من أحلام الاشتراكية
أحلام القرن التاسع عشر كله، وما يليه من ربع القرن العشرين، هي كلها أحلام الآلات والعمال، وكلها تتجه بالطبع وجهة اشتراكية شأن جميع الأحلام الماضية، ولكنها تمتاز منها بالعناية بالعمال وبجعْل الآلات أساسًا للهيئة الاجتماعية، وهاتان الميزتان كلتاهما لم يكن أفلاطون يعرفهما، فهو كما يذكر القارئ حذف من ذهنه مسألة الصناع والعمال، ولم يبال بهم إلا أقل المبالاة، أما الآلات في زمنه فلم تكن لها من الخطورة والأثر في المجتمع ما يدعو إلى التفكير في شأنها، ولكن كل هذه الأحوال قد تغيرت في القرن التاسع عشر؛ إذ هو يشترك وقرننا في أنه عصر العمال وعصر الآلات معًا.
ومن أصحاب الأحلام المعدودين في القرن التاسع عشر «أتيين كابيه» الذي ولد سنة الثورة الفرنسية ١٧٨٨، وتُوفي عند بداية إمبراطورية نابليون الثالث سنة ١٨٥٦، فرأى في صباه أحد مردة التاريخ — نابليون الكبير — وعبر القرن التاسع عشر بثوراته الكبرى سنة ١٨٤٨، وبمخترعاته العديدة التي هي في الحقيقة أبعد أثرًا من الثورات في النظم الاجتماعية، وميدان الحلم «إيكاريه» وهي إقليم مقسم على طريقة الثورة الفرنسية إلى أقسام أعشارية، فيه مائة مديرية تستوي كلها في المساحة وعدد السكان، وكل هذه المديريات ينقسم إلى عشرة مراكز متساوية أيضًا، لا يراعي كابيه في ذلك اختلاف السهل من الجبل، أو الوادي الجدب من الوادي الخصب، فإنما هو يقسم مملكته كأنها رسم على الورق، ينزع هذه النزعة بقوة الثورة الفرنسية التي أسست الطريقة المترية، وفي وسط «إيكاريه» تقوم مدينة «إيكاره» عاصمتها وهي أشبه شيء بباريس، لها نهرها أيضًا كما لباريس نهر السين، والمدينة مستديرة يشقها نهرها نصفين متساويين، ويقوم على الشطين جداران مشيدان من الحجر لمنع انهيارهما.
وقد كرى النهر حتى بعد قعره، وحتى صارت بواخر الأقيانوسات تمخر فيه وتنقل البضائع إلى إيكاره ومنها، وبها خمسون شارعًا توازي النهر وخمسون أخرى تقطعه، (وقد خانته الطريقة العشرية هنا؛ لأن المدينة كما سبق فذكرنا مستديرة، فكيف تتفق استدارتها ونظام هذه الشوارع؟) والمدينة مقسمة إلى ٦٠ حيًّا، كلٌّ منها يحتوي على مدرسة ومستشفى ومعبد وحوانيت، والمدينة مبنية عمارات، بكل عمارة ١٥ منزلًا تحيط ببستان عمومي.
والقرى في إقليم إيكاريه تشبه المدينة من حيث التخطيط، والمؤلف مهموم بالعناية بالصحة وبالرفاهية في الشارع، فمماشي الناس إلى جانبي الشوارع مظللة بالزجاج، كذلك المحطات (أليست هي الآن كذلك؟) أما الإصطبلات والمجازر والمستشفيات، فتقع خارج القرية أو المدينة، وتقوم المصانع والمخازن على النهر أو إلى السكك الحديدية لتسهيل النقل.
والآن، لننظر في النظام السائد الذي يجري عليه السكان …
كان أتيين كابيه مشبعًا بروح الزمن الذي عاش فيه، وكان نابليون يشمخ فيه كالمارد؛ ولذلك بدأ كابيه حلمه بأن تخيل «إيكار» أميرًا مستبدًّا يملي على الناس نظام حكومته فلا يخالفه أحد، وخير ما يوضح هذا النظام هو وصف حالة أحد السكان.
يبدأ الإيكاري يومه في الساعة السادسة، فيتناول فطوره في المطعم أو في المصنع، وقد قررت ألوان الفطور لجنة من العلماء نظرت في قرارها إلى صحة المفطرين، وكأني بك تشك في هذا الطعام، وهل يساغ على الرغم من قرار العلماء، وقد شك قبلك كابيه وأذن للسكان بأن يفطروا كما شاءوا وأينما شاءوا، وإذا أفطر الإيكاري قصد إلى عمله فيشتغل في الصيف ٧ ساعات وفي الشتاء ستًّا، (والمؤلف من أهل البلاد الباردة يرتاح إلى العمل في الصيف على عكس ما هو حاصل عندنا)، وجميع أهالي إيكاريه يعملون هذا العدد من الساعات بلا امتياز لأحد على آخر.
والحكومة هي صاحبة المصانع، وهي التي تنظم أوقات العمل، وهي التي تملك الخيول والمركبات التي تنقل البضائع، فهي اشتراكية لا غش فيها، ومن هنا كانت «رحلة إلى إيكاريه» من الكتب التي تداولها العمال كثيرًا منذ طبعته الأولى سنة ١٨٤٥، وكان هذا الكتاب ذا أثر في تشبع العمال في أوروبا بالفكر الاشتراكي.
وعندما يفرغ الإيكاري من عمله يخلع ملابسه، تلك الملابس التي قررتها «لجنة الملابس» على نحو ما تقرر إدارة الجيش ملابس الجنود، والواقع أن الإيكاريين جنود قد عبثوا للصناعة، يجري عليهم نظام الجيش في جميع شئونهم.
وقبل أن يولد الإيكاري تتلقى أمه دروسًا في واجبات الأمومة، فإذا بلغ الخامسة تناولته يد الحكومة بالتربية طبقًا لبرنامج يتفق فيه جميع شباب الإيكاريين إلى سن الثامنة عشرة للذكور والسابعة عشرة للإناث، وعندئذٍ يسير كل شاب أو شابة في دراسة خاصة توافق الصناعة التي سيتخذها فيما بعد، وهذه الصناعات محدودة معينة ترأسها كلها لجنة تحصي عدد الصناع في جميع المصانع كل عام. وتحصي مقدار البضائع المخزونة، ثم تعين حاجتها إلى عدد الصناع المطلوبين في كل صناعة، وتأخذ من متخرجي المدارس من تحتاج إليهم من الفتيان والفتيات، والرجل يحال على المعاش إذا بلغ الخامسة والستين، والمرأة إذا بلغت الخمسين.
ولا يمكن الإيكاري أن يتزوج قبل بلوغه العشرين، أما الفتاة فيمكنها ذلك عند بلوغها الثامنة عشرة، أما الحكومة فكانت في نشأتها استبدادية؛ لأن كابيه تخيل «إيكار» شخصًا له إدارة نابليون وسلطانه ويعمل للإصلاح، ولكن بعد موته صارت نيابية لكل مديرية مجلسها، وللإقليم كله مجلس منتخب من هذه المجالس وله هيئته التنفيذية التي تدير البلاد، والحكومة تصدر الصحف، ولكن هذه الصحف مقصورة على إيراد الأخبار دون ارتياء الآراء لكيلا تكون منها ذريعة لتثبيت قدم الحكومة.