ثلاثة من الإنجليز
كلنا يعرف ذلك الشاعر الألماني الجسم الفرنسي الذهن «هنريخ هينه» كيف حكى عن نفسه أنه بدأ بالتحمس للديمقراطية، واندفع للدفاع عنها، حتى إذا رأى أن الديمقراطية هي حكم الدهماء أو العامة عاد فانكف عن دفاعه وتقلص في نفسه واعتاض من حماسته السابقة فتورًا أو خوفًا.
ولقد كان القرن الماضي عصر ظهور الديمقراطيات، وهو أيضًا عصر فشل هذه الديمقراطية، فقد كان الظن أولًا أنه إذا صار الحكم للأمة انتفى الاستبداد وزال الظلم، ولكن ظهر من تجارب هذا القرن أن كثرة الأمة إذا استوفت تبعات الحكم لم تضطلع دائمًا بها؛ لهذا جنح أبناء القرن العشرين إلى التفكير في إيجاد «آلهة» للحكم، ولن تنزل هذه الآلهة من السماء، وإنما هي تستولد من الإنسان، على نحو ما حلم أفلاطون بإيجاد طبقة من الحكام تقف نفسها على النظر في مصالح المدينة دون أن تحتاج إلى المبالاة بمصالحها، ودون أن يكون لأفرادها عائلات أو عقارات تشغلهم.
وكما كان القرن الماضي عصر الجمهوريات، كان أيضًا عصر ظهور نظرية التطور التي أخذت منذ منتصفه تملك على العقول مسالك التفكير، وتصبغ النظريات والأحلام والترسيمات العمرانية بصبغتها، وهذه النظرية تتلخص من الوجهة العمرانية في أنه يمكن أن يرتقي الإنسان حتى يصير إلهًا، أو سبرمانًا، كما ارتقى الإنسان في الماضي من حيوانات أدنى منه، وهذه النظرية — من حيث عدد الداعين إليها، وإشراب النفوس بها — إنجليزية؛ ولذلك ليس ما يدعو إلى أن نستغرب أن ثلاثة من كبار مفكري الإنجليز قد حلموا بإيجاد انتخاب صناعي يؤدي إلى وجود طبقة راقية من الناس، ولا يكون رقيها مع ذلك رقيًّا في أحوال الوسط الذي تعيش فيه هذه الطبقة، بل يكون في أجسامها وأذهانها.
ولكن قبل أن نصف «طوبى» كلٍّ من ولز وهدسون، يجب أن نلقي نظرة سريعة على طوبى أخرى من الطوبيات التي تولدت من القرن التاسع عشر، نعني بها طوبى «موريس»؛ لأنها أشبه بالقرن التاسع عشر منها بالقرن العشرين، وقد كان موريس اشتراكيًّا تمذهب بهذا المذهب لبواعث فنية؛ فإنه وجد أن النظام الاقتصادي الحاضر — بما فيه من مزاحمة شديدة — يبعث الصانع على أن يصنع أرذل المصنوعات وأسخفها لكي يروجها في السوق، وأن صاحب العمل يستغل عماله إلى أقصى حد، فيعملون ساعات طويلة ويتناولون أجورًا قليلة؛ ويعيشون لذلك أضنك عيشة وأزراها. وكان هو نفسه سري الذوق عصامي النزعة يلبس القميص الحريري ويصنع التزاويق المذهبة والحروف الملمعة لأغلفة الكتب، فكانت نزعته إلى الاشتراكية نزعة الرجل البار الذي زكت نفسه وسخت حتى يريد أن يرى في مدينته ما يراه في بيته من جمال ولمعة وسرور، ويجب أن يرى في سائر البشر ما يراه في نفسه من ثقافة وصحة، يلبسون ما يلبسه من حرير، ويعيشون في رفاهية بل في ترف، ومثل هذه النزعة تهيئ الذهن لترسيم الرؤى الجميلة لولا ما يشوب عقل الاشتراكي من القناعة بالاشتراكية والرضى بآلامها.
