حلم توماس مور
بعد أن مات الإغريق ماتت الحرية الفكرية في جميع أنحاء العالم إلا بصيصًا منها بقي عند العرب، يومض ويخبو تبعًا للزمان والمكان، فقد كان الإغريقي جريئًا يجازف في الخيال ولا يبالي بالآلهة أو بالناس؛ وذلك لأن الآلهة والناس كليهما لم يكن لهما ذلك السلطان الذي صار لهما فيما بعد، أي بعد ظهور المسيحية والأباطرة والملوك، فقد كانت الآلهة الإغريقية كثيرة العدد، كلٌّ منها مختص بعمل، فلم تكن له حرمة إله المسيحية أو إله الإسلام، أو ما لهما من السيادة الأتوقراطية، والعلم بكل شيء، وإملاء كل شيء على الناس، وكذلك لم يكن لهم ملوك مستبدون يمنعون الناس من التفكير في أشكال الحكومات وسياسة الدول وسَن الشرائع.
لم يكن شيء من ذلك عند الإغريق، فكانت أفكارهم وهي تنطلق حرة تسبح أينما تشاء، وكان فلاسفتهم يكتبون في كل ما يعرض لهم بلا تحرج، لا يتورعون من دين ولا يخشون بأس ملك، ثم كانت المسيحية وإلهها قادر على كل شيء عارف بكل شيء، فخرج الملكوت من يد الإنسان إلى يد الله، ومن هذا العالم إلى العالم الآخر، فإذا كان «أفلاطون» قد وجد المجال واسعًا لأن يتخيل ويحلم في إيجاد ملكوت أرضي، ينال فيه الناس السعادة والهناء، فإن المسيحية قد ضيقت هذا المجال؛ لأنها أوجدت من جنة النعيم في الآخرة بديلًا من مثل هذه الأحلام، ولم تكن هذه الأرض في نظر المسيحية سوى دار بلاء وتجربة يعبرها الناس إلى جنة النعيم، وهذا أيضًا هو نظر الإسلام، ثم كان ملوك النصارى وخلفاء المسلمين عائقًا آخر يمنع التخيل والبحث في المُثل العليا للحكومات والهيئات الاجتماعية؛ لأن بحث هذه الموضوعات دليل السخط على النظم الموجودة التي لا يرضى ملك أو خليفة بانتقادها.
ثم كانت النهضة الأوروبية فعادت أوروبا إلى نفسها القديمة وأخذت تعنى بتاريخ الإغريق، فصارت تدرس ثقافتهم وتتمثله، حتى نزعت نزعة إغريقية جديدة، فصار علماؤها وفلاسفتها يتنبَّأون ويتخيلون ويحلمون.
وبطل حلم توماس مور برتغالي يدعى «هيتلوداي» كان يعرف الإغريقية، وقد اعتاد المجازفات الفكرية من فلاسفة هذه اللغة، ولكنه لم يكن رجل كتب فقط، فقد عرف رجلًا يدعى «فسيوتيوس» زار معه أمريكا الشمالية والجنوبية وجزائر الهند الشرقية، وهناك رأى بلادًا تخالف ما ألفه في بلاده من حيث المؤسسات والنظم وتركيب الهيئة الاجتماعية؛ فهو لذلك يروي ما رآه في هذه الرؤيا.
يقول هيتلوداي: إنه زار جزيرة طولها مائتا ميل، قد خطت في وسط المحيط بهيئة الهلال يتقوس حول خليج كبير؛ بحيث يسهل الدفاع عنها من غارة أو عدو، وبالجزيرة ٤٥ مدينة، أقربها تبعد عن الأخرى بمقدار ٢٤ ميلًا، وأبعدها تكون على مسيرة يوم منها، وعاصمة الجزيرة بلدة تدعى «أموروط»، ولكل بلدة اختصاص قضائي على ما حولها من الأرض إلى ما يبعد عنها بعشرين ميلًا.
