أراد أن يخاطب صديقه، مثلت له صورته وسمع صوته وهو قاعد في غرفته لا يريم، ولم يكن بالمدن ذلك الغبار أو الضوضاء الذي كنا نراه؛ لأن الشوارع كانت جميعها مغطاة بالخشب أو الكاوتشوك، حتى الطرق الزراعية كانت كذلك تقوم على جوانبها المصابيح الكهربائية، فلم تكن البيوت تحتاج إلى كنس وتنظيف لا ينقطعان، ثم كان أثاث المنازل يساعد على النظافة؛ لأنه صار كله تقريبًا من الكاوتشوك، وكانت الغرف تدفأ وتضاء كما كان بها أيضًا مراوح تدار باللاسلكي، وكان لكل فرد تقريبًا أتومبيل خاص أو طيارة صغيرة، وكلاهما يدار أيضًا باللاسلكي.
ويمكن أن أقول: إن حياتهم كانت على وجه العموم انفرادية من الوجهة الحسية، ولكنهم كانوا في انفرادهم أكثر اجتماعًا منَّا من الوجهة المعنوية، فإني لم أعرف بينهم إنسانًا لم يسمع غناءً كل يوم أو لم يشاهد درامة تمثل في مكان قد يبعد عنه بألف ميل، أو لم يخاطب أصدقاءه النائين عنه في أقطار أخرى مرة كل أسبوع على الأقل، ويرى وجوههم ويضاحكهم ويجادلهم، فلم يكن ثَمَّ ما يدعو إلى أن يعيش هؤلاء الناس معًا، ثم كان لكلٍّ منهم مركبة هوائية أو أرضية تنقله إلى حيث يشاء بأسرع من الريح.
ولكني مع إعجابي بهم لا أنكر أني امتعضت كثيرًا عندما علمت أنهم لا يعرفون الحياة العائلية كما كنا نفهمها.
ومما زاد امتعاضي أن وجدت «راديوم» في غاية الجهل وسوء العاطفة نحو هذه الحياة، فقد كانت عواطفي توسوس إليَّ وساوس لذيذة عن حياة زوجية مع «راديوم» فأتمثلها معشوقتي وزوجتي، تسكن إليَّ وأسكن إليها، في مسكن يكون عشَّنا نأوي إليه معًا، ويكون لنا من ثمرة الحب المتبادل صبيان روقة نتمتع برؤيتهم أطفالًا ونشعر في تربيتهم بلذة الأبوة.
ولم تكن «راديوم» — والحق يقال — تشذ عن بني جنسها في سوء العاطفة الغرامية؛ فإنهم كانوا جميعًا جامدين باردين، ينظرون بعقولهم أكثر مما كانوا يحسون بعواطفهم، ولا أذكر أني رأيت أحدًا منهم يغضب إلى الاحتداد أو يفرح إلى الطرب؛ فأقصى غضبهم امتعاض، وأقصى فرحهم ابتسام أو ضحك لطيف، ولم يكن الزواج لديهم قائمًا على اعتبارات العشق، بل على اعتبارات المعيشة والغاية والنسل، فإذا سمع أحدهم عن فتاة تبحث أبحاثه وتدرس ما يدرسه تخابرا، وينتهي تخابرهما إلى ألفة؛ بحيث يعيشان معًا في مسكن واحد، ولكنهما مع ذلك لا يجوز لهما النسل إلا بعد شهادة من الحكومة بأنهما جديران بالنسل.