وهم لذلك يعملون بلا كدح؛ لأن حاجاتهم قد قلت حتى صار القليل من العمل يكفي لسدادها، وقد عادوا مع ميلهم إلى إتقان العمل إلى الصناعات اليدوية، وليس معنى هذا أنهم استغنوا عن الآلات، ولكنهم عرفوا أن القماش المنسوج باليد على مهل خير من ذلك المنسوج بالآلة؛ إذ هو أمتن وعليه من شخصية صانعه طابع خاص، وقل مثل ذلك في عدد كبير آخر من الصناعات، ثم إن الصانع الذي يعمل سلعة ما بيديه، يشرع فيها من البداية، ويتم أجزاءها قطعة بعد قطعة حتى تتم، يرى في عمله من اللذة ما ترى الأم في تربية ابنها، أو ما يرى المؤلف في تأليف كتاب، أي إنه يشعر في نفسه بلذة الخالق للشيء الجديد، بخلاف ما نرى في مصانعنا الكبرى الآن؛ حيث يختص عامل بجزء من العمل لا يتعداه، يصنعه مكرهًا، ولا يقبل عليه إلا بمقدار ما يجذبه الأجر.
ثم إن السذاجة التي اقتضت الرجوع إلى الصناعات اليدوية، وإلى تقليل الحاجات قد اقتضت أيضًا إلغاء المدن الكبيرة والاستغناء عن المركبات والقاطرات العظيمة؛ لأن كل بلدة تستنفذ مما تنتج كل ما تحتاج إليه، ولم يبقَ من أطلال لندن العظيمة سوى بناء البرلمان الذي صار الآن مخزنًا لروث البهائم، والعامل قليل العمل ولكنه يشتغل بوحي الفن، فهو لا يصنع السلع للتجارة، ولكنه يتذوق ويجود فيها تجويد صاحب الفن الملهم، ونقول بعبارة أخرى: إن «توماس مور» تخيل مثله الأعلى في رجال كلهم عالم أو باحث أو طالب علم، أما «وليم موريس» فإنه تخيلهم رجال فن يقضون أكثر وقتهم في تجميل مدنهم، والتذوق في تشييد منازلهم وصنع تماثيلهم وتحفهم.
وليس في هذه الهيئة الاجتماعية حكومة سياسية أو إدارية من أي نوع كانت، وليس هناك قضاء، ولكن ليس معنى ذلك أنه ليس بين هؤلاء الناس من لا يغضب أو يحقد، ومن لا ينتهي به الغضب والحقد إلى ارتكاب الجرائم، ففيهم من يفعل ذلك ولكنه لا يعاقب بل يترك لضميره، وللعار الذي يلصق به أمام الرأي العام، الجرائم قليلة؛ لأن الخير وفير، فإنجلترا كلها ليس فيها سوى نحو خمسة ملايين نفس بدلًا من ثلاثين مليونًا يسكنونها الآن، وإذا قل السكان وكثرت الخيرات، انتفى شيء كثير من أسباب النزاع بين الناس، وعندئذٍ لا يحتاجون إلى الاستباق إلى المصانع الكبرى والتزاحم على الأعمال كما يجري بيننا الآن.
ويرى القارئ من هذه العجالة أن «موريس» يسرف في حسن الظن بالناس، وأن الشيوعية فيه تغلب على الاشتراكية، فهو لا يبالي بإيجاد قواعد للنظام، ولا يفكر في الحكومة، وعنده أن البلدة الصغيرة قادرة على إدارة جميع شئونها بنفسها، وإذا نحن فرضنا أن ذلك ممكن ما دامت البلدة صغيرة لا يزيد سكانها عن ألف أو ألفي نفس، فهل يمكن أن يدوم هذا العدد؟ كأن ليس بين النساء امرأة بلهاء تنسل كالأرانب بدون أن ترعى مصلحة الجماعة، أو كأن ليس بين البشر أدواء وافدة تحتاج إلى نظام يكاد يشبه في قسوته الأحكام العرفية، أو كأن ليس هناك نظام للتعليم أوفى من نظام آخر ويحتاج في تنفيذه إلى ما يشبه حكومة صغيرة؟
ولكن «موريس» رجل فن، يريد قبل كل شيء أن يرى الجمال والمتانة في المساكن والمصنوعات، وقد رأى من انتشار الآلات والمصانع الكبرى في القرن التاسع عشر ما أفسد عليه هذين الغرضين، فهو يكره القرن التاسع عشر بنزعته القوية إلى الاستفراد والمزاحمة، ويبغي ما يقابل هذين المبدأين فيميل بطبعه إلى الشيوعية، ويفرط في ميله إليها، واستحسانه لها بمقدار إفراط الناس في ذلك القرن في إكبار شأن الاستفراد.