والزراعة هي أساس المعيشة في هذه الدولة، فليس فيها من يجهل هذه الصناعة، فهناك فلاحون يقضون كل حياتهم في الحقول، لهم دساكرهم منبثة في الريف، ولكن عند الحصاد يرسل عمال من المدن لمساعدة الفلاحين، وكل دسكرة تحتوي على أربعين رجلًا وأربعين امرأة، وفي كل عام يعود عشرون من هذا العدد إلى المدينة ويستبدل بهم عشرون آخرون يرسلون من المدينة إلى الدسكرة كي يتعلموا الفلاحة.
والفلاحة متقدمة من وجهيها الاقتصادي والإنتاجي، فهم يعرفون كيفية إنتاج الدجاج بطريقة صناعية، ويعرفون مقدار الطعام المطلوب لأهل الجزيرة فيزرعون ما يكفي أو ما يفيض قليلًا عن الكفاية.
ومع أن جميع سكان الجزيرة يعرفون الفلاحة، وقد مارسوها بعض عمرهم، فإنهم جميعهم يعرفون صناعة أخرى يزاولونها، كالبناء والتجارة والحدادة والحياكة، وجميع الصناعات متساوية القيمة فلا تفضل واحدة أخرى، والناس يتبعون آباءهم في الصناعات، فالصناعة تمارسها العائلات لا الأفراد، وإذا مال واحد إلى صناعة تخالف ما يزاوله أبوه ذهب إلى عائلة أخرى فتتبناه العائلة، ويأخذ في تعلم صناعتها، ويمكنه — إذا أراد — أن يتعلم صناعة أخرى باتباع هذه الطريقة نفسها، ثم له أن يختار ما شاء منهما.
وينحصر عمل القضاة تقريبًا في إجبار الناس على العمل. وليس معنى هذا أن أهل الجزيرة يكدون أنفسهم ليل نهار، فإن لهم توقيتًا للعمل والراحة، فهم ينامون ثماني ساعات، ويشتغلون ستًّا ويتصرفون بسائر اليوم كما يشاءون، وهم يشتغلون هذا العدد القليل من الساعات لأن كل إنسان مجبر على العمل، فليس بينهم أشراف أو أمراء أو شحاذون يعيشون عالة على غيرهم، ولا يعفى من هذا الإجبار سوى الطالب في المدرسة أو القاضي.
وبين المدينة ودساكر القرى مقايضة تحدث باحتفال عام كل شهر، فيأخذ الفلاحون ما يحتاجون إليه من صناعة أهل المدن ويأخذ أهل المدن ما يحتاجون إليه من غلات الريف، ولا بد أن لهذه المقايضة نظامًا، ولكن هيتلوداي لم يذكر هذا النظام.
والمدينة مؤلفة من عائلات، والصناعة كما قلنا تمارسها العائلة لا الفرد، قال هيتلوداي: «كل مدينة مقسمة أربعة أقسام، وفي وسط كل قسم سوق، فما تحضره العائلات من مصنوعاتها يؤخذ ويصف كلٌّ إلى نوعه في أمكنة خاصة، ثم يذهب الآباء ويأخذون حاجاتهم من هذه الأشياء بدون أن يدفعوا ثمنه أو يضعوا شيئًا بدلًا منه على سبيل المقايضة.»
«وليس هناك ما يدعو إلى أن ينكر على أحد طلبه؛ وذلك لوفرة ما هو معروض من هذه الأشياء؛ ولأنه لا خوف من أحد أن يأخذ أكثر من حاجته؛ إذ ليس هناك ما يغريه بذلك؛ لأنه متأكد من وجود هذه الأشياء على الدوام.»
ثم يقول: «إن خوف الحاجة هو الذي يوجد النهم والطمع في نفوس الحيوان، ولكن إلى جانب الخوف نجد عند الإنسان خصلة أخرى هي الكبرياء؛ حيث يتوهم الإنسان أن تفوقه على غيره في الأبهة مما يزيد في مجده وعظمته، ولكن ليس أحد يسعه أن يفعل ذلك في الجزيرة.»