وكان النسل أخطر ما تعنى له حكومة «خيمي»، والحق أنني عندما أتأمل في أحوالهم أجد أنها كلها تدور حول العناية بالنسل، فقد استقر في هؤلاء الناس أن الإنسان كان في الزمن البعيد يشبه القرد، وأنه بالعناية والانتخاب يمكن أن يرقى إلى أن يكون حيوانًا راقيًا جدًّا من حيث العواطف والعقل، ومما ساعدهم وشجعهم على هذا النظر أن الأشرطة السينماتوفرافية التي حفظت لهم تاريخ ألف ومائتي عام قد وقفتهم على أحوال آبائهم ودرجة رقيهم المنحطة، وكيف تدرجوا في الرقي إلى أن وصلوا إلى حالتهم؛ فلم يكن فيهم من يستطيع التنطع بمجد الآباء؛ لأن هذا المجد كان يُرى على لوحة السينماتوغراف فترى عندئذٍ الوجوه الدميمة والغبار المتطاير والشوارع القذرة والرءوس الصغيرة، وأذكر أني تصببت عرقًا من الخجل عندما رأيت شريطًا خاصًّا بأحد الموالد، كانت إحدى الشركات قد أخذت صوره سنة ١٩٢٤ من القاهرة، وتعجبت! كيف كنا نعيش في ذلك الوسط القذر؟
وكان عندما يولد غلام جديد تحضر للمنزل لجنة من العلماء، فتفحص جسمه، فإن ألفته يليق للحياة، وإلا قتلته في المكان، ولم يكن الأبوان يغضبان من ذلك، وكنت أسمع منهم أن أكبر ما يقتل لأجله الأطفال هو «الردة» أي: أنهم يرتدون إلى أصلهم فيخرجون برءوس صغيرة.
وقد تحادثت مع «راديوم» كثيرًا عن هذا الموضوع، فوجدتها لا تستفظع قتل الأطفال، وأجابتني بلهجة باردة جدًّا بأنهم لا يُحسون بالموت أكثر من أي حيوان آخر، وأن مصلحة الأمة والأجيال القادمة تقتضي ذلك، أما طريقتهم في التربية فكانت في نظري أفضل ما عندهم، فقد كان الطفل يبقى مع أبويه نحو ست سنوات، ثم يؤخذ بعدها إلى المدارس حيث يعلم تعليمًا عمليًّا لذيذًا، فكانت الجغرافيا والتاريخ، وأيضًا التاريخ الطبيعي، تعلم بالسينماتوغراف، فكان الصبي الذي لم يتجاوز العاشرة يعرف هذه الأشياء من المعارف الصحيحة أكثر مما يعرفه طالب قد بلغ الثلاثين في مدارسنا القديمة. وكانت المدرسة عبارة عن ورشة ومكتبة يتنقل بينهما الطالب، وكان يمتحن امتحانين: أحدهما امتحان حضارة خاص بنظام الحكومة وتركيب الآلات المختلفة والزراعة والكيمياء ونحو ذلك مما تقوم به الحضارة، والآخر امتحان ثقافة حيث يدرس تاريخ الأمم والإنسان القديم والفلسفات المختلفة التي نبتت من أذهان الناس من العصور البعيدة والأديان والآداب ونحو ذلك. وكان الطالب لا يترك المدرسة عادة قبل الأربعين، ولم تكن هذه المدة طويلة إذا اعتبرت أن أهل خيمي كانوا يعمرون إلى نحو مائة وخمسين سنة، وكانت السياحات البعيدة إلى ثلوج القطب الجنوبي، أو إلى بوادي الصحراء، أو إلى الجبال الشامخة — من ضروب التربية التي يترباها الشاب، فكان الشاب لا يخرج من المدرسة إلا وقد رأى العالم كله تقريبًا.