ثم لننظر الآن إلى «هدسون»، ونحن في انتقالنا من موريس إلى هدسون نقفز قفزة كبيرة، فإن موريس من الأرض، عادي التفكير، قد تكون اشتراكية روسيا الحاضرة بعد تحوير طفيف شبيهة بحلمه، ولا بد أن كتابه يعد الآن فيها من الأناجيل المقدسة، أما هدسون فإنه في السماء يتخطى بنا آلاف السنين، فالقرن التاسع عشر أقرب من أن يلتفت إليه موريس، والاشتراكية أتفه من أن تشغله، فهو ينظر إلى تطور الإنسان من الحيوان في الماضي، ويود أن يستولد من هذا الإنسان آلهة جديدة.
والوحدة الاجتماعية لهذه الرؤيا هي بيت قروي كبير مؤلف من عشرات الغرف؛ ولهذا البيت تاريخه القديم وآدابه وفنونه، كأنه دولة صغيرة، وله أيضًا شرائعه التي يتبعها سكانه ويسهر على تنفيذها «أبو البيت» الأكبر وهو الذي يحكم بعزل أحد الأفراد مثلًا لجريمة ما. وحول هذا البيت مزرعته، وله كلابه وخيوله التي تطورت فصارت تتفاهم مع الإنسان وتؤدي غرضه بأيسر إشارة، وهم يعيشون في هذا البيت كلٌّ منهم في غرفته، ولكنهم لا يعرفون الزواج، وهم يقضون الشهوة الجنسية قضاءً عقيمًا غير مثمر؛ لأن وظيفة الإثمار خاصة بامرأة واحدة هي «يعسوب البيت» على نحوه ما نرى في كوارة النحل حيث تحتكر الملكة، أو يعسوب النحل، وظيفة التناسل فيكون أبناء الجيل الجديد لها دون غيرها، فإذا قرر أفراد البيت انتقاء «الأم» عمدوا إلى إحدى فتياتهم فيضعونها في مكتبة خاصة، حيث تعرف من الأشياء والأسرار ما لا يجوز أن يقف عليه غيرها من السكان، ونحن نفهم بذلك أن السكان يختارونها لصفات وسمات بارزة فيها لا تُرى في غيرها، وأن الأسرار التي تعرفها في المكتبة خاصة بقداسة وظيفة التناسل، وأنها يجب أن تنتقي أفضل الرجال ليكونوا آلهة للجيل القادم، وأن الكتب التي تقرؤها تخبرها عن صفات الفضل والنبل التي يجب أن تتوافر في الرجل حتى يحوز شرف الأبوة لأحد أفراد الجيل الآتي، وليس في هذه الكوارة الآدمية من له حرمة هذه الأم؛ فهي تعيش بين إكرام الجميع لا مرد لكلمتها، وهي تقضي حياتها في التناسل فتنجب للبيت نحو ٣٠ أو ٤٠ طفلًا في حياتها، حتى إذا ماتت اختير غيرها لتأدية عملها. وهكذا يسير البيت، أو هذه العائلة الكبيرة، جيلًا بعد جيل؛ فتحذف منه الصفات السيئة وتنتقي وتخلد الصفات الحسنة؛ لأن الأم قد درست موضوع التناسل والوراثة، وعرفت أن واجبها أن ترفع بيتها درجة في سلم التطور، فكل من به نقص في الخيال أو الذكاء أو الصحة أو الأخلاق لا يكون له حظ الأبوة، وإن كان له من النساء الأخريات ما يشبع فيهن شهوة جسدية عقيمة، ونفهم من هذا النظام أن سكان البيت قد لا يزيدون عن ٨٠ أو١٠٠ شخص، ولكنهم دويلة صغيرة فيها من يختص بالعلوم أو الزراعة أو الفنون أو الصناعات الأخرى.
وليس في هذا النظام ما يخالف الطبيعة البشرية كما يتوهم القارئ لأول وهلة، فإن «العائلة» لا تزال موجودة بوجود الأم التي هي صلة القرابة بين جميع السكان، ثم إن الأبناء لا يعرفون لهم أبًا معينًا؛ فالمنفعة الشخصية والأثرة الأبوية منتفية؛ وبذلك ينتفي التنازع بين أفراد البيت، ثم إن الشهوة الجنسية غير مقيدة؛ لأن لجميع الأفراد أن يتمتعوا بها بشرط ألا تعقب نسلًا، وقد عرف الإنسان نوعًا من الزواج يدعى «الضمد» كان العرب يمارسونه في آسيا، حيث يتزوج ثلاثة أو أربعة من الرجال (يكونون في العادة إخوة) امرأة واحدة وينسب الأولاد للأخ الأكبر.