فتوماس مور لا يحلم بشيوعية النساء — كما حلم أفلاطون — ولكنه يحلم بشيوعية الأملاك؛ وهو لكي يحقق هذه الشيوعية يلغي النقود؛ فالناس يأخذون حاجاتهم بدون ثمن.
وفي كل عام يجتمع القضاة (وهم الحكام أيضًا) في العاصمة «أموروط» فينظرون في غلات كل منطقة، ويرسلون إلى المناطق المحتاجة إلى بعض السلع ما تحتاج إليه من فائض المناطق الأخرى.
وليس للذهب أو الفضة أو الجواهر قيمة عند أهل الجزيرة؛ ولذلك فالرؤيا كما يراها توماس مور لا تقاس إلى رؤيا يوحنا، من حيث الزينة واللآلئ، مع أن الأولى يقصد تحقيقها في هذا العالم والثانية لا تتحقق إلا في السماء، وغريب أن يدعو رجل الدنيا إلى ملكوت خلو من الزينة والجواهر، في حين يدعو إليها رجل الدين في ملكوت السماء.
أما «أموروط» عاصمة الجزيرة فتقع على تل وحولها سور، والمنازل مشيدة على نسق واحد حتى كأن الشارع بناء واحد، وسعة الشارع عشرون قدمًا، ووراء كل منزل حديقة يعنى السكان بها ويتعهدونها حتى تبقى في نضارة دائمة، وفي كل شارع قاعات خاصة مبنية على مسافات متساوية، يقيم فيها القضاة (الحكام) وكلٌّ منهم ينظر في شئون ثلاثين عائلة نصفها في جانب من الشارع والنصف الآخر في الجانب الآخر.
وفي هذه القاعات يتناول جميع السكان غذاءهم، ويقوم بطهي الطعام نساء الثلاثين عائلة بالتناوب، وإلى جانب هذه القاعة معبد، ومكان آخر للعب الأطفال الذين تأتي أمهاتهم للطبخ في نوباتهن.
ولننظر الآن في حكومة هذه الجزيرة، فالعائلة هي أساس المجتمع، وكل ثلاثين عائلة تختار كل عام قاضيًا، ولكل عشرة قضاة رئيس. وجميع قضاة الجزيرة الذين يبلغون ٢٠٠ يختارون أميرًا، وتكون إمارته مدة حياته ما لم يتهم بمحاولة استعباد الأهالي، ولكي يمنع الأمير أو غيره من محاولة قلب نظام الحكومة، يعرض كل مشروع على جميع السكان، فإن القاضي يعرضه على العائلات الثلاثين الداخلين في اختصاصه، ثم يتناقشون فيه ويرفع هو قرارهم إلى مجلس الشيوخ.
والعائلة كما رأيت ليست وحدة بيتية فقط، بل هي أيضًا وحدة صناعية، فإذا سارت قاعدة للانتخاب ضمن النظام الديمقراطي للحكومة ضمن بذلك بقاؤها.
ولكن في هذا الحلم أشياء جديرة بالانتقاد لم يستطع توماس مور أن يخرج فيها عن حكم بيئته، فلم يدرك مثلًا أن تكاثر السكان، مع العناية بصحة الأهالي وتوافر الغذاء لهم، سيؤدي حتمًا إلى أن يفيض السكان على طعامهم وإلى إيجاد الفاقة بين جميع السكان، وهذه غلطة يعذر فيها توماس مور، فإن الوفيات في عهده كانت كثيرة تكاد تعادل المواليد، فلم يكن يخطر ببال أحد أن يتخيل مثلًا أعلى للمجتمع يحدد فيه عدد السكان، وإن كان ذكاء أفلاطون قد جعله يحسب لهذا الاحتمال ويوصي بقتل الفائضين من الأولاد.
