سنة ٢٠٠٠
كان «أوين» و«كابيه» كلاهما اشتراكي، يتخيل على يقظة، ويحلم بتدبير، ويقصد إلى التطبيق والعمل، وقد أنشأ كلٌّ منهما مستعمرة لتجربة نظرياتهما وتحقيق خيالهما في إنجلترا وأمريكا، وأخفق كلاهما.
وهو يبدأ قصته بأن أحدًا نومه تنويمًا مغناطيسيًّا فلم يستيقظ إلا في سنة ٢٠٠٠، وكانت له قصة غرام مع آنسة سنة ١٨٨٧، وهو يصل غرامه القديم بحفيدتها سنة ٢٠٠٠، مما لا شأن لنا في تفصيله؛ لأن غايتنا هي وصف ما وضعه لنا من الترسيمات للإصلاح.
ولم يصف بلامي شيئًا عظيمًا إلا من حيث الحجم، أما من حيث المتانة فإن بناءه أرك بناء وأكثره تداعيًا، فإذا أنت قرأت القصة سما بك أدبها خيال راقٍ، ورفعك قصدها العالي إلى أسمى العواطف.
ولكنك إذا وقفت وتأملت شعرت كأن بلامي يصف لك مدينة كبيرة من ورق، وأن خيال أفلاطون — على ما به من سذاجة — أمتن دعائم وأوثق نظامًا من هذا الحلم الذي يراه بلامي في ختام القرن العشرين، ولكنك مع ذلك تشعر بتلك الدوافع الشريفة التي بعثت بلامي على أن يتخيل هذا الخيال، فهو يرغب في أن يرى هيئة اجتماعية يقعد فيها الفرد إلى المائدة لكي ينعم بالطعام الفاخر، ولا يرى إنسانًا واقفًا قريبًا منه يحسده على نعيمه ويتضور جوعًا، ويرغب بلامي في أن يرى التربية عامة والتعليم شاملًا الجميع؛ لأن للجاهل منظرًا كريهًا ينعكس أثره على جميع أفراد الأمة الذين يستوقرون من جهلة ما لا قِبل لهم بحمله، ويرغب في أن يحمل على عاتقه شيئًا من ذلك العبء الذي نخص به طائفة الزبالين والكناسين وغيرهم؛ لأن مثل هذه الأعمال أشق وأقذر من أن تحتملها طائفة وحدها، ويرغب أيضًا في أن يستوي الناس في فرص الإثراء بحيث لا تكون الثروات من الصدف التي يصيبها بعض الناس ويخطئها البعض الآخر، وهو فوق كل ذلك أديب يرغب في ألا يمتهن الحب، وألا تقف اعتبارات الجزار أو البقال أو الخياط حجر عثرة في سبيل الحب المثمر بين فتى وفتاة يحجمان عن الزواج؛ لأن الفتي لا يستطيع شراء كذا أو كذا مما تحتاج إليه الزوجة، ويرغب في حمل الناس على الحياة الساذجة، وكفهم عن التكلف والتصنع، فيجب أن تصارح الفتاة حبيبها بأنها تحبه، ويجب أن تلبس ما تشاء من اللباس البسيط، وأن تفضي إلى الناس بآرائها بدون أن تتقيد بعرف حائر أو حياء متكلف.
وكل هذه الرغبات حسنة في ذاتها، ولكن بلامي يخطئ عندما يريد تحقيقها في خياله، وهنا يجب أن نقف هنيهة لكي نتأمل في الفرق بين خيال أفلاطون وبين أخيلة هؤلاء الحالمين من أبناء القرن التاسع عشر.
فإن أفلاطون لم يعن قليلًا أو كثيرًا بالعمال، بل تركهم على ما كانوا عليه، ولكن جميع فلاسفة القرن الماضي لم يفكروا في إصلاح للمجتمع إلا وكانت مسألة العمال هي المقدمة على كل المسائل، وعبرة ذلك هي أن عدد العمال قد كثر في هذا القرن وصاروا هم جمهرة الأمة وكثرتها، وهذا بخلاف الهيئات الاجتماعية القديمة، وعلة ذلك تفشي الآلات وتمركز الثروات في أيدٍ قليلة، وانهزام المالك الصغير أمام المالك الكبير، وهذا هو شأن بلامى، فإنه يبدأ «طوباه» أو مثله الأعلى للهيئة الاجتماعية بحل مسألة العمل، فهو يقول: إن أهالي الولايات المتحدة كانوا في القرن التاسع عشر قد تدربوا على تنظيم أعمالهم بواسطة شركات كبرى، فما أن يختم هذا القرن حتى اندمجت هذه الشركات في إدارة واحدة وصارت قسمًا من الحكومة، وصار عمال هذه الشركات جيشًا كبيرًا يتألف من شباب الأمة، وهم يشتغلون كالجيش، تسيطر عليه الحكومة، ويجري عليه نظامها، ويتناول منها أجوره، والعمل في هذا الجيش إلزامي، كما هو في الجيوش العسكرية الحاضرة، إذا تخرج الشاب من الكلية انتظم فيه ثلاث سنوات يؤدي فيها الأعمال الشاقة الوضيعة.