أما نظام الأعمال والتكسب، فإنه يشبه ما كنا نسمع عنه من الداعين للاشتراكية في زماننا، فقد كانت خيمي مقسمة إلى ضياع بها دساكر، يتبع كل دسكرة نحو ألف فدان، وبها مصنع، وكانت الزراعة كما نفهمها الآن قليلة؛ لأنه لم يكن يحرث من هذه الألف سوى نحو خمسين أو ستين فدانًا لزراعة النباتات الغريبة السنوية، أما سائر الأرض فكانت مغطاة بالأشجار المعمرة، يؤخذ منها الطعام واللباس والوقود. ولم يكن الري من النيل كما كان في عهدنا؛ لأن هذا النهر كان قد جف تقريبًا؛ لأن أهل خيمي صاروا يزمون السحاب بأزمة علمهم، يرتفعون فوقه بالطيارات ويطلقون عليه من المواد الكيميائية ما يجعله يتكاثف ويقع مطرًا في أي جهة أرادوا وفي أي وقت شاءوا، أما مصانع الدسكرة فكانت تصنع كل شيء تقريبًا بحيث إن كل دسكرة كانت مستقلة في معاشها عن الأخرى، إلا في أشياء قليلة تبادلها وغيرها، وكان أهل النقابة أشبه شيء بشركة تعاون، ولم يكن يحتاج أحدهم إلى العمل لمعايشه أكثر من ساعة في اليوم، وسائر نهاره وليله يقضيه في المتع الذهنية المختلفة وفي متابعة أبحاثه العلمية؛ إذ قلما كان يخلو فرد من أبحاث علمية يملأ بها فراغة سواءٌ في ذلك الرجال أو النساء.
وكانت حكومة «خيمي» مؤلفة من خمس هيئات: الهيئة التشريعية، والهيئة القضائية، والهيئة الصحافية، والهيئة الدينية، ثم أخيرًا الهيئة التنفيذية، فأما الهيئة التشريعية فلم تكن منتدبة من أفراد ينتخبونها كما كنا نعهد في زماننا، بل كانت تنتخبها النقابات المختلفة، فلنقابة الأطباء مثلًا ١٠ أعضاء ولنقابة البيولوجيين، أي: علماء الحياة ١٠ آخرون، ولنقابة علماء الزراعة ١٠، ولنقابة التجاريين ١٠ وهلم جرَّا … حتى يتألف من ذلك مجلس به نحو ٥٠٠ عضو؛ هو السلطة العليا للتشريع.
وأما الهيئة القضائية فكانت أقل الهيئات ظهورًا في الأمة، لقلة عدد المتقاضين، وكان القضاة ينتخبون عادة من طبقة رجال العمران والبيولوجية للفصل في من يجب قتله من الناس أو منعه من التناسل، ولم يكن ثَمَّ عقاب آخر.
أما الهيئة الصحافية فكانت مؤلفة في الحقيقة من عدة هيئات. فإحداها مثلًا تشتغل بإصدار صحيفة يومية، إما لاسلكية وإما مطبوعة عن الكيمياء، وأخرى تصدر صحيفة أخرى عن الأدب، وأخرى عن الطب، وهلم جرَّا، وكانت الجامعات من الهيئات الخاصة بإصدار الصحف، ولم يكن نظام الجامعات عندهم يختلف عما كان عندنا.
أما الهيئات الدينية فكانت مؤلفة من نقابة عامة من الفلاسفة، ولم يكن يقبل فيها أحد دون السبعين، وكان رأيها هو الأعلى في تقرير ما يؤثر في ذوق الأمة ومزاجها وقصدها؛ فكانت تعين طريقة تدريس التاريخ وتقرر بناء التماثيل لبعض مشاهير التاريخ أو هدمها، وتقيم التماثيل الخاصة بالجمال أو بالكفايات الإنسانية الأخرى في الميادين.
وكذلك الحال في الموسيقى والتصوير والرقص، تأمر وتنهى فيها كلها؛ لأن أهل «خيمي» يعتقدون أن ديانة الإنسان أحرى بأن تتكون من هذه الأشياء، من أن تتكون من العقائد المحفوظة عن ظهر قلب كما كنا نفعل في أيامنا، ولأهل «خيمي» معابد يتعبدون فيها على انفراد، وعلى عكس ما كنا نفعل. والمعبد عبارة عن بناء مستطيل كبير، على كل جدار من جدرانه الأربعة صور تمثل بزوغ الحي الأول وتطوره إلى الإنسان، ثم ما تخيله هؤلاء الفلاسفة وتنبَّئُوا به عن مستقبل الإنسان في صور أخرى تمثله ضخم الرأس كبير العينين شريف الطلعة دقيق الأطراف والأنامل، وفي جدار آخر صور أخرى تمثل ارتقاء الصناعة من عهد الإنسان الحجري إلى زمن أهل «خيمي» وفي جدران أخرى صورة عجيبة لمركز الأرض في هذا الكون ونسبته إليه وفوق الأرض إنسان يتأمل مركزه في هذا الفضاء الواسع. وفي الجدار الرابع صور الفلاسفة والأنبياء العظام، وعلى شفتَي كلٍّ منهم كلمة بارعة أثرت عنه وصار لها أثر في التاريخ، والخيمي إنما يذهب إلى المعبد ليتبين قصده في الحياة، إذا أحس بسأم أو ضلال، فيقعد هناك منفردًا يحاول أن يتصل بالكون وأن يعرف مركزه ومهمته فيه، فيرتاح قلبه ويهدأ ضميره، وإذا استمر به السأم قصد إلى أحد رجال الهيئة الدينية فيدرسه ويعنى به، ويفتح له أبوابًا ينشط بها نفسه.