ويظهر من مسائل أخرى عالجها توماس مور أن مستوى المثل الأعلى عنده لم يكن عاليًا إلى الدرجة التي يمكننا أن نتخيلها، ويظهر هذا خاصًّا في معالجته مسألة انتقال الأهالي من مكان لآخر ومسألة الحرب.
ففي مسألة الانتقال يحتم على كل فرد أن يحصل على جواز من أمير الجزيرة، فإذا غاب أكثر من يوم يجب عليه أن يمارس صناعته في المكان الذي انتقل إليه، وإذا وجد إنسان يجول في مكان وليس معه جواز فإنه يعاقب، فإذا عاود هذا الفعل عومل معاملة العبيد، ويبدو للقارئ من معاملة توماس مور لهذه المسألة أنه لم يعنَ أقل عناية بالتفكير الجدي فيها، أو أنه أراد أن يحصل على عبيد لجزيرته، فإنه وجد أن من أعمال الناس التي يحتاجون إليها ما هو قدر في طبيعته لا يرضى بمزاولته أحد باختياره، مثل ذبح البهائم وتنظيف الطرق وما إليها، فخص العبيد بالقيام بهذه الأعمال، وأوجد بالرق بأوهى الأسباب في نظام المجتمع، حتى يعيش أفرادها منزهين عن كل ما في مزاولته قذارة، ولكنه نسي شيئًا آخر وهو أن معاشرة العبيد تؤثر في الأسياد، وإذا ألفنا الاستبداد من السيد للعبد صار أيضًا مألوفًا من الأمير للسيد.
أما الحرب فهو يجيزها على شروط، منها الدفاع عن الأرض، واضطهاد التجار الأجانب ومنع الأمم من الهجرة إلى بلاد يمكن زراعة أرضها وليس من يزرعها من أهلها، ومن هذه الشروط يرى القارئ أن توماس مور كان يكتب مستضيئًا بالحوادث التي جرت في عصره، فقد كانت أمريكا حديثة العهد بالاكتشاف والهجرة إليها متصلة، وكانت سفن التجارة يقبض عليها في الموانئ ويسلب ما فيها من السلع. ولكنه يؤلف الجيش بطريقة «يوجنية» فهو يصطفي أسوأ الرجال لتجنيدهم في الحرب، حتى إذا قتلوا استفادت الأمة بفقدهم على نحو ما يقلع الزارع الأعشاب الضارة من حقله.
ولننظر الآن في شروط الزواج والدين، فأهل هذه الجزيرة يسمحون للعروسين بأن يرى كلٌّ منهما الآخر وهو عريان قبل الزواج، وللطلاق علتان الأولى الزنى، والثانية التواء أحد الزوجين على الآخر بحيث لا يمكن تقويمه، ومن زنى يحكم عليه بالرق، ولا يمكن أن يتزوج، رجلًا كان أم امرأة.
هذا هو حلم توماس مور، وليس فيه فكرة مبتكرة أو خيال بعيد، ولكن وراء مقترحاته كلها فكرة واحدة، وهي أن يسيطر الإنسان على الممتلكات ويتمتع بها، لا أن يكون هو نفسه عبدًا لها يقضي حياته في جمعها، واختزانها ويجهد جهده في المحافظة عليها وحراستها ورعايتها، يحسب بذلك أنه مالكها، والحقيقة أنها هي التي تملكه وتسترقه، وهو لذلك يلغي النقود؛ لأنها وسيلة ادخار الممتلكات، ويحتم على الجميع أن يشتغلوا في الزراعة ولو بعض وقتهم، حتى يشعر كل إنسان أنه منتج، ثم يحتم على كل إنسان يصنع شيئًا إن لم يزرع، ثم يعرض جميع السلع على كل الناس يأخذون منها ما يشاءون، لا يخشى أن أحدًا سيحتجن إليه ويدخر أكثر مما هو في حاجة إليه.
أما أوقات الفراغ — وهي كثيرة — فتقضى في طلب العلوم والآداب، يحاول كل إنسان أن يرقى ذهنه بما يقرؤه أو بما يناقش فيه إخوانه.