أندريا وحلمه
وهو يبدأ حلمه بأن يروي للقارئ رحلة له في البحر حيث تتحطم سفينته على صخور جزيرة هي مسرح هذا الحلم، فقد كان بهذه الجزيرة مدينة: «كريستيانوبوليس» أو المدينة المسيحية، فإذا أراد أن يدخل هذه المدينة امتحنه أهلها أولًا في الفضائل والأخلاق والثقافة، ولما لم يروا فيه شيئًا مناقضًا أذنوا له بالدخول.
وإليك الآن وصف هذه المدينة: كانت في هيئة مربع طول جانبه ٧٠٠ قدم، وهي محصنة بأربعة أبراج وسور؛ فهي لذلك تطل على الأركان الأربعة للعالم، والبيوت مبنية على صفين، ولكنك إذا حسبت الحكومة والمخازن فهي أربعة صفوف، وليس فيها سوى شارع واحد، وسوق واحدة، ولكنها من الطراز الأول، وفي وسط المدينة معبد مستدير قطره ١٠٠ قدم، وفي جميع البيوت ثلاثة طوابق، ولها كلها «بلكونات» متصلة، وتجد على وجه العموم أن البيوت يماثل بعضها بعضًا، فليس هناك سرف أو قذر والهواء النقي يجوس خلال البيوت كلها، وفي هذه المدينة يعيش أربعمائة من السكان في هدوء الإيمان الديني والسلام، أما سائر الجزيرة فإنها خاصة بالزراعة والمصانع.
و«المدينة المسيحية» من حيث الصناعة منقسمة إلى ثلاثة أقسام: واحد للصناعات الخفيفة التي لا تحتاج إلى نار، وآخر للصناعات التي لا تحتاج إلى وقود وتبقى فيها النبران، والثالث لتربية الحيوان والأعمال الريفية، والغرض من هذه القسمة ألا تؤذي هذه الصناعات الناس الساكنين بجوارها إذا كانت متفرقة في أنحاء المدينة بلا ضابط. والعمال الذين يشتغلون في هذه المصانع لا يساقون إليها سوق الأنغام، بل هم قد تعلموا قبلًا وحصلوا على «معرفة صحيحة للمسائل العلمية»، ونظرية صاحب الحلم في ضرورة هذه التربية العلمية للمصانع، وهي: «أنك إذا لم تحلل المادة بالتجربة، وإذا لم تستعض عن نقص معلوماتك بتحسين آلاتك، فلا فائدة منك.»
وهذه لمحة عجيبة من أندريا في رؤياه؛ إذ يقول بفائدة العلم للصناعة وبإمكان تعليم الصانع، وكلاهما غرض لم يتحقق في جميع الأقطار المتمدينة للآن، بل من الناس من لا يؤمن بهما. وإليك الآن وصفه للصناعة: «إن عملهم أو استعمال أيديهم كما يقولون هناك يجري على نمط خاص، وجميع ما يصنع يحمل إلى مخزن عمومي، ويأتي الصانع فيأخذ من هذا كل ما يحتاج إليه لعمله في الأسبوع القادم؛ وذلك لأن المدينة في الحقيقة مصنع واحد متنوع الصناعات، وإذا كان بالمخزن كمية مدخرة كبيرة من المصنوعات، فإن الصناع يؤذن لهم بالانطلاق من قيود العمل واستعمال أذهانهم فيما يشاءون، ولا يحمل النقود أحد من الناس وليس للنقود أية فائدة عندهم، ومع ذلك فللجمهورية خزانتها، والسكان من هذا الاعتبار لهم ميزة المساواة، ليس أحد منهم أوفر مالًا من غيره، وإنما يمتازون بقوة أذهانهم ويتفاضلون بأخلاقهم وصلاحهم، وعدد الساعات التي يشتغلون فيها قليلة، ومع ذلك فهم يتممون شيئًا كبيرًا من الأعمال؛ لأنه من العار على أحد أن يأخذ من الراحة أكثر مما يؤذن له.»
وهناك واجبات وطنية يؤديها السكان إلى جانب صناعاتهم، كالحفر والحصاد وتعبيد الطرق والبناء وصرف أقذار المدينة إلى مجاريها.