•••
ولنلقِ الآن نظرة عاجلة على طوبى «ولز»، وهي أحدث الطوبيات إذ نشرت سنة ١٩٠٦، ولسنا ننسى طوبى أخرى أحدث منها عهدًا وضعها «برنارد شو» في قالب درامة، ولكنها لهذا السبب تستعصي على التخليص، و«ولز» كاتب طوبوي كثير الأخيلة والأحلام، لا يخلو كتاب له من مثل أعلى ينشده ثم يتخيله، ثم يأخذ في تفصيله وبسط ما جل فيه وما دق كأنه يصف شيئًا محسوسًا.
وهو يتخيل طوباه في عالم مثل عالمنا، ولكنه ليس منقسمًا أممًا وطوائف تتنازع للتوسع والاستعمار؛ إذ هو أمة واحدة لها حضارة واحدة تدير سككها الحديدية ويريدها إدارة عامة وتجري عليها شرائع عامة؛ ولهذا العالم تاريخ يشبه تاريخ الأرض، ولكنه انتهى بثورة أو ثورات أحدثت هذا النظام الجديد، ومحت الحدود بين الأقطار القديمة، والسكان يستعملون الآلات إلى أقصى حد، وهم في فنونهم لا ينظرون للوراء، فلست تجد في المباني طرازًا ينحو قديمًا أو يومئ إلى حضارة بائدة، والأرض وسائر مصادر الثورة ملك شائع للجميع تستغله الهيئات المحلية دون الأفراد، ومن أهم ما يتسم به سكان هذا العالم أن لكل فرد سجلًّا يحتوي على اسمه ورقمه وطابع أصبعه وأسماء الأماكن التي تنقل فيها، والغرض من هذا السجل درس أحوال الفرد وكفاياته في الحياة وفي الوراثة؛ لأنها تستعمل بعد موته.
وينقسم الناس في هذا العالم أربع طبقات، وهم الطبقة العاملة الذين يتولون الإدارة والحكم، والطبقة الشعرية وتتألف من رجال الذهن الذين يحترفون التفكير والتخيل، ثم طبقة البلداء الذين يقومون بالأعمال الوضيعة، والرابعة هي طبقة المنحطين من مجرمين ومدمنين ونحو ذلك. وهؤلاء يحذفون إلى جزيرة خاصة منفردة حيث يعيشون ويمارسون رذائلهم كما تشتهي نفوسهم بعيدين عن سائر الناس، وهم إنما يبقون ويتناسلون بمقدار ما فيهم من خير، وإلا فمصيرهم إلى الفناء؛ وذلك لأن الرذيلة إذا مورست قتلت صاحبها، فهي بالنسبة للجماعة داء ودواء معًا لأنها تنفي عنها صاحبها.
ولكن فوق هذه الطبقات الأربع طائفة أخرى تقوم بالتعليم والإصلاح وتحرس نظام العالم، تشبه طبقة أفلاطون المؤلفة من الحكماء، وهذه الطائفة تدعى طائفة السامراء، والسامرائي يُختار بعد اختبار طويل تُفحص فيه قواه العقلية والجسمية من شباب العالم الذي جاز الخامسة والعشرين، فيُفرض عليه نظام في اللباس والطعام والرياضة. وفي كل عام يخرج السامرائي إلى الغابة، لا يحمل كتابًا أو سلاحًا أو قلمًا أو نقودًا، وعليه أن يقتات من الغابة ويتأمل في خلوتها وقد حُرم جميع المتع الدنيوية، ثم يعود بعد ذلك إلى الدنيا وقد اكتسب من الطبيعة متانة في الخلق وعافية في الجسم ونظرة أوسع لمصالح العالم، وهؤلاء السامراء يُسمع لكلامهم، وتُنفذ إرادتهم، لا تخالفهم طبقة من الطبقات الأربع، وهم أشبه شيء في نظامهم بطائفة اليسوعيين، فكما أن هؤلاء قد ضحوا بملاذ الدنيا، وارتضوا النسك خدمة للمسيحية في عالمنا، فكذلك يدخل السامرائي في طائفة مضحيًا بكل شيء في العالم، يتفرغ لإصلاحه ودرس أمثل الوجوه التي ينبغي أن تسير عليها إدارته، سواء أكانت في جامعة أو عائلة.
وليس في هذا المقترح شيء غريب؛ لأنه إذا كان في الدين من القوة ما يحث طائفة من الناس على أن تقبل النسك والاعتكاف في دير قصي، تتعبد فيه ولا تفكر في ولد يخلفها ميراث أو تعقبه له، فليس من الكثير على أبناء القرن العشرين أن تتألف بينهم «رهبانية» يكون غرضها خدمة الإنسان بدلًا من خدمة الآلهة.