فإذا تخرج هذه المدة تقدم للتخصيص في إحدى الصناعات أو الفنون التي تعلن الحكومة عن حاجتها إلى عمال لها، فيبقى في تعلم هذه الصناعة التي ينتقيها، وبعد ذلك يصير جنديًّا في جيش العمال العظيم الذي تديره الحكومة، وكل عامل مهما كان عمله يتناول أجرًا يستوي فيه هو وغيره من العمال قدره ٨٠٠ جنيه في العام، لا يمتاز في ذلك عامل لنشاطه عن عامل آخر لكسله وكل من لا يؤدي واجبه يعاقب، ولما كانت الأعمال تختلف من حيث الصعوبة والسهولة فإن الحكومة تحترز من إقبال الناس على الأعمال السهلة، وتجنبهم الصعوبة بتقصير مدة العامل في هذه وإطالتها في تلك، والأجر مع ذلك لا يختلف في كلا العملين، ويجوز للعامل أن يستقيل ويحصل على معاش ٤٠٠ جنيه في العام إذا بلغ الثالثة والثلاثين أو أن يبقى في عمله إلى الخامسة والأربعين ويحصل عندئذٍ على الاستقالة بمعاش كامل قدره ٨٠٠ جنيه.
ولكن في هذا الجيش ثغرة، فإنه يلزم جميع الشباب بالعمل فيه ما عدا أولئك الذين ينتمون إلى حرفة المؤلف، فإن التأليف والاختراع خارجان عن هذا النظام، ويجوز للعالم أو المكتشف أو الأديب أن يمارس صناعته حرًّا كما هو الحال الآن، ويكتسب من الجمهور كما يشاء ولا بد أن بلامي — وهو مؤلف قصصي — قد عرف من أسرار صناعته ما يدعوه إلى عدم الثقة بالحكومة؛ لأن الحكومة بطبيعة وجودها تميل إلى الجمود وبقاء الحال الحاضرة، والمخترع والمكتشف والأديب كلهم تقتضي صناعتهم شيئًا من الخروج على المألوف؛ وهم لذلك لا يجدون في الحكومة بيئة صالحة تزكو فيها أذهانهم.
ولنرجع الآن إلى جيش العمال، فنقول: إن جميع الأعمال من إنتاج واستنفاد في حكومة سنة ٢٠٠٠ قد قسمت إلى عشر مصالح تضم إلى حظيرتها طائفة من الصناعات المتجانسة، ولكل صناعة قلم خاص، به السجلات الخاصة بها، وما يتوافر من الأجور فيها يئول إلى الآلات والأبنية التي تحتاج إليها هذه الصناعة، وهذا القلم هو الذي يقرر أثمان السلع التي يصنعها، ولكنه لا يمكنه أن يستبد؛ لأن قانون الدولة يحظر الزيادة إلا بنسبة معينة لما أنفق على السلعة.
ويرأس جيش العمال رئيس الولايات المتحدة الذي ينتخبه انتخابًا مباشرًا جميع السكان، بعد استثناء جيش العمال، وذلك لمنع استبداد الجيوش بالأهالي.
ولكن يبقي فرض آخر وهو: هل يرضى هذا الجيش على كترثه بأن يعين له رئيس وليس له صوت في تعيينه، وهل يعمل هذا الرئيس شيئًا لزيادة رفاهية العمال وهو منتخب بهذه الكيفية؟
هناك شك في أنه يمكن إدارة جيش كامل أن تقوم بجميع الأعمال في أمة كبيرة تبلغ نحو مليون نفس؛ لأن هذه الاشتراكية الحكومية بعيدة عن أن تتحقق في جميع الصناعات، ولسنا في ذلك ننكر أن بعض الصناعات تنجح عن سبيل الاشتراكية الحكومية — بل الاشتراكية البيروقراطية — أكثر مما تنجح في يد الأفراد، كما نرى في السكك الحديدية المصرية، ولكن هناك من الصناعات ما لا يمكن أن تنجح إلا إذا عولج على مقاييس صغيرة، وفي إدارات محدودة المساحة، ولكل بقعة شخصية تظهر في صناعاتها، ولكل بيئة طابعها على الصانع الذي يمارس إحدى صناعاتها؛ فالاشتراكية الحكومية لا تنجح في كل صناعة؛ ولهذا نشأ بين الاشتراكيين الرأي القائل ﺑ «الاشتراكية البلدية» التي تقوم البلديات فيها بما يقوم به الأفراد، مستقلة في ذلك عن الحكومة.
ولنلقِ نظرة الآن على الحياة الاجتماعية كما تخيلها بلامي، فنحن نجد في «طوباه» طائفة كبيرة جدًّا من المتقاعدين الذين يعيشون عيشة الترفيه، ويجوبون آفاق العالم بفضل المعاش الكبير الذي يتناولونه، أو يمارسون إحدى الصناعات التي يهوونها أو إحدى الرياضات، وهنا يعنى بلامي عناية كبيرة بالرياضة؛ إذ يقول: «إذا كان الخبز أول حاجات الحياة، فإن الرياضة هي الحاجة الثانية.»
ونجد طائفة كبيرة أخرى هي «جيش العمال» الذي يقضي فيه الفرد ٢٤ عامًا وهو مرغم على العمل إرغامًا إذا تهاون فيه عوقب، وهذا في اعتقادنا ركن متداعٍ من بناء الهيئة الاجتماعية عند بلامي، فإن المدة أطول من أن يتحملها إنسان بالرضى.
ولكل عائلة مسكنها، ولكنها في غنى عن الطبخ؛ لأن لكل طائفة أو جزء من حي من المدينة، مطعم كبير فيه غرفة خاصة بكل عائلة، وفي المنزل أداة التليفون التي لا تستعمل للتخاطب فقط، بل لسماع الأغاني؛ لأن لها بوقًا يضخم الصوت فتقعد العائلة في ساعة معينة وتستمع لخطب الوعاظ والساسة وأناشيد المغنِّين، وقد لمح بلامي شيئًا من الراديو الذي يستعمل الآن في كل مكان في أوروبا عندما خطر بباله هذا الخاطر.