أما التجارة الخارجية فليست في يد أفراد يشتغلون لحسابهم، بل هي في يد هيئة تعينها المدينة، وليس الغرض من هذه التجارة زيادة الثروة والربح، بل مقايضة سائر الأقطار ما عندهم من السلع التي لا تصنع في «المدينة المسيحية».
وأساس هذا النظام عند أندريا هو العائلة المسيحية، فكل شاب يبلغ الرابعة والعشرين، وكل فتاة تبلغ الثمانية عشرة يتزوجان ويؤلفان هما وأولادهما عائلة جديدة.
وليس هناك ما يتكلفه الزوجان، حتى أثاث البيت الجديد تقدمه الحكومة بلا ثمن، وهذا الأثاث بسيط يمكن للزوجة أن تنظفه بأقل عناء؛ ولذلك ليس في المدينة المسيحية خدم للبيوت، فالنساء متعلمات والزوج يساعد زوجته في عمل البيت ما عدا الخياطة والغسل، ثم هناك مطبخ عمومي يزود الزوجة بما تحتاج إليه من الطعام إذا لم تكن قد طبخت لنفسها.
يرى التاريخ الطبيعي هنا مرسومًا بالتفصيل على الجدران بأعظم مقدار من المهارة، فهيئة السماء ومناظر الأرض في مناطق مختلفة، وشعوب الإنسان المختلفة، وأمثلة الحيوان، وهيئة الأحياء، وصنوف الأحجار والجواهر، كلها مرسومة ومسماة، يتعلم منها الطلبة طبيعتها وأوصافها … أوليس من الحق معرفة أشياء هذه الأرض وأسهل في الإيضاح إذا كانت هناك أمثلة توضح إلى جانب دليل يساعد الذاكرة؟ وذلك لأن العلم يجوز إلى الذهن عن سبيل العين بأيسر مما يجوز إليه عن سبيل الأذن.
وقد قلنا: إن المؤلف ألماني؛ فهو لذلك لا يترك صغيرة ولا كبيرة في هذه المدارس حتى يحصيها، يصف معامل الرياضة ومعامل الطبيعة والتشريح والصيدلة بدقة، كأنه يهيئ ترسيمًا لمشروع سيتحقق، وهو على حبه الألماني للعلوم لا يهمل أمر الفنون، فهو يقول: أمام معمل الصيدلة دكان وسيعة للفن التصويري، وهو فن يلذ لأهل المدينة العناية به؛ لأن المدينة — فضلًا عن أنها مزينة بصور ورسوم تمثل أشكال الأرض المختلفة — تستعمل الرسوم في هذه الدكان لتعليم الشباب وتسهيل هذا التعليم لهم، ثم إن صور العظماء وتماثيلهم ترى في كل مكان، وفيها كلها ما يبعث في الشباب عاطفة تقليد هؤلاء العظماء في فضائلهم.
ومعبد المدينة هو بالطبع أهم بناياتها، ويحوي من بدائع الفن ما يحويه غيره، ولكن أندريا كان كما قلنا رجل دين، وقد زار جنيف ووقع تحت تأثير «كالفن»؛ فهو لذلك يجعل العبادة في المعبد إجبارية، والاجتماعات العمومية تعقد في هذا المعبد، كما أن «الكوميديات» الدينية تمثل فيها.
والآن وقد ذكرنا شيئًا عن الصناعة والتعليم والعائلة، فلنقل شيئًا عن الحكومة؛ ففي المدينة مجلس مؤلف من ٢٤ عضوًا، والهيئة التنفيذية لهذا المجلس مؤلفة من ثلاثة أشخاص، هم: الوزير والقاضي ومدير التعليم، وأولهم يمثل ضمير الأمة، والثاني الفهم، والثالث الحقيقة، وإليك ما يقوله الآن عن عقاب المجرمين: «إن قضاة المدينة المسيحية يتبعون هذه العادة، وهو أنهم يعاقبون بأقصى العقوبات تلك الجرائم التي تقع من إنسان نحو الله، ثم يعاقبون بأقل قسوة تلك الجرائم التي تقع من أحد نحو الناس، وأخف ما يعاقب عليه أحد هو تلك الجرائم التي تقع بالأملاك، وأهل المدينة يكرهون إراقة الدماء؛ وهم لذلك لا يستبيحون لأنفسهم عقوبة الإعدام؛ لأن كل إنسان يمكنه أن يقتل، ولكن لا يقدر على الإصلاح إلا خير الناس.»