أما الهيئة التنفيذية فكانت مؤلفة من موظفي الحكومة المحليين والعموميين وعليهم إنفاذ أوامر سائر الهيئات.
وتتلخص حياة الفرد في أنه يبقى مع أبويه نحو ست سنوات، ثم يذهب إلى الجامعة ولا يبرحها حتى الأربعين تقريبًا، وهو في تلك المدة يرى أبويه ويعايشهما، ثم يخرج فيشتغل في إحدى الصناعات اليدوية وينتمي إلى نقابتها، وعندئذٍ يصير فردًا ذا رأي في مصير الأمة؛ لأنه ينتخب عن سبيلها النواب في الهيئة التشريعية والقضاة وأحيانًا الصحافيين، ونقابته عبارة عن شركة تعاون أيضًا.
فإذا دارت السنة عمل حساب الشركة، ما باعت من حاصلات الدسكرة الزراعية الصناعية وما اشترته، ثم توزع الأرباح على الأفراد كلٍّ بنسبة عمله، والجزاء يستوي تقريبًا بين جميع الأعضاء؛ لأن المال انحطت قيمته عند أهل «خيمي»، ولكنْ هناك أفراد لهم نزعات خاصة، يهوون مثلًا امتلاك بيت صغير يزينونه بما شاءوا من التحف، فهؤلاء يشتغلون أكثر من غيرهم لكي يتوافر لديهم من المال ما يقتنون به ما يشتهون من هذه التحف، ونقابة الدسكرة لا تمانع في ذلك بل تشجع عليه؛ لأن مال هذه الممتلكات يئول إليها بعد وفاة أصحابها؛ إذ إن مبدأ الإرث كان قد ألغي منذ زمان بعيد، ومعظم ما ينفق الخيمي ماله عليه هو الطعام والأتومبيل والطيارة (ولكلٍّ منهما عداد وهما يسيران باللاسلكي)، أما المسكن فيُعطى لكل فرد بالمجان. وكذلك الماء والنور والحرارة، وللنقابة مخازن يباع فيها الطعام واللباس بأبخس الأثمان.
وأهل «خيمي» لا يبالون بكثرة النسل، بل بجودته، فقد كانت مصر في سنة ١٩٢٥ نحو ١٥ مليونًا، أما في سنة ٣١٠٥ فإنهم نزلوا إلى نحو ١٠ ملايين فقط، ولكن ليس فيهم واحد يجهل الفلسفة أو مقدارًا كبيرًا من العلوم الأخرى، وقلما يموت أحد منهم دون أن يكون قد ساح إلى القطب وعاد منه؛ وذلك لأنهم وجدوا أن العبرة بالأشخاص كيف هم وليس كم هم.
•••
كان ابن عربي الأندلسي يقول: «لا ينبغي للعبد (يعني للإنسان) أن يستعمل همته في الحضور في مناماته، بحيث يكون حاكمًا على خياله، يصرفه بعقله نومًا كما كان يحكم عليه يقظة …»
وبعبارة أخرى … إن ما نشتهيه في اليقظة نراه في النوم، فلا تهزأ — بعد ذلك — بالأحلام.